الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أبو الاستقلال الأمريكى حبيس مع الجن فى قصر السلطانة

أبو الاستقلال الأمريكى حبيس مع الجن فى قصر السلطانة
أبو الاستقلال الأمريكى حبيس مع الجن فى قصر السلطانة




د. ياسر منجى

فى مقالَين سابقَين بجريدة «روزاليوسف»، نُشر أوَّلُهما بتاريخ 4 سبتمبر 2016، ونُشِر الثانى بتاريخ 12 يناير 2017، كنا قد استعرضنا خلاصةَ النتائج التى أسفر عنها بحثُنا حول خمسة تماثيل فريدة مجهولة، موجودٌ ما تبقّى منها بـ«قصر البارون إمبان» الشهير بمصر الجديدة. وقد ظهر مما يتضَمَّنه المقال الأول من أسانيد تاريخية ومصادر متحفية عالمية، ما تُمَثِّله هذه التماثيل الخمسة من ذخيرةٍ فنيةٍ ومتحفيةٍ، جديرةٍ بوضع «قصر البارون» على خارطة السياحة الثقافية والفنية، فيما لو تم تفعيل التوصيات التى اقترحناها على المسئولين فى ختام المقال. كما أمَطنا اللثام فى المقال الثانى، بالأسانيد الوثائقية، عن تمثالٍ سادسٍ مفقود، كان معروضاً فى مدخل القصر، ثم اختفى كلُّ أثرٍ له، ليظل لغزاً مُبهَماً، ولتذهب كل المعلومات المتعلقة به أدراج الرياح، قبل أن يُعاد كشف النقاب عن مرجعياتِه التاريخية والفنية فى مقالنا الثاني.

(يمكن الاطلاع على المقال الأول من خلال الرابط التالى):
http://www.rosaeveryday.com/Item.aspx?ItemID=177963
(كما يمكن الاطلاع على المقال الثانى من خلال الرابط التالي):
http://www.rosaeveryday.com/Item.aspx?ItemID=190357
ويبدو أن ضاحية مصر الجديدة (هليوبوليس)، التى أسَّسها البارون البلجيكى الفَذّ، لتكون سَكَناً ومُنتَجَعاً فائق البذَخ للصفوة من شخصيات عَصرِه، تأبى إلا أن تُوالى الهمسَ فى آذاننا، آناً بعد آن، وإلا أن تُفاجئنا المَرّة تلو الأخرى، بمَكنون عجائبها وأسرارها، لتُثبِت لنا كم فَرَّطنا فى حفظ كنوزٍ باتت تقاسى الإهمال والتجاهُل، بِرَغم ما تمثله من فرائد فنية وتاريخية عالمية، وما ارتبط بها من وقائع تاريخية، كانت خلالها شاهدةً على مُحَرّكيها من صُنّاع تاريخ مصر الحديث فى مطلع القرن المُنصَرِم.
فعلى مَقرَبةٍ من قصر البارون الفريد، وفى مواجَهَتِه مباشرةً، يقع قصرٌ لا يقل أهميةً - تاريخياً وفنياً - عنه، إن لم يَفُقهُ من حيث ارتباطِه بتحولات السياسة المصرية خلال العقد الثانى من القرن العشرين. ذاك هو قصر السلطان «حسين كامل» (1853 - 1917)، الذى اشتهر باسم «قصر السُلطانة مَلَك»؛ نِسبةً إلى «مَلَك طوران» (1869 - 1956)، الزوجة الثانية للسلطان «حسين»، بعد زوجَتِه الأميرة «عين الحياة».
وبرغم أن هذا القصر كان أفضل حظاً - نِسبياً - مِن قصر البارون؛ من حيث احتفاظِه بمعالِمِه الداخلية بدرجةٍ لا بأس بها، وما تشتمل عليه قاعاته وحجراتُه وأبهاؤه من عناصر زخرفية وفنية، إلا أنه قاسَى غير قليلٍ من سوء الحِفظ والتوظيف؛ إذ تحول بعد زمنٍ من وفاة «السلطانة ملك» إلى مدرسة «مصر الجديدة الثانوية للبنات»، قبل أن تنتقل المدرسة لاحقاً إلى مبنىً ملاصقٍ له، ومُتَصلٌ فناؤه بِحَرم القصر وحديقَتِه.
وعلى غرار الأساطير والخرافات، التى نَسَجَها الخيال الشعبى حول قصر البارون، ونَفَخ فى نارِها عددٌ كبير من هواة الغموض وعشاق الأماكن المهجورة ومُدمِنى الفانتازيا التاريخية، فقد نال «قصر مَلَك» نصيبَه من هذه الأساطير والخرافات، وتحديداً فيما يتعلق بقصة بنائِه وأسباب تشييدِه فى موقعِه ذاك.
تتواترُ قصةٌ طريفة، أو بالأحرى أسطورة، يتبَنّاها أغلب من أرّخوا لتاريخ هذا القصر - ومعهم زُمرة لا يُستهان بها مِمَّن كتبوا عن تاريخ ضاحية مصر الجديدة ومعالمها، معتمدين على النقل الجُزافى دون مراجعة أو تدقيق - وتحكى هذه الأسطورة كيف أن السلطان «حسين كامل» قد ذهب لحضور حفل افتتاح قصر البارون «إمبان»، لينبَهِر بجمالِه، فيطلب شراءَه من البارون. ثم تزيد الأسطورة من حرارة توابِلِها؛ حين تُقَرِّر أن البارون رفض طلب السلطان معتذراً، مما سبَّب غضب الأخير، فكاد أن يبطش به ويُجهِز على مشروعاتِه فى مصر! ثم تلجأ الأسطورة لحَلٍّ لا يخلو من نكهة وقائع المسرحيات الكلاسيكية؛ حين تُقَرِّر أن البارون اهتدى بدهائه إلى حيلة يُهَدّئ بها من غضب السلطان وحقدِه، فكان أن بنى له قصراً آخر أمام قصرِه عام 1911، وانتهى منه فى وقتٍ قياسى، ليُهديه إيّاه، فيُهديه السلطان بِدَورِه إلى زوجته الثانية المحبوبة، السلطانة «مَلَك».
غير أن هذه الأسطورة تتناسى - أو يتناسَى من اخترعوها، ومَن نقلوا عنهم - اعتبارَين مهمَين: أولهما أن «حسين كامل» لم يكُن بعدُ قد أصبح سلطاناً على مصر، خلال الفترة الواقعة بين بداية تشييد قصر البارون عام 1907، والانتهاء من بنائه عام 1911، بل كان وقتها أبعد ما يكون عن السُلطة؛ إذ كان مَن يعتلى كرسى الخديوية آنذاك هو «عباس حلمى الثاني»، ابن أخيه «توفيق». وكان على العم «حسين كامل» أن ينتظر قدوم عام 1914، ليعتلى عرش السلطنة المصرية لمدةٍ قصيرة، بعد إقصاء ابن أخيه المحبوب من الشعب، لتستغرق مُدّة سَلطَنَتِه أقل من ثلاث سنوات، انتهت بوفاتِه فى التاسع من أكتوبر عام 1917. وحتى خلال المُدة التى تَوَلّى فيها حُكم البلاد، قاسى «حسين كامل» تَبِعات كراهية صريحة من طوائف الوطنيين المصريين، تعرّض بسببِها لمحاولات اغتيال أكثر من مَرّة؛ بسبب تَوَلّيه الحُكم بتأييد الإنجليز، بعد عزل «عباس حلمى» ونَفيِه خارج البلاد.
لم تَكُن الفرصة سانحةً إذَن لـ«حسين كامل»، سواءٌ حين كان أميراً مشغولاً بشئون الزراعة والمال، أو بعد تَوَلّيه القصير القَلِق لحُكم البلاد، كى يتمتع بتَرَف الفراغ وهدوء البال، فيُصارِع رجُلاً داهية فى ثراء «إدوارد إمبان» واتصالاتِه وعلاقاتِه الدولية، على قصرٍ أعجَبَه، ولا أن يُضيفَ لملفات الكراهية والعداوة واضطراب عهدِه ملفاً جديداً، يعرّضه لنقمة الشريحة الفرانكوفونية المُتَنَفِّذة فى بلادِه وخارجها.
أما الاعتبار الثانى، الذى يكشفُ تهافُت هذه الأسطورة، فيتمثل فى الفارق الجِذرى بين تصميمَى القصرَين، قصر البارون بطرازِه المزيج من الطُرُز الكمبودية والهندية والأوربية، وقصر «مَلَك» بطرازِه الإسلامى المُستعاد، وهو فارقٌ يستحيل معه تصديق الأسطورة المزعومة. إذ لو صَح أن الأمير «حسين» - أو السلطان وفقاً للأسطورة - قد أُخِذَ بجمال قصر البارون وطَمِع فيه، لكان الأحرى بالبارون أن يستَرضيهِ بأن يستنسِخ له توأماً لهذا القصر، أو قصراً شبيهاً على نفس طرازِه على الأقل، لا أن يُلهيه بقصر يختلف شكلاً وطابعاً، وكأنه يُلهى طفلاً عن لُعبةٍ أعجبَته بقطعة من الحلوى.
المهم، دعكَ الآن من هذه الأسطورة - التى يحلو لبعض (خبراء) التأريخ والتوثيق ترديدها على مسامِع هواة أفلام القصور المسكونة بالأشباح - وتعالَ معى لوثائق التاريخ ومصادرِه، والتى تُخبرُنا أن المعمارى الفرنسى «ألكسندر مارسيل» (1860 - 1928) قد صَمَّمَ هذا القصر، بإيعازٍ من البارون إمبان، للأمير «حسين كامل» - السلطان حسين كامل لاحقاً - فيما بين عامَى 1908 و1909؛ أى خلال فترةٍ مُزامِنة لمرحلة تشييد قصر البارون نفسِه.
فحقيقة الأمر إذن أن الأمير «حسين كامل» - قبل اعتلائِه غير المُنتَظَر لكرسى السَلطَنة - كان واحداً من أبرز عُملاء البارون، الذين وفدوا على ضاحِيَتِه الفخمة الوليدة، ليتخذوا فيها قصوراً، وفى مقدمتهم أمراء من أسرة محمد علي؛ وهو ما يفسر وجود قصر آخر للأمير «إبراهيم حلمي»، ابن الخديو إسماعيل، وأحد إخوة السلطان «حسين»، على مقربة من قصر أخيه، وعلى نفس غرار تصميمِه ذى الطابع الإسلامي.
ووفقاً للخطة التصميمية التى اعتمَدَها «ألكسندر مارسيل» لأشهر معالم «هليوبوليس»، فقد اعتمد التصميم الخارجى لقصر السلطانة «مَلَك» اعتماداً تاماً على عناصر إنشائية وبصرية، مُستَلهَمة من طُرُز العمارة الإسلامية؛ وهو ما ظهر فى تكوين بُرجِه الشهير المماثل لتكوين المئذَنة، وكذا فى القبة ذات المقرنصات، التى تتوسط أعلى سقف بَهوِه الرئيسى، وفى العقود والشُرفات والنوافذ والسلالم المُسَيَّجة.
أما التصميم الداخلى، فقد اتَّبَع فيه «مارسيل»، ومَن عاونوه من المُزَخرِفين والمهندسين، أسلوب المزج المُتَدَرِّج بين العناصر البصرية إسلامية الطابع، وغيرها من العناصر أوربية الطابع؛ وهو ما يظهر فى غلَبة العناصر الإسلامية على البهو الرئيسى والممرات المتفرعة عنه. وعلى العكس من ذلك تظهر سيادة العناصر الأوربية فى أغلب الغُرَف والقاعات الرئيسية؛ وبخاصةٍ فى وجود أعمال من التصوير الجدارى فائق الإتقان، فى الحوائط والأَسقُف، وأعلى أبواب بعض هذه الغرف والقاعات. والمُلاحَظ على هذه التصاوير واللوحات، خُلُوُّها - ظاهرياً - من التوقيعات التى يمكن من خلالها تحديد هويّات المصورين والرسامين المنفذين لها.
غير أنه، وعلى عكس هذه التصاوير مجهولة الفنانين، فقد اشتمَل القصر على تمثالَين بديعَين بالحجم الطبيعى، من الرخام الأبيض الفاخر من نوع «كرارا» الإيطالى، اشتمل كلٌّ منهُما على توقيع الفنان الذى نحتَه، لنكتشف أنهما مِن صُنع اثنين من مشاهير نحّاتى إيطاليا خلال القرن التاسع عشر.
يوجد أول التمثالَين فى إحدى زوايا القاعة الجنوبية للقصر، وهو يحمل على خلفية قاعدتِه توقيعاً محفوراً للنحات الإيطالى «تيتو آنجليني» (1806 - 1878)، الذى كان عضواً فى الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة، ورئيساً لأكاديمية الفنون الجميلة بمدينة «نابولي». وإلى جوار التوقيع، ظهر تاريخ نحت التمثال واضحاً، 1863، وهو ما يُحتَمَل معه أن يكون التمثال فى الأصل من مقتنيات الخديو إسماعيل، التى آلَت لاحقاً بالوراثة أو بالإهداء لابنِه السلطان «حسين».
وحين نتأمل فى تفاصيل التمثال ودقائِقِه، نراه يستلهم موضوعاً مستمداً من الميثولوجيا الإغريقية؛ إذ يُجَسّد شخصية شابة فاتنة، تضطجع عارية فوق جلدٍ مسلوخ لحيوانٍ كاسر، سرعان ما نتبَيَّن نوعَه بالتدقيق فى المعالجة النحتية الدقيقة، التى نثر الفنان على سطحِه بواسطتها دوائر رقطاء، تؤكد أننا بإزاء جلد فهد.
وبتأمُّل رأس الشابة، نجدها وقد ازدانت بإكليلٍ من أوراق العنب وحَبّاتِه الناضجة، بينما اكتسى وجهُها الصَبوح بتعبيرٍ غارقٍ فى النشوة، فتثاقَل جفناها وانفرَجَت الشفتان، وكاد الرأسُ يرتخى على العاتق.
   نلاحظ كذلك أن حركة جسد الشابة تتميز بكثيرٍ من التراخى والتثاقُل، وقد رفعت بيدها اليمنى كأساً للشراب، لم يبقَ منه سوى قاعدتُه، بينما اختفت قمتُه نتيجة كسرٍ واضح، اختفى معه كذلك عددٌ من أناملِ يدِها.
فإذا ما أعمَلنا الفِكر قليلاً فى دلالات هذه التفاصيل والتعبيرات والحركات، أصبح لدينا يقينٌ تام بأن التمثال يُجَسِّد واحدةً من «الماينادِس» تابعات «باخوس»، معبود الخمر والغابات والاحتفالات المُتَهتّكة الصاخبة، الذى اختلطت ديانتُه قديماً ببعض ديانات الأسرار فى عموم بلاد الإغريق والرومان. وقد كان معظم أتباع «باخوس» من النساء، وكانت الكاهناتُ مِنهُنّ يُعرَفنَ باسم «الماينادِس»، ويتميزن بارتداء جلود الفهود على أجسادهن العارية، وبدخولهِن فى نوبات من الغيبوبة فى أعقاب حالات من النشوة الوحشية، يُمارِسن خلالها شتى ألوان التَهَتُّك والعنف.
وبالانتقال إلى الجهة الغربية من القصر، يجد الزائر نفسَه بإزاء اثنَتَى عشرة درجة لسُلَّمٍ فسيح، يؤدى ارتقاؤه إلى ثلاثة أبواب خشبية محاطة بعقود حجرية، تنفَتِح على بهوٍ كبير.
وفى مواجهة الباب الأوسط من أبواب هذا البهو تماماً، ينتصب التمثال الثانى مُلاصقاً الحائط الشرقى للبهو. ويتكون هذا التمثال من جزأين رئيسيين، الأسفل منهما على هيئة قاعدة رخامية ذات تكوين رباعى الأركان، يعلوها الجزء الثانى، الذى يمثل المنحوتة ذاتها.
وهذا الجزء بِدَورِه مكون من ثلاثة أجزاء، السفلى منها على شكل قاعدة اسطوانية، يتوسطها إطار بيضاوى، يتضمن نقشاً بارزاً لشيخ ذى ملامح أجنبية وشعرٍ مُستَرسِل. أما الجزء الأوسط، فيتخذ شكل مدخنة تعلو سطحاً قرميدياً، ويجلسُ فوق قمتِها مُجَسَّمٌ لصبيٍّ يافعٍ مُجَنَّح، يضع ساقاً فوق الأخرى، وقد بدَا على وجهِه تعبيرٌ مزيجٌ من الخبث والسخرية والتوَحُّش. كما بدا الغلام مُمسِكاً بيدِه اليسرى طرف خيطٍ من الدخان المُنفَلِت من المدخنة، وقد أسنَد عصاً مشتعلة بين جذعِه وذراعِه الأيسر.
وبتأمُّل الإطار البيضاوى المحيط بوجه الشخصية البادية على القاعدة، نرى نقشاً لعبارة لاتينية، منطوقُها: ERIPUIT COELO FULMEN… 1750 وترجمتُها بالعربية: «لقد انتزَع البرقَ من السماء... 1750».
وبالتدقيق فى ملامح الشخصية الموجودة داخل هذا الإطار، سرعان ما نتعرف فيها على العبقرى الفَذّ الأمريكى «بنيامين فرانكلين» (1706-1790)، الفيزيائى المخترع، والطَبّاع الكاتب الناشر، ورجل السياسة والدبلوماسى الداهية، الذى لعب دوراً محورياً فى صناعة التاريخ الأمريكى، بلغ ذروتَه بنجاح جهوده فى إقرار وثيقة إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عام 1776.   
وتتأكد هذه الهوية، بما لا مجال للشك معه، حين نرى فحوى العبارة اللاتينية ينطبق تمام الانطباق على شخصية «فرانكلين». ففى الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1750، كاد «فرانكلين أن يفقد حياته صعقاً بالكهرباء؛ جراء بعض تجاربِه التى أجراها على شحنات البرق، باستخدام أسلاك موصولة بطائرات ورقية، وهى التجربة التى تُعَدُّ فتحاً فى تاريخ استغلال الطاقة الكهربية. وتخليداً لهذا الحدث، فقد كتب الاقتصادى والسياسى الفرنسى «آن روبرت جاك تورجوت» (1727 - 1781) هذه العبارة باللاتينية، تكريماً لـ«فرانكلين»، لتشتهر وتتواتر شرقاً وغرباً بتنويعات متعددة.
   ومع ظهور توقيع النحات وتاريخ إنتاج التمثال، فى منتصف الجزء العلوى، نتأكد أنه من أعمال النحات الإيطالى «جيوليو مونتيفيردي» (1837 - 1917)، الذى كان أستاذاً للنحت بأكاديمية الفنون الجميلة بروما، وأنه من إنتاج عام 1871. وقد حاز «مونتيفيردي» شهرةً كبيرة وتكريماً بِوَصفِه نحاتاً متمكناً؛ فنال وسام جوقة الشرف الفرنسى عام 1878، كما شغل منصب عضو مجلس شيوخ بروما عام 1889.
فإذا ما أعمَلنا النظر والتحليل فى تكوين التمثال ورموزِه، لوجدنا أن النحات رمَزَ لقوة العِلم بهذا الصبى المشاكس المجنّح، والذى يمسك بسلكٍ مُوَصّلٍ للكهرباء، متصلٍ بطرف خيط الدخان الخارج من قمة المدخنة التى يجلس فوقها، وذلك للدلالة على اختراعَين مهمين من اختراعات «فرانكلين» الشهيرة؛ أولهما هو «مانع الصواعق»، الذى ترتفع قضبانه وأسلاكه فوق قمم المنازل والعمائر، لتفريغ شحنات الصواعق التى تضرب أسطُح هذه المبانى وتهددها بالإحراق. أما الثانى فهو «موقد فرانكلين»، وهو تطويرٌ أدخله «بنيامين فرانكلين» على المدافئ المنزلية، لتصريف الأدخنة الناجمة عن احتراق الأخشاب بها بكفاءةٍ تامة.
ونظراً لاستلهام «مونتيفيردي» ملامح هذا الصبى المجنح من شخصيات الجان فى الحكايات الخيالية الأوربية وأساطير الرومان، فقد أطلق على التمثال فى مُجمَلِه اسم «جِنّى فرانكلين».
وتنُص مصادر عديدة على أن تمثال «جِنّى فرانكلين» لقى نجاحاً ساحقاً، حين عرَضَه «مونتيفيردي» فى ميلانو عام 1872، وأنه اقتُنِيَ مِن قِبَل خديوى مصر، مما شجع الفنان على صَبّ عدة نُسَخ برونزية، يحتفظ «قصر ساحة لاستقلال» بروما بواحدةٍ منها. كما توجد نسخة أخرى ضِمن مقتنيات متحف «ميكيلانجيوليسكو دى كابريزي».
ووفقاً لتاريخ الاقتناء الذى تنُص عليه هذه المصادر - 1872 - يتضح أن الخديو الذى اشترى التمثال هو «إسماعيل»، ليترَجّح بذلك احتمال الفرضية التى افترضناها بخصوص التمثال الأول، من حيث انتقالِ التمثالَين من حوزة الخديو «إسماعيل»، إلى مقتنيات ابنِه السلطان «حسين كامل»، ليظلا قابعَين داخل قصر «مَلَك»، وليشهدا تغيرات الأحوال وتَبَدُّلات الأزمِنة.
ومع إقفار المكان مِن ساكِنِيه الأصليين، وبقائه خاوياً على عروشِه فى طَوايا الصمت، تنسَدِلُ أستار النسيان السميكة مع رُكام الأتربة، على عَمَلَين متحفِيِّين، من بدائع دُرَر النحت العالمى، لتظل «المايناد» الفاتنة أسيرة نشوَتِها المَنسِيّة، وليُقاسى أبو الاستقلال الأمريكى الوحشة والوحدة، حبيساً مع الجنّى المُشاكِس فى بهو قصر السُلطانة «مَلَك».