الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

إنجى أفلاطون وتحية حليم وجاذبية سرى ... إبداع لن يرحل




ثلاث فنانات ينتمين إلى النصف الثانى من القرن العشرين، اجتمعن أخيرا فى أول لقاء تشكيلي، بعد رحيل اثنتين منهن، وهما الفنانة إنجى أفلاطون 1924- 1989، والفنانة تحية حليم 1919- 2003، والفنانة جاذبية سرى1925، اللاتى استضافت قاعة «بيكاسو» بالزمالك معرضهن الذى يضم مختارات نادرة لإعمالهن لم تعرض من قبل، تحت عنوان «إنجى وتحية وجاذبية».
 
يحمل المعرض العديد من الرسائل والقيم، يصعب حصرها، منها القيم الفنية والجمالية والأصالة الفكرية والخصوصية والتنوع الأسلوبى والاتجاه الفنى والمذهب وطرق المعالجة التشكيلية والموضوع الفنى ومنهجى التكوين الفنى والمجموعة اللونية، بالإضافة لما تحمله الأعمال من مزيج إبداعى مميز، وأيضا رسالة تبعثها الفنانات من خلال أعمالهن لكل الفنانين، مفادها أن الإبداع الأصيل لا يرحل برحيل الفنان، بل يتواصل ويسجل فى صفحات لتاريخ، بالاضافة إلى أن هذا المعرض يتيح للفنانين المعاصرين مشاهدة جزء مهم من مسيرة الحركة الفنية فى النصف الثانى من القرن العشرين، والاستفادة منها فى تواصل ونقل الخبرات للأجيال الجديدة.
 
يوجه المعرض أيضا رسالة تشكيلية وفنية وثقافية وتراثية وتاريخية إلى من يهاجمون الفن، توضح أن الفنان بجانب رسالة الفن يشارك ويساهم فى الحركات التحريرية فى الثورات، وكانت الفنانة الراحلة إنجى أفلاطون إحدى هؤلاء الفنانات اللاتى شاركن فى الحركة النسائية السياسية، وهى الفنانة المناضلة الارستقراطية اليسارية التى انتقلت من حياة الترف إلى عذاب السجن عندما تم اعتقالها وسجنت لمدة أربع سنوات، وفى سجن النساء بالقناطر رسمت العديد من الأعمال الفنية، عبرت فيها عن رأيها ومعارضتها للظلم بأدواتها الفنية، رسمت ملحمة مصر، وقضبان السجن الذى انعكس فى بعض اللوحات على ثياب الشخصيات، الخطوط العمودية المتصلة فى كل أعمالها تتقاطع وأكثرت من استخدام اللون الأبيض، الذى يمثل الأمل بكيانها، لأن جاء فى أعمال أخرى يسود الخلفية، وفى لوحات سيناء جعلت الجبال فى تناغم لونى إيقاعى.
 
إنجى أفلاطون تلميذة الفنان الطليعى كامل التلسماني، تعشق الريف والأرض الطيبة والصحارى والنجوع والواحات والدلتا وجنوب الوادي، وسيوة وسيناء، تميزت بصغر حجم لوحاتها ودقتها، وكانت ترفض بيع أعمالها وتفضل الاحتفاظ بها، وكان اتجاهها الفنى أقرب إلى الواقعية مع التأثيرية، تمتلك سر الخطوط والألوان، الخطوط ترسمها مكونة أشكالا غير محددة تشبه الفسيفساء، فالخط فى أعمالها حركة وحياة وصياغة وإحكام وتوافق مضمون قبل أن يكون شكلا فنيا، ضربات فرشاتها سريعة متلاحقة، تحمل طاقة نفسية وكأنها تخشى فقدان الإحساس اللحظى لانفعالاتها، تقترب أعمالها من أعمال «فان جوخ» التأثيرية، من حيث استخدام الضربات اللونية السريعة واستخدامها للون الأصفر والبرتقالى والأزرق الروحاني، لها «بالتة» لونية خاصة، أغلبية الأعمال لا تضم إلا الأزرق والأخضر والأحمر الداكن، ولكن ببراعة وكأنها تعرف أسرار الألوان، تختار فى لوحاتها وضع الشخصيات والبورترية فى أوجه متعددة ومن عدة زوايا، وحركات الأيدى فى كل الشخصيات فى لغة حوارية تحسها فى شكل الأيدى والأطراف فى كل شخصية، سيطر على أعمالها الشخصية المصرية الشعبية، وجهت الفنانة عاطفتها القوية إلى رسم كل ما هو قومى وشعبى لتصل منه إلى العالمية فى الفني.
 
أما الرائدة والفنانة الراحلة تحية حليم، فلها عالم خاص متفرد تشكل الألوان نغماً وإيقاعا، ترسم أحلامها وأحلام المتلقى لأعمالها، أطلق عليها لقب فنانة الواقعية الأسطورية فى صياغة عالم تصويرى صعب مقارنته بصياغة آخري، عاشقة للفنون بأنواعها عاشت فى أغلب فترات حياتها فى مرسمها بعيدة عن الضوضاء، لظروف خارجة عن إرادتها لم تتلق من التعليم الأكاديمى إلا القليل، إلا أن موهبتها فطرية وتلقائية فى التعبير وإحساسها مرهف، لها طابع مميز، وتركيبه فنية متماسكة، دائما ما تعقد فى لوحاتها لقاء فنياً بين الخطوط الطولية والعرضية، خلقت بهذا التنوع توازنات هندسية محسوبة، رغم حرية الخطوط وانطلاقها، فإنها جعلت فى أجزاء من اللوحة خطوط تنفصل لتعود لتلتقى فى فضاء العمل، تميز إنتاجها الفنى بموضوعات للمجتمع النوبى والطبيعية الريفية، تناولت العناصر بالتحريف والتبديل والمبالغة التى لا تفقد العنصر عمقه، أبدعت فى تعبيريتها مما جعل الأعمال تمتزج بمناخ نفسى يحمل نبضها ومشاعرها تستحوذ بها على المشاهد.
 
تستخدم تحية حليم الوقار والرصانة اللونية، ومفاهيم مصرية خاصة باستخدامها للون البنى الطيني، باعتباره لون الفخار وطمى النيل وتلال الجبال والوجوه السمراء والوادى وجدران البيوت التى جعلتها ملونة من نفس الخامة التى صنع منها بيوت النوبة والأقصر، مما ساعد على تجسيد رؤيتها للبيئة الطبيعية لمصر، والفن الفرعونى التى تتنفسه بين عناصرها، كما استخدمت اللون الذهبي، وهو لون الثراء نجده منتشرا فى لوحاتها بحكمة، أما اللون الأخضر هو لون الحياة الخضراء للطبيعة، وغالباً ما تمزجه باللون الأبيض لتنوع فى درجات الأخضر، وأيضا تستخدم الأسود دون أن تعطيه معنى الحزن أو الدراما، وهذا يعنى أنها استطاعت تغيير دلالة اللون الأسود المعتادة فى الأعمال الفنية.
 
أما الفنانة القديرة جاذبية سرى التى قامت بافتتاح هذا اللقاء، التى احتضنت شركاءها فى الحركة الفنية فى النصف الثانى من القرن العشرين والذين رحلوا «إنجى أفلاطون وتحية حليم» فهى بذلك قدمت نموذجاً مثالياً لرائدات الفن التشكيلى المصرى وإرثاء القيم الفنية والإنسانية والجمالية من خلال عرض أعمالهم فى معرض جماعي.
 
الفنانة جاذبية سرى تحالفت مع حركة التيار الثقافى لفترات تاريخية مر بها مصر، دائما ما تحلم بـ»الحلم القومي»، شاركت بأعمالها فى هذا الحلم، ذابت بفنها وقلبها فى شرايين المجتمع، وانصهرت مع تقاليده وعاداته وفنونه الشعبية المتأصلة فى الطبقات الفقيرة، وامتلأت بحياة الناس، واعتبرت البيئة الشعبية والطبيعة، وجود البيت الريفى البسيط فى أغلب أعمالها جعلته رمزا تعبر به عن كل المعانى والموضوعات، ونجده قد تحول فى بعض الأعمال إلى بيت هرمي، استطاعت أن توحد خيالها بجاذبية تعلم أسرارها وحدها، النيل فى أعمالها نابض وحى، متفردة بالأسلوب التعبيرى الإنساني، الذى تطور إلى أن أصبح ذا مذاق خاص يصل إلى حد التجريدية التعبيرية، لا تلتزم بالأساليب التقليدية ولا حتى بطريقة أداء واحد، تلخص وتبحث عن رموز وإيحاءات ودلالات فى الشكل واللون والتكوين والموضوع، اهتمت بموضوعات الصحراء والنيل والبحر والمدينة، تكويناتها مملوءة بالحركة واللون وتشكل بانوراما مصرية للفن الإنسانى وتنطلق بحرية من المألوف فى الواقع إلى الخيال الممزوج بهذا الواقع فى الموضوع وليس الواقع فى الشكل الفني، تتحكم فى التعبير بمعيار القيمة السيكولوجية الجمالية التى تتخطى الوصف من قوة شحنة الانفعالات بأعماقها، هذه الانفعالات جعلها تخرج كثيرا عن القوانين والقواعد التشكيلية، خضعت أعمالها للاشعور فانطلقت مع ذاتها وخصوصيتها الفنية، شخصياتها مليئة بالحركة، تتميز الألوان فى أعمالها بأنها لغة حوارية تديرها الفنانة بين اللون والعنصر والشكل.