الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«على ضفاف النيل» يدخل «مختار» ساحة القضاء البريطانى

«على ضفاف النيل» يدخل «مختار» ساحة القضاء البريطانى
«على ضفاف النيل» يدخل «مختار» ساحة القضاء البريطانى




كتبت - سوزى شكرى


منذ بداية طرح الأعمال الفنية المصرية سواء النحتية أو التشكيلية فى قاعات المزادات العالمية الشهيرة ويثار بين الحين والحين جدل وتشكيك حول أصالة العمل الفنى المطروح فى المزاد، والعديد من الأعمال الفنية يتم سحبها بعد الإعلان عن طرحها فى المزاد ليتضح أن الأعمال المسحوبة تدور حولها أقاويل كثيرة، تؤثر سلبا على مصداقية قاعة المزادات التى من المفترض أنها تتأكد من أصالة الأعمال قبل طرحها، ولكن الأثر الأكثر خطورة ويسىء لسمعة وشهرة قاعة المزاد وقد يؤدى إلى تراجع عملائها من حضور مزاداتها، هو أن يتقدم مقتنى أحد الأعمال إلى ساحة القضاء مطالبًا بحقه كاملًا بعد أن يتبين وقوع خطأ تاريخى فى كتالوج المزاد.
وهذا ما حدث بالفعل فى قاعة مزاد «سوثبى» – لندن، حيث كانت طرحت فى مزاد 20 أبريل 2016 – تمثال «على ضفاف النيل» لرائد النحت المصرى المثال «محمود مختار» (1891- 1934)، هو تمثال برونز – ارتفاعه 119 سم- يعبر عن امرأة تحمل جرة ماء على رأسها، واقتناه الشيخ «سلطان سعود القاسمى» مؤسس «بارجيل للفنون بالشارقة» بقيمة 725 ألف جنيه إسترلينى وهو ما يعادل حاليا 18 مليون جنيه مصرى، وطبقا لصحيفة الدعوى التى أقامها محامو «القاسمى» أنه اعتمد فى الاقتناء على خبرة دار «سوثبى» إلا أنه طالب بعد عملية الشراء تأكيد من تاريخ الصب من مسبك «Susse Freres» باريس- الموجود علامته على التمثال.
ولكن ما فائدة التأكيد من أصالة العمل الفنى بعد انتهاء عملية الشراء، من المفترض أن تتأكد أولاَ قاعة «سوثبى» من العمل الفنى قبل طرحه فى المزاد العلنى، وليس بعد عملية الشراء يطلب المقتنى التأكد.
وبحسب ما جاء فى صحفية «التليجراف» البريطانية أن قاعة «سوثبى» بلندن متورطة فى نزاع قضائى حول تاريخ صب تمثال «محمود مختار»، حيث أقام الشيخ سلطان سعود القاسمى، دعوى قضائية يطالب فيها قاعة «سوثبى» بدفع تعويض قيمته 725 ألف جنيه إسترلينى وهى القيمة الكاملة للتمثال، حيث اكتشف أن تاريخ صب التمثال يخالف ما ذكرته قاعة «سوثبى» بالكتالوج من أن التمثال تم صبه فى عشرينيات القرن الماضى، ولكن تبين أن التاريخ الحقيقى للصب هو فى الغالب عام 1939 أى بعد موت الفنان، وكما هو معروف القيمة المادية لتمثال تم صبه فى وجود الفنان أعلى من القيمة المادية لتمثال تم صبه بعد وفاته، كما صرح القاسمى: «أن سوثبى أهملت وخرقت العقد حين ذكرت معلومات مغلوطة عن التمثال فى الكتالوج الخاص بها».
ومن مصادرنا علمنا أنه تم فحص التمثال من جهات عديدة من المتخصصين وذلك بعد رفع «القاسمى» الدعوى القضائية ومطالبته بالفحص، وجاء فى تقرير مسبك Susse Freres المكون من عدة صفحات واستغرق شهرًا كاملاً، بأنه كان يجب على قاعة «سوثبى» أن تتأكد من أصالته العمل قبل طرحه للبيع، وذكر فى تقرير المسبك وبحسب ما هو مسجل فى سجلات المسبك أن تمثال على «ضفاف النيل» Au bord du nil ala shat elnil لمحمود مختار صب منه 6 نسخ ما بين عام 1931 إلى 1939 بنفس الارتفاع 119 سم، أربع نسخ تمت ما بين مايو وسبتمبر فى عام 1931، ونسخة واحدة دخلت مخزن البيع 10 يناير 1934، والنسخة السادسة 1939، والتى تم صبها بعد خمس سنوات من وفاة مختار، وأوضح المسبك أن النسخة السادسة كان لها أمر تشغيل بالصب بتاريخ 17 /1/1938، وتم الصب بتاريخ 20 /1/1939، دخل مخزن المبيعات بالمسبك بتاريخ 14/3/1939، وكما كشف التقرير أن العلامات على التمثال المباع فى مزاد «سوثبى» تدل على أنه النسخة السادسة، هذا التقرير حسم القضية واثبت ما ذكر فى كتالوج «سوثبى» يخالف تماما حقيقة التمثال.
ورغم كل محاولات قاعة «سوثبى» بالبحث عن حلول ودية بينها وبين مقتنى المنحوتة «القاسمى» إلا أنه لم يوافق على رد فارق المبلغ بين القيمة الحقيقية بعد التقرير وبين ما دفعه ويطالب برد المبلغ المدفوع كاملًا دون أى نقصان.
ولمعرفة ماهية الضوابط التى تحكم عملية صب التماثيل وشروط صبها طرحنا العديد من الأسئلة على ياسر عمر أمين- محامى وباحث فـى مجال الملكية الفكرية وقانون سوق الفن وصاحب إصدار «الجامع الياسر فى حق المؤلف وقانون سوق الفن فى مصر وفرنسا».
وأوضح أن النزاع المثار الآن أمام القضاء الإنجليزى بشأن تمثال محمود مختار يبرز لنا مدى أهمية «التنفيذ الشخصى» (تنفيذ العمل بيد الفنان ذاته) كمعيارٍ أساسى لتقرير أصالة التماثيل البرونزية، وضرورة معرفة ماهية الضوابط التى تحكم عملية صب التماثيل وشروط صبها بعد وفاة النحات، حتى يتسنى لنا الحكم الصائب باعتبار هذا التمثال عملًا أصليًا من عدمه، سوف أسردها فى نقاط:
■ شروط تكييف التمثال على اعتباره عملا أصليا
من المتعارف عليه فى قانون سوق الفن أن التماثيل البرونزية بعد وفاة النحات تخضع لضوابطٍ صارمة لتحديد مفهوم «البرونز الأصلى» من عدمه. وقد استقر القضاء المقارن على شروط ثلاثة يجب توافرها كى يمكن تكييف التمثال على اعتباره عملا أصليا وهى (1) يجب أن يكون التمثال المصبوب ذا طبعة محدودة بما لا يتجاوز الصب اثنتى عشرة نسخة مرقمة أشرف عليها النحات أو الورثة. (2) يجب أن تكون النُسخ المنفَّذة مطابقة تطابقًا تامًا للبروفات المسموح بها تلك التى أرادها الفنان لنفسه. 3) ضرورة وجود موديل أو نموذج (سواء من الجبس أو من الفخار) يكون النحات قد نفَّذه بنفسه.
■ الإشارات الواردة فى كتالوج بيع دار سوثبى وإشكالية تمثال محمود مختار
جدير بالذكر أن إشكالية صب التماثيل بعد وفاة النحات مرتبطة بصلة وثيقة بإشكالية أخرى تتعلق بقصور الإشارات الواردة فى كتالوج البيع المصاحبة لوصف التماثيل والمحرَّرة من قبل المسئول بدار المزادات أو عدم صحتها وتداعيات ذلك أمام القضاء.
إذ من المستقر عليه فى القضاء الفرنسى أن اسم العمل الفنى (تمثال محمود مختار) عندما يكون متبوعًا فقط ومباشرة بالإشارة إلى فترة تاريخية (Cast in circa 1920s.) فى كتالوج البيع بالمزادات، فإن هذا يضمن للمشترى أن العمل قد تم إنتاجه فعليًا خلال الفترة المشار إليها لا غيرها. ونظرًا لأن الإشارة إلى الفترة التاريخية فى كتالوج بيع سوثبي - فى الإشكالية المطروحة أمامنا-جاءت بدون تحفظ صريح، فهى إذن تعوذها الدقة والصحة، وهو أمر يعيب فى كل من: الصفات الجوهرية للتمثال المبيع وإرادة المشترى، وعليه فإن القانون الإنجليزى يمكِّنه من المطالبة بإبطال البيع لوقوع غلط فى الصفة الجوهرية المتخلَّفة، ألا وهى أن التمثال المباع قد صُبَّ يقينيًا بعد وفاة النحات فى عام 1939 تقريبًا، أى بعد مرور قرابة سنوات خمسة على وفاته فى عام 1934.
■ آليات القانون الإنجليزى وتمثال محمود مختار
ومن الـمُلاحظ أن القانون الإنجليزى يتيح آليات للتصدى للغلط المؤثر فى صحة البيع ألا وهو مفهوم  «التحريف» أو «تضليل الحقائق» الذى يعتمد على تصور كاذب للواقع يؤدى بالشخص إلى إبرام تصرف ما كان ليبرمه لو تبين حقيقة هذا الواقع، التحريفات أو التصريحات المغلوطة من المتعاقد الآخر. ولنا أن ندرك مدى أهمية مفهوم التحريف فى المنازعات التى تتمخض عن عدم كفاية (أو قصور) الإشارات الواردة فى كتالوج بيع دار سوثبى، والتى قد أدت بدورها إلى اعتقادٍ خاطئ للمقتني. فالتحريف وقع فى هذه الحالة نتيجة لوصف مخالف للحقائق الواقعية التى تحيط تكوين البيع أو محل العقد – وكذا تقرير الحالة المصاحب للتمثال المباع – والذى أكد فيه الكتالوج أن التمثال قد أبدع فى فترة محددة أثناء حياة النحات، وعليه فإن المقتنى من حقه يطالب بإبطال البيع طبقًا للقانون، لا سيما وأن تنفيذ التمثال حال حياة النحات كان عنصرًا حاسمًا وحاكمًا لاختياره.
■ معايير تقدير قيمة وصحة التماثيل البرونزية والصفات الجوهرية
إن تقدير الصفة الجوهرية للعمل الفنى يكتنف تطبيقها بعض الصعوبات، لا سيما إذا ما تعلَّق الأمر بتقدير صحة التماثيل البرونزية المصبوبة بعد وفاة النحات، ذلك لأنها تكشف لنا عن الطابع النسبى الذى يكمن فى معيار التنفيذ الشخصى للنحات بما قد يؤدى فى حد ذاته إلى التشكيك فى صحة التمثال (مثال ذلك عدم تدخل النحات بشخصه فى إبداع وتنفيذه منحوتته، أو أن يكون العمل نُفِّذ فى حقبةٍ محددةٍ من التاريخ، ...إلخ). ولا شك أن صب التمثال أثناء حياة النحات يعد من الصفات الجوهرية التى دائمًا ما يبحث عنها المشترى فى العمل الفنى، حيث إن هذه الصفة وغيرها من الصفات تُميّز التماثيل وتضفى عليها قيمة حقيقية.
وجدير بالذكر أن تحديد سعر التمثال محل النزاع يتوقف فى الواقع على بعض المعايير الرئيسة مثل المعايير الخاصة بالحقبة، أو بالفنان، أو بالمجال، تلك التى تساهم فى تقدير قيمة الأعمال الفنية، بل فى تقرير صحتها باعتبارها صفات جوهرية للعمل الفنى تدفع المقتنى إلى الارتضاء بالتعاقد ومنها: (الندرة بالنسبة لفن النحت: عمل فريد أو متعدد أو طبعات أصلية أو نشر حال حياة الفنان أو بعد الوفاة، وكذا تاريخ التنفيذ، وطبيعة العمل، وتحديد هوية مؤلِّف العمل، وشهرة مؤلِّفه وحالته...). لذا فإن تمثال محمود مختار على حالته هذه وبعدما فَقَدَ أهم عوامل تقدير قيمته، ما كان له أن يباع بمثل هذا الثمن المبالغ فيه وهو 725 ألف جنيه إسترليني.