الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المفكر الجزائرى محمد شوقى الزين فى حوار خاص لـ«روزاليوسف»: الفقه الإسلامى أصبح آله بلا روح

المفكر الجزائرى محمد شوقى الزين فى حوار خاص لـ«روزاليوسف»: الفقه الإسلامى أصبح آله بلا روح
المفكر الجزائرى محمد شوقى الزين فى حوار خاص لـ«روزاليوسف»: الفقه الإسلامى أصبح آله بلا روح




حوار: محمد شعبان

 شدد المفكر والأكاديمى الجزائرى البارز محمد شوقى الزين على ضرورة توافر الشروط المادية والفكرية المجتمعية لتجديد الخطاب الدينى مؤكدا:  تجديد الخطاب الدينى لا مكان له فى مجتمع يحيا أزمات الهووية والمعيشية.
وأوضح الزين أن التجديد يقوم على أمرين: التعرية والتبرية.. الأول: يعنى عزل طبقات الفكر الدينى لمعرفة كيف تركبت وتراكمت لتكون عملية التجديد موفقة.. أما التبرية  فتعنى: إضفاء شكل جديد، صورة أصيلة.
وأرجع ظهور داعش لأمرين: التراث الفقهى المتركب بشكل جيولوجى والمتصلّب بشكل عملى، فضلا عن كون داعش رد فعل عنيف على العلاقة المحمومة بين الغرب والعالم الإسلامى وإلى نص الحوار:

 

أولا: شاع أخيرا مصطلح «تجديد الخطاب الدينى» هل ترون فارقا جوهريا بين هذا المصطلح ومصطلحات أخرى كانت تستخدم فى فترات سابقة مثل «قراءة التراث» و«الاصلاح الدينى» و«الاجتهاد»؟
يمكن الحديث عن معركة المفاهيم أو ربما عن صراع المصطلحات.
شخصياً لا أرى أى اختلاف بين التجديد والإصلاح والاجتهاد سوى أن هذه المصطلحات تتوزع على فاعلين لهم معجم خاص: تميل بعض حركات الإسلام السياسى إلى الأخذ بالإصلاح وأخرى بالتجديد وبالاجتهاد.
لكن لم نر حتى الآن خريطة العمل وآليات الاشتغال، سوى كون الدعوات أيديولوجية أكثر منها معرفية، تميل إلى الدفاع والنفاح منه إلى إرادة البحث والفهم.
إذا قدمتُ صورة استعارية عن هذه المصطلحات أقول إن الإصلاح أقرب إلى تصليح آلة معطوبة لتواصل العمل بالميكانزمات نفسها دون تفكيك هذه الآلة وتجديد قطع الغيار وقنوات التوصيل أو الإيصال.
نجد أنفسنا فى الإصلاح أقرب إلى الدوران على الرحى منه إلى استكشاف أقاليم وقارات جديدة من الفكر والفعل البشريين، وعلى وجه التحديد فى السياق العربى الإسلامي.
الاجتهاد يقتضى الجُهد، أى بذل الوُسع فى سبيل التفكير فى الظاهرة الدينية ومحاولة مواكبتها تداولياً مع العصر الراهن بتصريف أشكال تمظهر هذه الظاهرة الدينية، وتأويل مقتضياتها بين الأصول العتيدة والآفاق الواسعة.
هل أفلح الاجتهاد فى الاضطلاع بهذه المهام أم فشل؟ هذا شأن آخر.
أما التجديد فهو يتطلب إلباس الظاهرة الدينية ثوباً جديداً، بتجديد العقل الدينى فى طبعة جديدة منقحة ومزيدة، بعض المحاولات الأكثر جرأة، مثل محاولات محمد أركون وصادق جلال ونصر حامد أبو زيد مثلاً، تذهب إلى أبعد من التجديد فى طبعة جديدة، تذهب بلا مواربة نحو نقد العقل، بالكشف عن المعوقات الذاتية فى شكل كسل أو تعطُل أو تحجُر وعن العوائق البرانية فى شكل مشاحنات ومشاجرات بين الأطياف الفكرية والطوائف المذهبية.
ثانيا: ما هو تصوركم التفصيلى لما يجب ان يكون عليه «تجديد الخطاب الدينى»  من حيث الأسس الفكرية؟ وما هى الأمور الملحة التى يجب أن يشتبك معها هذا التجديد؟
 إذا أخذنا بالتجديد سؤالاً بينياً، بين الإصلاح الرتيب والسلبى والنقد الفاعل والإيجابى، يمكن القول بأن تجديد الخطاب الدينى فى طبعة جديدة ومنقحة من شأنه أن يقوم بالتعرية قبل التبرية، إنه أكثر من مجرد الإصلاح وإنه التمهيد نحو النقد. ما هذا الذى أسميه بالتعرية وبالتبرية؟ التعرية أولاً ذات دلالات جيولوجية فى عزل الطبقات عن بعضها بعضاً، فيتم عزل طبقات الفكر الدينى لمعرفة كيف تركبت وتراكمت لتكون عملية التجديد موفقة، أى عملية نزع الجلدة القديمة وإضفاء جلدة جديدة أو لباس متجدد.
التبرية ثانياً ذات دلالات طبيعية فى تقليم الأشجار والنبات، وثقافية فى إبراء الطبع والسلوك والتصور.
ما يُعريه التجديد بعزل الطبقات، يُبريه أيضاً بإضفاء الشكل على الظاهرة الدينية المراد فهمها.
يمكن القول بأن التجديد، بعد نزع الثوب النظرى القديم، يقوم بتصوير ثوب جديد تأخذه الظاهرة الدينية، أى بإضفاء شكل جديد، صورة أصيلة، تقول عُمق انخراط هذه الظاهرة فى الوعى الجمعى وفى نظام العالم، وأخص بالذكر حالة العالم العربى الإسلامى.
ثالثا: هل تعتقدون أن خلق مجتمع صناعى متطور فى عالمنا العربى كفيل بتجديد الخطاب الدينى دون اجتهادات فكرية كما حدث مثلا فى ماليزيا وإندونسيا لأنها تخضع لنفس الموروث «الديني-الثقافى»؟
لا شك فى ذلك. لا يمكن تجديد الخطاب الدينى ما لم يكن هنالك تقدم فى الحضارة، على جميع المستويات المعرفية والسياسية والاقتصادية والصناعية.
لا يمكن تجديد الخطاب الدينى فى ظل عوز نظرى وعملى، أى فى غياب الشروط الفكرية والمادية التى تجعل ممكناً هذه الإرادة فى التجديد.
لقد فقه مالك بن نبى المسألة جيداً، وإن كان البُعد الأيديولوجى قد غلب فى محاولاته النظرية على البُعد المعرفى.
حاول تقديم رؤى فى المسألة، لكن «أسلمة» المعرفة والاقتصاد كان عائقاً فى فقه المسألة من وجهة نظر فينومينولوجية بحتة، بعيداً عن التغليفات الأيديولوجية.
هذه مصيبة كل إسلام سياسى لا يُحسن أخذ مسافة ضرورية بالمقارنة مع كومة الاعتقادات والانفعالات التى تُغذيه وتُسيره، فلا يُحسن بالتالى ابتكار رؤية خالصة من العلائق الأيديولوجية والذاتية.
العامل الحضارى فى أبعاده التقنية والاقتصادية ذو أهمية بالغة فى وضع الأسس المبدئية لتجديد موعود، فقط لأن هذه الأبعاد تفتح أمام الوعى الجمعى آفاقاً واسعة من الانخراط فى العالم والتواصل مع الغير.
نختصر ونقول بأن تجديد الخطاب الدينى لا مكان له فى مجتمع يحيا الأزمات الهووية والمعيشية، والأمن القومى والاقتصادى من شأنه أن يجعل تحديات هذا التجديد أمراً ممكناً وقابلاً للإنجاز.
رابعا: لو سلمنا بفرضية أن عملية التجديد الدينى فى عصرنا الحديث بدأت مع الشيخ محمد عبده بحكم قراءتكم لواقعنا الحالى ما هى الأمور أو المسائل التى غابت عن رؤية محمد عبده التجديدية؟
كما أسلفتُ القول، كل رؤية لا تتخذ مسافة معرفية ضرورية بالمقارنة مع الموروث ومع الشُحنة العاطفية والتمثلية بالدين، فإن التجديد أو الإصلاح أو الاجتهاد هو اصطياد فى الفراغ أو ملء براميل دنائيد (فى الأسطورة العريقة «برميل دنائيد» tonneau de Danaïdes هو برميل أو دلو مثقوب، نعتقد أننا نملؤه، لكن السوائل الموضوعة فيه تذهب سُدى). مثلاً، فى العصر الوسيط المسيحى الذى ننعته بالعصر الظلامى ومحاكم التفتيش، كان العديد من القساوسة والكاردينالات علماء يهتمون بالرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والفلسفة والطب والأدب.
ما الذى يمنع والذى منع أيضاً أئمة من طراز محمد عبده والأفغانى والمودودى أن يهتموا بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وبالعلوم التقنية والطبيعية؟  لا يمكن التفكير فى تجديد الخطاب الدينى ما لم يكن هنالك اهتمام واسع بعلوم الإنسان والمجتمع.
انحصرت العلوم فى العلوم المسماة «الشرعية» من فقه وفتوى وتفسير وحديث، وتم إهمال طبيعة الموضوعات التى تُطبق عليها وهى الإنسان والمجتمع.
حتى وإن كانت هنالك بعض التوفيقات بين هذه العلوم الشرعية والمعيش البشرى تحت طائلة ما يُسمى بمقاصد الشريعة، فإن هذه الأخيرة لها دائماً الكلمة الأولى والأخيرة، وهى دائماً بمثابة سرير بروكست» (lit de Procuste) فى تقليم المعيش البشرى وجعله يتماشى وأهداف هذه المقاصد والعلوم الشرعية.
بتعبير آخر: على المتحول أن يخضع إلى الثابت، أما أن نتصور ثابتاً يتحرك ويتطور مع الزمن ليقوم بعملية نقدية لآلياته وأسسه المعرفية، هذا ما لم يخطر على بال المجددين الأوائل ومنهم محمد عبده.
لقد كانوا فى دائرة أن العلوم الشرعية كاملة وهى التى تُدبّر نقائص الإنسان، وأن الإنسان هو الذى يتأقلم معها، لم يخطر على بالهم أن تكون هذه العلوم قابلة للاكتمال عبر العصور والمجتمعات.
خامسا: كل حديث عن التجديد يقودنا حتما إلى الموقف من التراث.. بإيجاز شديد: ما هى الأسس التى ينبغى أن تكون حاضرة عند قراءتنا للتراث الفقهى والعقائدى واللغوى والأخلاقى ؟
الأسس الرئيسية لكل قراءة فى التراث يمكن تلخيصها فى النقاط التالية: 1-الإلمام التاريخى والفكرى بهذا التراث.
2-المسافة النقدية بوضع هذا التراث على محك الحكم العقلى بالنظر فى مبادئه وغاياته ونقد وسائله وخياراته بالمعنى الإيجابى والإجرائى لكلمة «نقد».
 3-النظر فى الموقع الذى نشغله بالمقارنة مع هذا التراث والموقف الذى نتخذه إزاءه باعتبار أن التراث هو الماضى الذى لا يزال يعتمل فى الحاضر، والحاضر هو زمن التجديد والقراءة بالأدوات المعرفية والنقدية المتاحة.
إذا أخذنا على سبيل المثال المجال الفقهى، نقول نعم هذا المجال هو سبب اغتراب المسلمين، لأن الفقه أضحى آلة بلا روح، ماكينة روبوتية فى الحساب والتقدير دون فهم تأويلى أو أنطولوجى للمسألة الإنسانية.
كانت مدرسة فرانكفورت قد انتقدت بشدة مآل العقل الآلى والذرائعى الذى يكتفى بالحساب والاستنباط والذى انعطفت عليه التقنية، مع أن الفقه يحمل فى حرفيته بالذات وفى مغزاه عُمق التدبُّر والتفكير، إلا أنه تحوَّل هو الآخر إلى «أرغانون» (Organon) آلى فى القياس والتقدير بأن تكون السلوكيات والتصوُّرات مطابقة لأبعاده وهياكله.
نعود دائماً إلى صورة «سرير بروكست» فى قطع دابر كل حركة أو فعل أو تصوُّر لا يُطابق أو لا يتلاءم مع أبعاده وأقيسته.
سادسا: ألا ترون أن تقديم نموذج محدد للتجديد يعنى عمليا استبعاد الرؤى التى لا تؤمن بهذا التصور ومن ثم تصبح عملية التجديد سلطة استبعادية لأطياف أو لتيار محدد فى المجتمع؟
عندما نقول التجديد فإننا نقصد بأننا نحتكم إلى طبعة جديدة من التصور والسلوك، وأن هذا ينطبق على جميع الإرادات والمذاهب والحساسيات.
لتفادى الأحكام الذاتية والاعتباطات الفردية، لا بد أن يحمل التجديد همًّا جمعياً، وعليه أن يكون موضوعياً، لأنه يعكس إرادة جماعية فى مجاوزة التحجُّر والتعطّل، والذهاب نحو الإبداع والابتكار والاجتهاد.
فى التجديد لا يتعلق الأمر أن نميّز بين فكرة وفكرة أخرى أو بين تيّار وتيّار آخر، لكن أن يكون هنالك اتفاق أو اشتراك مبدئى لا يرتقى ربما إلى الإجماع، لكنه يساعد على درء الافتراق أو الصراع، التجديد همَّة فردية وجماعية فى الذهاب نحو وضعية مُثلى من التعايش وابتكار أساليب جديدة فى فهم الموروث الدينى والثقافى، ولا يمكنه أن يكون احتداماً بين الأنانيات.
إذا لم يحصل الاتفاق الأدنى بين رواد التجديد، فإن هذا الأخير لا مجال لإنجازه. قد تكون هنالك فروقات فى التصور أو فى وجهات النظر، لكن هذه الاختلافات الشكلية لا يمكنها أن تصبح خلافات جوهرية.
سابعا: يرتبط الحديث بالتجديد فى هذه الأيام بالحديث عن داعش وأخواتها الذى يفجر مفارقة شبيهة بالمفارقات اليونانية القديمة وهى: إذا كانت داعش نتيجة حتمية للتراث الفقهى فلماذا لم تظهر سوى الآن ولم تظهر فى عصور سابقة؟
ينبغى الاعتراف بأن اللقاء بالآخر (الغرب فى هذه الحالة) ولّد نوعاً من الصدام. نرى الآخر بأنه عدوانى، استعمارى، توسّعى، فنفرّ إلى الذات بالتحصُّن بالهوية ورفض هذا الآخر.
ربما يلاحظ الشخص أن العلاقة بين المسلمين والغربيين اليوم عكسية وليست طردية: كلما اكتسب الغرب حقوقاً وحريات جديدة، كلما فعل العالم الإسلامى العكس بأن ينغمس إلى مزيد من القمع والكبح والانغلاق.
فهو يرى فى الغرب مصدر العدوان، فيتحصَّن بالدين ويحارب كل فكرة يرى فيها جانباً من السقوط الأخلاقى (حرية المرأة، حرية الأقليات مثل المثليين)، عندما يرى فيها الغرب جانباً من الارتقاء بالوعى وبالحقوق إلى مصاف العالمية، لا شك أننا أمام حوار الطرشان، لأن الغرب والعالم الإسلامى فى بُعدين مختلفين راديكالياً، ولم يُفلحا فى التواجُد على مستوى ما أسميه «التشاكل الحضارى».
يرفض العالم الإسلامى الغرب من وراء دعوى الانحلال الأخلاقى ويرفض الغرب العالم الإسلامى من وراء دعوى الغلوّ والتطرف الدينى والإرهاب.
قبل داعش، كانت هنالك فى التاريخ الإسلامى حركات عنيفة مثل القرامطة والحشاشين، وكانت تستلهم من الدين لتبرّر أفعالها.
إذا قلنا بأن التراث برىء من الحالة الداعشية، فإننا نتفق على أن التراث ليس شيئاً يمكن تطبيقه بحرفيته وبحذافيره.
إذا كانت داعش تقول بأنها لا تفعل سوى تطبيق الأحكام كما هو منصوص عليها فى القرآن، فإن هذه الأحكام لها بيئة خاصة ورؤية معينة للعالم لا يمكن إسقاطها على سياقات أخرى ورؤى أخرى من العالم؛ فقط لأن العقل البشرى يتطوّر، وعندما يتطوّر فهو يقضى بابتكار أساليب جديدة من الحكم تنتمى إلى ما سماه الألمان «روح الزمن» (Zeitgeist).
لا يمكن أن نطبّق التعاليم حرفياً مخافة تشويهها زمنياً.
يمكن أقلمتها وتأويلها تبعاً للارتقاء الكامن فى روح الزمن، لكن تطبيقها حرفياً هو أساساً قتلها.
هكذا قُتل أيضاً الدين المسيحى على يد المنتسبين إليه، لأن غباء التطبيق الحرفى للأحكام انجرّ عنه عصيان الوعى الداخل تحت روح زمن جديد، وهذا ما لم نفقهه بعدُ.
ثامنا: تظل علاقة الإسلام بالسياسة هى المشكلة الأبرز فى عالمنا العربى كيف يمكن التوفيق بين نصوص دينية تقدم رؤى سياسية عامة ومطالب عصرية ترفض قيام السياسة على أساس دينى؟
كما أشرتُ سابقاً، السياسة نظرية فى الفعل الذى يُبتكَر هنا والآن، فى سياق جغرافى محدد وفى إطار زمنى معيّن.  كل فعل لا ينبع من اللحظة الراهنة ومن الرؤية الخاصة للعالم، فهو مجرد محاكاة مشوّهة لأفعال أخرى، إنه فعل بالوكالة.
هذا ما ينبغى التفكير فيه الآن: متى وكيف نبتكر لذواتنا أفعالاً من وحى حاضرنا تكون لها القدرة والحصافة فى تشكيل نظرية سياسية تخص نظام انتمائنا إلى العالم؟ لا تقدم النصوص الدينية سوى إمكانات عامة، وتُشيد بالأفعال الماضية بوصفها أنموذج كل فعل (أفعال أنبياء أو أولياء أو حكماء)؛ لكن فى الحاضر، هنا والآن، لا نحيا وفق فعل نبى أو ولى أو حكيم، لكن نحيا وفق ما ننتجه «نحن» من أفعال، ما أنتجه «أنا» من فعل، لأنه فعلى أنا، فى هذا الظرف وهذا المكان، وما تنتجه «أنت» من فعل، لأنه فعلك أنت، فى هذا السياق وفى هذا الوقت.
إذا عجزنا عن تشكيل نظرية سياسية خاصة بنظام الحكم فى ديارنا، لأننا لا نزال نتصور الفعل البشرى على أنه محاكاة لأفعال أخرى، باحتذائها والسير وفقها؛ وهذا خطأ شنيع نتأخّر بموجبه بمئات السنين لتكوين نظريات سياسية واجتماعية خاصة بنا.
هذا لا يعنى طبعاً أننا نتنكر للماضى ولا نستفيد من تجاربه ومن أفعاله التأسيسية فى الفقه والحق والقانون والسياسة، لكن الاستفادة من تجارب ماضية شيء، والتقليد الأعمى إلى غاية إعدام الشخصية شىء آخر.
لذا من واجب الحياة العصرية فى السياسة والدين والأخلاق أن تبتكر شروط الفعل فى لحظتها الراهنة، أن تكون هى المشرّع لذاتها كما كان يقول إيمانويل كانط، أن تكون مصدر إلهامها وإنتاجها للأفكار وللأفعال.
لا يصلح أن نحاكى الأفعال الماضية ولا أفعال الآخرين، أى لا يصلح أن نقلد من ذهب إلى غير رجعة، ولا من هو الأقوى اليوم وعنيتُ الغرب.
تقتضى الحكمة أن يكون المعيش الذى نجابهه هو مصدر الإلهام والتشريع، مع الاستفادة طبعاً من التجارب الماضية من التراث العربى الإسلامى أو التجارب الحاضرة من الثقافة الغربية.
لكن لا هذا ولا ذاك هو المصدر الحقيقى لكل فعل خلاق.
الفعل الخلاق والمنتج للنظريات السياسية والاجتماعية هو الفعل المنبثق هنا والآن، هو الفعل الذى يتمُّ التنظير له فى السياق وفى الظرف، لأنه فعل أصيل، جديد، متجدد، وعنوان التجديد.

 

 v.c


  مفكر وأكاديمى جزائرى، حاصل على دكتوراه فى الدراسات العربية الإسلامية، تخصص فلسفة وتصوف، جامعة بروفونس.
حاصل على دكتوراه ثانية فى الفلسفة حول المفكر الفرنسى ميشال دوسارتو، جامعة آكس-مرسيليا.
من مؤلفاته: «تأويلات وتفكيكات» (2002)، «سياسة العقل» (2005)، «الثقاف فى الأزمنة العجاف» (2013). وله أيضا ترجمات، منها: «فلسفة التأويل» لـغادامير، و«ابتكار الحياة اليومى» لميشيل دوسارتو