السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

تاريخ الغناء للمسيح

تاريخ الغناء للمسيح
تاريخ الغناء للمسيح




أعدها: روبير الفارس

كتاب مهم صدر مؤخرا للقس سامح ابراهيم حول تاريخ وأهمية الترانيم المسيحية يقع الكتاب فى 200 صفحة، استخدم الكاتب 184 مرجعًا عربيًا وأجنبيًا، فى الفصل الأول عرض تاريخى لقضية الشعر والترانيم فى المسيحية المبكرة.
فى الفصل الأخير خاتمة عامة لما توصل إليه الباحث من قضايا وأمور مشتركة فى الترنيمات الكريستولوجية، أى الخاصة بالسيد المسيح وفى الفصول الوسيطة عرض لكل ترنيمة فى ناحيتين: ناحية أدبية صرفة وتحليل أدبى يثبت شعرية النص وخلفيته وتقسيمه، وناحية لاهوتية، فيها شرح وتفسير لمحتوى الترنيمة، والوصول لصورة المسيح التى تنتصب وراء الترنيمة.

ويقول القس سامح إنَّ نص العهد الجديد هو نصٌ انعكاسى وليس نصًا تأسيسيًا، هو يشهد عن تاريخٍ، ولا يصنع تاريخًا، يشهد لمعتقد ولا يبتدعه.. يشير رجوعًا إلى شخص يسوع الناصرى ويوفرُ نافذةً للنظر إلى هوية ذلك الشخص.
لا بولس ولا غيره ابتدع شيئًا، لقد نادى كلُّ المسيحيين الأوائل بما عرفوه واختبروه. لقد شهدوا عن شخص يسوع المسيح كما كان فى التاريخ، ولم يضيفوا شيئًا جديدًا فيما يخص هويته وإلوهيته، وهو الاتهام الذى طالما وُجِّه للمسيحية غربًا وشرقًا. يتردد فى الغرب كثيرًا أنَّ مسيح الإيمان مختلفٌ عن يسوع التاريخ، ويُنادى فى الشرق كثيرًا أنَّ يسوع التاريخ يختلف عن يسوع بولس.
ويضيف الباحث المتميز قائلا فى هذا الكتاب رجعتُ إلى ستة نصوص كريستولوجية، أى تدور حول المسيح، وهى على حسب ترتيب ذكرها فى أسفار العهد الجديد؛ يوحنا 1: 1–18؛ فيلبى 2: 6–11؛ كولوسى 1: 15–20؛ 1 تيموثاوس 3: 16؛ عبرانيين 1: 3؛ و1 بطرس 3: 18–22. تُجمع غالبية المتخصصين فى هذه الكتابات سواء اليوحناوية، أو البولسية، وبقية الرسائل، على أنَّ هذه النصوص التعبدية، الترنيمية، كانت سابقة على كتابة العهد الجديد، أى فى مرحلة التقليد الشفهي، ثم حين بدأ كُتَّابُ الوحى يكتبون أسفارهم ورسائلهم، استعانوا بها. هذا يوحنا يقتبس ترنيمة قديمة ويصدِّرُها إنجيله، وهذا بولس فى جماعةٍ أخرى حين يكتب الرسالة إلى أهل فيلبي، أو إلى أهل كولوسي، أو إلى تلميذه تيموثاوس، فإنه يستعين بما فى التقليد الشفهي، أى يستخدم ما كان موجودًا بالفعل فى حوزة المؤمنين الأوائل وشهود العيان.
ظهرت هذه النصوص الشعرية فى بيئات مسيحية يهودية، ونحن نعرف أن اليهود أكثر الشعوب وحدانية، والإيمان بوحدانية الله المطلقة يمثل ركنًا راسخًا فى إيمانهم. كان لابدَّ من أن يصلى اليهودى صلاة الشماع «اسمع يا إسرائيل الرب إلهُنا ربٌّ واحد...» (تثنية 6: 4 وما يلي) مرتين يوميًا صباحًا ومساءً وكان بمثابة إقرار إيمان لهم. إنَّ فكرة وحدانية الله تنبع من فكرة أنه الخالق الذى لم يشاركْه أحد فى الخلق، وكل المعبودات التى تعبدها الشعوب الوثنية ما هى إلا مخلوقات من صنع يديه. من ثم نجد تحريمًا شديدًا لعبادة كائنٍ آخر، أيًا كان، إلى جانب الله، وهو أمرٌ رافق المسيحيين اليهود حتى بعد تحولهم لاتِّباع يسوع الناصري. فى تسعينيات القرن الأول كتب يوحنا الرائى كتابًا مهمًا وهو «سفر الرؤيا،» وهو الأخير، فى كتب العهد الجديد، ومرتين فى هذا الكتاب يُمنع السجود لملاكٍ (رؤ 19: 10؛ 22: 9). يعنى هذا أنّه لم يكن سهلًا على المسيحيين اليهود الأوائل أنْ يعبدوا شخصًا، حتى إنْ كان ملاكًا، ولقد مُنعوا من كلِّ توجه يسمح بهذا. حين يقرر المسيحيون الأوائل أن يرنموا ليسوع المسيح وأن يعبدوه، كان هذا تحديًا شديدًا لإيمانهم، وبالتالى لابدَّ أن شيئًا ما خارقًا وعظيمًا بكيفيةٍ تجعل إمكانية عبادتهم لشخصٍ آخر سهلة، لقد رأوا بالتأكيد فى يسوع الناصرى ما جعلهم يقتنعون أنه شخص غير عادي، وإنْ كان مثلهم، لكنه ليس مثلهم.. هو إنسان لكنه لا يقف عند حدود الإنسانية، إنه يتجاوزها بشخصه، بأعماله، بكلماته وتعليمه. إنَّه غير عادي، هو واحدٌ بين الآخرين، لكنه ليس مثلهم. لقد رأى فيه المؤمنون الأوائل أعظم بكثير من مجرد إنسانٍ، وهو ما جعلهم، وهم اليهود الوحدانيون، يقدمون له العبادة كإلهٍ. فى شخصه اجتمع الله والإنسان معًا فى انسجامٍ وتناغم. هكذا تُقدر المسيحية الإنسانية ولا ترى عداءً بين احترام الإنسانية والاقتراب إلى الله.
فى هذا الكتاب عرض لهذه الترنيمات الموغلة فى القدم، وهى تدور على عدة محاور مهمة. يمكن سرد أهمها كالتالي. أولًا، لقد كانت هذه الترنيمات سردية، روائية. تضع هذه الترنيمات أمام الكنيسة مراحل حياة المسيح المختلفة؛ فى المرحلة الأزلية، فى تجسده، وفى تمجيده. كانت الكنيسة من خلال هذه الترنيمات تتذكر حياة وإنجاز المسيح. لقد كُرست بالكامل لشخص المسيح مما يعنى أنَّ كلمة المسيح كانت تسكن فى الكنيسة.
بغنى. على الكنيسة أن تكرس ترنيماتها بالكامل لشخص وإنجاز يسوع المسيح. ومن خلاله تستطيع أن تفهم الله والذات والعالم.
ثانيًا، رسمت هذه الترنيمات صورًا مختلفة ومتعددة للمسيح. فترسم ترنيمات يوحنا وكولوسى والعبرانيين المسيحَ على أنه الحكمة المتجسدة، وترسم ترنيمتا فيلبى وبطرس المسيحَ على أنه عبد الرب المتألم. هناك صورٌ أخرى مثل آدم الأخير (كترنيمة فيلبي) أو الشخص المنطلق للسماء كأخنوخ وإيليا (ترنيمة تيموثاوس وبطرس) ليجلس عن يمين الله. يُبرهن هذا على تنوعٍ وتعددٍ فى التعبير عن شخص وعمل المسيح. كانت الكنيسة الأولى مُبدعة فى التعبير عن إيمانها.
ثالثًا، كانت ترنيمات الكنيسة الأولى شاملة وواسعة الأفق. لاحظنا فى دراستنا لخلفيات الترنيمات كيف استخدمت الكنيسة الأولى عديد الخلفيات. استخدمت الكنيسة الأولى العهد القديم مثل مزمور 110 ومزمور 8 فى الكلام عن يسوع المسيح الذى تمجد عن يمين الله وخضع له الكل (مثل ترنيمة العبرانيين، وبطرس) واستخدمت أشعياء 53 فى ترنيمتى فيلبى وبطرس. كذلك استخدمت أسفار الحكمة (ترنيمة يوحنا وكولوسى والعبرانيين). لم تكتفِ هذه الترنيمات باستخدام الكتاب المقدس بل لم تجد حرجًا فى استخدام مفردات فلسفية عالمية كاللوجوس فى ترنيمة يوحنا أو الكلمة «يقوم/يُحفظ/يتماسك» التى كانت شهيرة فى الفلسفة الرواقية والأفلاطونية والتى استخدمتها ترنيمة كولوسي. استخدمت أيضًا الطب فى الكلام عن المسيح كونه «رأس الجسد، الكنيسة» فى ترنيمة كولوسي. إن اللغة والأسلوب كانا فى منتهى الأهمية، الأمر الذى يعطى هذه الترنيمات قيمتها الفائقة، وهو تحدٍ عظيم لنا فى إنتاج ترانيم تهتم وتبدع فى الحديث عن المسيح دون إخلال باللغة والأسلوب.
ورأينا كيف كانت هذه الترنيمات عميقة المعنى ورصينة البناء والأسلوب، كانت رائعةَ فى المعنى والمبنى –كما يُقال.. لم تكن الترنيمات الكنسية ضيقة الأفق بل تعبر عن كنيسة تُحيط علمًا بالثقافة العالمية وتربطها بالتراث الكتابى وتُخرج لنا من كنزها جُددًا وعُتقاء.
رابعًا، كانت هذه الترنيمات تفسيرية تعليمية. يعنى هذا أنَّ هناك دورًا تعليميًا لهذه الترنيمات، والفصل بين التعليم/الوعظ والتسبيح/الترنيم لم يكن فصلًا حادًا كما اليوم. فللترنيم هدفٌ تعليمي، بل أقول إنَّ هدف الترنيم المسيحى فى الأساس هدفٌ تعليمي. ألم تُساهم ترنيمة فيلبى وكولوسى فى تفسير معنى «صورة الله» فى سفر التكوين؟ ألم توضح ترنيمات يوحنا وكولوسى معنى «الحكمة» التى كانت تتكلم عنها كثيرًا أسفار الحكمة؟ لذلك على الترنيمات المعاصرة أن تخدم الحركة التفسيرية والتعليمية فى الكنيسة، بدءًا من ترنيمات مدارس الأحد حتى ترنيمات الكنيسة العامة.
خامسًا، عملت هذه الترنيمات على تغيير الكثير من المعتقدات الخاطئة وقد كانت سلاحًا فى تغيير الكثير من العادات والتقاليد المنحرفة. لقد استخدم كاتب كولوسى الترنيمة التى تتكلم عن خضوع كل القوى الكونية للمسيح وتحدى بها الغيبيات التى سادت كنيسته وخوف شعبها الشديد من سيطرة القوى الكونية الشريرة. كما واجه كاتب تيموثاوس البدعة التى سادت حول الامتناع عن الزواج ومنع أطعمة قد خلقها الله بترنيمةٍ أكدت على الوحدة التى صنعها المسيح بين العالميْن الأرضى والسماوى.
سادسًا، تشترك الترنيمات المسيحية فى الكلام عن دور المسيح فى الخلق (يوحنا، كولوسي، عبرانيين) وبالتالى نحتاج إلى أن نعود لنرى أنَّ للمسيح دورًا يتجاوز حدود الكنيسة ويمتد ليشمل الكون كله والطبيعة، فمن الضرورى أن نرى أيضًا الطبيعة، كما الخلاص، من أعمال نعمة الله.
ومحبته لنا. فهو «بكر كلِّ خليقة» كما هو «بكرٌ من الأموات» و«رأس الجسد، الكنيسة.» الكلام عن اشتراك المسيح فى خلق العالم وتجسده فى العالم يُعارض تمامًا النزعة الغنوسية الحديثة والتى ترى أن العالم شر وأن موطننا ليس هنا إنما السماء. إنَّ هذه الترنيمات تدعونا لكى نرى روعة العالم الذى اشترك مسيحُنا فى خلقه، وهو يضمن حفظه بكلمته القديرة. صحيح أنها تنظر إلى الأبدية حيث سوف يعترف الكل بأن المسيح رب، كما رأينا فى إسخاتولوجى ترنيمة فيلبي، لكنها لا تتنكر للعالم ولا تعتبره شرًا.
أخيرًا، كانت هذه الترنيمات رعوية تهدف إلى تشجيع الكنيسة بمثال المسيح الذى كان ألمُه مقدمةً لتمجيده. رنمت الكنيسة فى فيلبى بترنيمة العبد المتألم، يسوع المسيح الذى كان لابسًا الطبيعة الإلهية كرداء لكنه مات بالصليب، ولم يهمله الله بل رفعه إلى العُلى. كذلك رنمت الكنيسة فى روما بترنيمة بطرس عن العبد البار الذى تألم دون أن يفعل خطية لكنَّ ألمه كان مرة واحدة ولقد مضى إلى السماء حيث ملائكة وسلاطين وقوات مُخضعة له. كما أنها تضع أمام الكنيسة مسئولية كرازية أن تكرز بالمسيح حتى يؤمن العالم به كما فى ترنيمة تيموثاوس ولا تفشل الكنيسة إنْ رفضها العالم فقد رفض العالم المسيح من قبل.