الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أبعاد الصراع الخفى بين تولستوى والكنيسة

أبعاد الصراع الخفى بين تولستوى والكنيسة
أبعاد الصراع الخفى بين تولستوى والكنيسة




بقلم - يوسف نبيل

ما من فكرةٍ أو كلمةٍ أكثر بذاءةً من فكرة «الكنيسة»، وما من فكرةٍ ولّدت شرّاً أكبر، وما من فكرةٍ أشدّ عداءً لدين المسيح، كما فعلت فكرة «الكنيسة».  الكنيسة والدولة – تولستوى.
لا يمكن وصف علاقة تولستوى بالكنيسة بشيء سوى بالجذرية الشديدة، والجذرية هى الصفة الأكثر توفيقًا من وجهة نظرى التى يمكن وصف أفكار تولستوى بها.
عاش تولستوى مجموعة هائلة من الصراعات الداخلية والخارجية على السواء، وكان الموقف من الدين والسؤال عن مغزى الحياة يظللان حياته بأكملها، بفجورها وتقواها، بجنونها وعقلانيتها.
عرف الشرق تولستوى كأديب، ولكن لم يعرفه جيدًا كمفكر وفيلسوف قدم إسهامات هامة خاصة فى فلسفة الدين.
تناول تولستوى قضية الكنيسة فى اشتباك كامل مع مفهومه عن الدين ككل، الذى برغم بساطته المتناهية أساء كثيرون فهمه فأطلق عليه البعض وصف «ملحد» حتى من معاصريه الروس، ولم تكن حدة تولستوى فى التعامل مع الوضع الراهن فى وقته هينة، فبمثل حدته فى التعامل مع نفسه والتى نجدها فى تقريع ذاته المبالغ فيه فى كتابه اعتراف، وفى روايات من قبيل: الأب سرجيه، كانت حدة تعامله أيضًا فى التعامل مع مفهوم الكنيسة.
بادئ ذى بدء وصل تولستوى إلى قناعة كاملة بوجود مفهومين للدين المسيحى داخل الأناجيل التى وصلت إلينا، وهما مفهومان لا يربطهما أى رابط، فيقول أن الدين فى مجمله منقسم إلى قسمين منفصلين بحدّة: تعليم الدوجمات، بدءاً من ألوهية الابن، الروح، وصولاً إلى الأسرار والتناول.. إلخ، والتعليم الأخلاقى المتمثل فى محبة الله والقريب والأعداء وبذل الذات والوداعة والقناعة والطهارة الجسدية، وعدم الإدانة، والتحرر من أسر القيود، والتواضع. ومهما حاول معلّمو الكنيسة مزج وجهى الدين هذين، فهذا مستحيل وسيظلان منفصلين دائماً، كما الزيت والماء: قطرات كبيرة وأخرى صغيرة. فى مقدور أيّ شخص تتبّع ثمار هذا الوجه للدين، أو ذاك، فى حياة الشعوب. ومن خلال هذه الثمار يمكننا استنتاج الوجه الأكثر أهميةً.
يعود أصل القضية أيضًا إلى العلاقة الملتبسة بين العقل والدين، فيقول إن الله قد حبا الإنسان وسيلة واحدة فقط، يمكنه بها أن يتعرف على نفسه ويكتشف علاقته بالعالم، وما من وسيلة أخرى سواها، وهي: العقل. أما القائلون بوجوب التعامل مع الدين عن طريق الوحى وحده يجيبهم تولستوى بأنه لا يمكن للإنسان أن يؤمن بعيدًا عن العقل. إن كان الإنسان يؤمن بشيء، ولا يؤمن بآخر، فالسبب الوحيد لذلك هو أن عقله يحدثه بأنه لا يجب أن يؤمن بهذا، لكنه يجب أن يؤمن بذاك. كل مخلوق فى هذا العالم قد حباه الله قانونًا يجب أن يعيش وفقًا له. كى يتعرف على هذا القانون؛ منح الله كل مخلوق الأدوات المناسبة التى يمكنه أن يستخدمها فى التعرف عليه. حبا الله كل إنسان العقل، وفى داخله القانون الذى يجب على الإنسان أن يعيش وفقًا له. إن القانون الذى يجب على الإنسان أن يتبعه بسيط للغاية، حتى أنه يناسب الطفل، أكثر من البالغ الذى لا يريد اكتشاف قانون حياته. لقد اكتشفه أسلافنا وعبَّروا عنه، وما على الإنسان سوى أن يتحقق منه بعقله، وأن يقبل أو يرفض هذه القوانين التى تضمنتها التقاليد، لكنه لا يجب أن يفعل ما ينصحه به أولئك من لا يرغبون فى طاعة هذا القانون، ولا يجب عليه أن يحكم على عقله فى ضوء التقاليد، بل على العكس، يجب على العقل أن يحكم على التقاليد. الدين إذن هو العلاقة التى تربط الإنسان بالعالم من حوله وبأصله ومصدره.
على الوحى إذن أن يكون متسقًا مع قوانين العقل، وإن كان أصل ومصدر الدين لا يكمن فى العقل، إلا أن عليه أن يتسق معه، وإن خالفه فمن الممكن للإنسان قبول أى شيء ونقيضه، وهو الجنون والعته.
من هذا المنطق فأغلب العقائد المسيحية التى تبشر بها الكنيسة، والتى لبعضها وجود حقيقى فى الإنجيل مزيفة قطعًا، وفى الوقت ذاته يحوى الإنجيل الوجه الأخلاقى الحقيقى الذى يكشف عن أخوة البشر جميعًا وبنوتهم لله ووجوب نبذ العنف بشكل كامل ونهائي.. إنها التعاليم التى تحوى معظمها موعظة المسيح الشهيرة على الجبل، وهى فى رأى تولستوى يجب قبولها، ورفض كل الدوجما التى لا يمكن أن تتفق مع العقل أبدًا مثل التثليث والكفارة والتجسد.. .إلخ.
كيف نشأت الكنيسة إذن؟ يقول تولستوى أن تعريف الكهنة، الذين يحتاجون إلى كذبة «الكنيسة» ليست سوى تمهيدٍ يقول: «كل ما أقوله الآن حقٌّ؛ فإن لم تصدّق فسأحرقك أو ألعنك أو أؤذيك بشتّى السُّبل» ويكمل أنه عندما يقولون إنّ الكنيسة هى اجتماع المؤمنين الحقيقيين فإنهم، فى الحقيقة، لا يقولون أيّ شيء، لأنه إذا قلنا إنّ الجوقة هى اجتماع كل الموسيقيين الحقيقيين، فإننا لا نقول شيئاً إذا لم نذكر أسماء الموسيقيين الحقيقيين. لكن يتبيّن، بحسب اللاهوت، أنّ المؤمنين الحقيقيين هم الذين يطيعون تعاليم الكنيسة.
من أجل فهم باطل الدين يجب العودة إلى بدايته ومنشئه. نحن نقول إننا نعرف المسيحية. عند العودة إلى بداية الدين المسيحى نجد فى الأناجيل تعاليم تنفى وتُدين الطقوس الدينية بصورة مباشرة، وبشكل خاص، تنفى بجلاء وبشكل قاطع شتى أشكال التدريس. لكننا نجد، منذ عهد المسيح وصولاً إلى وقتنا الراهن، انحرافاً للدين عن الأسس التى وضعها المسيح، وقد بدأ هذا الانحراف منذ عهد الرُّسل،
وقد استُخدِم أيضاً مفهوم «الكنيسة الحقّ» كحجّةٍ ضدّ المخالفين، ولكن حتى عهد الإمبراطور قسطنطين ومَجْمَع نيقية كانت الكنيسة مجرّد مفهوم، ومنذ عهد الامبراطور قسطنطين ومَجْمَع نيقية صارت الكنيسة واقعاً، هو واقع الكذب. وتلك الخدعة تبدأ من المطارنة مع الأضرحة، والمجامع الكنسية، وهلمّ جرّا.
تحالف الكنيسة الحتمى مع الدولة جعل الأولى تتوصل إلى ديانة ملفقة تقوم على الاعتراف ببعض العقائد الحمقاء مع إهمال الجانب الحقيقى فى الدين تمامًا، وهو الذى يخالف الدولة القائمة على العنف والجيوش والأسلحة والسرقة... لقد تدبّروا مسيحيةً بحيث يستطيع فيها الإنسان، دونما خجل، أن يعيش على الطريقة القديمة، الطريقة الوثنية. من جهة، المسيح ابن الله، وجاء ليفتدى الجميع. وبما أنّ المسيح قد مات فيمكن لقسطنطين أن يعيش كما يرغب. يمكن الاعتراف، وابتلاع قطعة خبز مع النبيذ، وسيكون هذا خلاصاً.
ولكى يكون لدى الكهنوت ما يعلّمه، ولكى يكون هناك تلاميذ، لا ينبغى التبرّؤ من الدين، ولكن لكى يُبرِّئ الكهنوت ذاته يجب حجب جوهر الدين بشتّى الوسائل المتاحة. ولأجل ذلك يجب نقل مركز ثقل الدين إلى ظاهره، لا إلى جوهر الدين. وهذا بالذات ما يفعله الكهنوت.
العقائد الأساسية، التى لا يوافق عليها أحد، والتى لا يحتاج إليها أحد، والتى تهلك البشر، هى ما يقدّمه الكهنوت على أنه الدين. والنقطة الثانية هى أنّ ما يتّفق عليه الجميع، ويحتاج إليه الجميع، وينجّى البشر، رغم أنّ الكهنوت لم يتجرّأ على رفضه، ولكنه لم يتجرّأ كذلك على تقديمه باعتباره ديناً، فهو الدين الحقيقى وحده.
رفض تولستوى للكنيسة لا يتمثل فى رفض تجاوزاتها، بل إنه يرفضها كمفهوم يراه فاسدًا فى حد ذاته، ويراه أصل لكل الشرور. ليس علينا أن نتحدث عن تجاوزات الكنيسة فى عصره وفى عصرنا، ومناصرتها لكل أنواع المظالم والمحارق، ولكن علينا أن نحاول فهم مصدر المشكلة الحقيقى.. أهو فى تجاوزاتها، أم فى ذاتها؟
لا يجد كثير من المعاصرين الآن أى غضاضة فى التوفيق بين مفهوم الكنيسة والكهنوت وبين كلمات المسيح عن مساواة البشر أجمعين، وطلبه من تلاميذه ألا يدعون أحدًا أبًا أو سيدًا، وهى الألفاظ التى ينادى بها المسيحيون على الكاهن والأسقف.... هذه المتناقضات اعتدنا الحياة معها منذ عصور طويلة، منذ فجر الاستبداد الذى يجبر عقل الإنسان على الالتواء، فكى تعيش حياة دينية حقيقية عليك أن تحارب الظلم وعدم المساواة، وصعوبة هذا الشديدة تجعل الإنسان يميل إلى الدين الذى تقدمه إليه كل أنواع الكنائس والسلطات الدينية... دين يعتمد على بعض الطقوس والعقائد التى ليس من شأنها إحداث تغيير حقيقى فى الحياة.
ينحاز الكثيرون إلى نقد تجاوزات مؤسسة دينية ما، أما الأكثر جذرية يتساءل عن جدوى وأحقية هذه المؤسسة من الأساس.