السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«جيهان» تودع حبيبها.. رحيل «عراب وسط البلد»

«جيهان» تودع حبيبها.. رحيل «عراب وسط البلد»
«جيهان» تودع حبيبها.. رحيل «عراب وسط البلد»




كتبت- مروة مظلوم


المقهى مكان مفتوح ثرى بشخصيات متناقضة ملهمة للكتابة الغنى والفقير، العامل والتاجر، السائح ورجل الأعمال والموظف.. شخصيات من الصعب أن يجمعها مكان واحد إلا المقهى لذا فهى مناخ جذاب لأى كاتب بعيدًا عن جو المكيفات الخانق والأماكن المغلقة.. اختصر مكاوى سعيد قصة عشقه لمقهى البستان فى حواره الأخير معى بتلك الكلمات ليصف لى دنياه الصغيرة على الناصية.. حيث يلتقى أصدقاءه وقراءه.. ورواد المقهى الذين اعتادوا جلسته تلك بصوته الهامس الذى لا يكاد يسمع ووجه الطفولى ذو الابتسامة العريضة والملامح الكارتونية التى جعلت منه «ميكي» بين أقرانه رغم عشقه لـ«بطوط» حتى أصبح علامة تبحث عنها بمجرد أن تخطو بقدمك وسط القاهرة، وكأنه حارس على أحد أبوابها اليوم رحل الحارس.. تاركًا مقعده خاويًا.. ينعى صاحبه «عراب وسط البلد».
بدأ «ميكى» رحلته الأدبية من مدرجات كلية التجارة ومجموعة من الخواطر خطها على مجلات الحائط بجوار رسوم زملائه، ثم اتجه للشعر لكنه فتن فى مرحلة تالية بالحكى والقص، فكتب القصة القصيرة، وأولها مجموعة «الركض وراء الضوء» عام 1981، ثم بعدها بعشر سنوات كاملة كتب رواية «فئران السفينة» التى حازت على جائزة سعاد الصباح وطبعت أربع مرات، ثم أصدر فى 2001 مجموعته القصصية «راكبة المقعد الخلفي»، كتب مكاوى أيضا مجموعة أخرى عام 2008 هى «سرى الصغير»، ثم روايته الأهم «تغريدة البجعة» فى العام نفسه، ثم خرج إلى النور كتابه المثير للجدل «مقتنيات وسط البلد»، يضم حكايات عن شخصيات وأماكن فى منطقة وسط البلد بالقاهرة، وهو فى الأصل مجموعة المقالات التى كان ينشرها مكاوى فى جريدة البديل قبل إغلاقها.
تتبع مكاوى فى أعماله مصائر أشخاص تفاعلوا مع الأحداث المحيطة بهم، كما تفاعلوا مع الأحداث العامة فى مصر، فهو يرى أن الكتابة الأدبية هى التاريخ الحقيقى لأى أمة، وعلى من يريد معرفة الحالة الحقيقة للمجتمع فى عصر فليقرأ أدب ذلك العصر، لأن التاريخ الذى نراه هو ما يكتبه المنتصرون.
الهجمة الوهابية على المجتمع المصرى هى أكثر ما يشغل باله خصوصا فى فكرة اختلاط الشباب والفتيات لأن الاحترام المتبادل كان سمة هذا الاختلاط، لكن الآن الوضع اختلف وظهرت دعاوى عدم الاختلاط، وظهرت ملابس سميت بالإسلامية وهى غير ذلك، والتحولات التى طرأت على هذا المجتمع بطوائفه المتآلفة ونسيجه القوى رصدها مكاوى فى «تغريدة البجعة».
خاض مكاوى عدة مجالات وبرع فى كل منها على حدا وكان يرى أن الدراسة الدقيقة لأى عمل والتخطيط له قبل البدء فيه هى مفتاح النجاح فالموهبة وحدها لا تكفى وعن تجاربه تلك قال: لا استطيع الخوض فى أى مجال قبل دراسة، قرأت عن فن كتابة الرواية والنقد الأدبى وكتابة السيناريو وخضت تجربة كتابة السيناريو التليفزيونى والتسجيلى والروائي، وحصلت على أربع جوائز ذهبية من مهرجان الإذاعة والتليفزيون العربى وجوائز أخرى فى مهرجانات دولية، أما تجربة الرواية فاعتمدت على رد فعل القارئ واحتفائه بالعمل الروائى الأول، وهو ما يجعل الكاتب يستأنف طريقه فى حماس أو يتوقف، فضلا عن تجربة الكتابة للأطفال فأول ربح لى من الكتابة كان وأنا طالب فى كلية التجارة وكتابتى لقصص الأطفال فى مجلة «ماجد»، التى كان يرسمها صلاح عنانى عندما كان يعمل فى «مجلة صباح الخير»، ثم انتقلت لأكثر من مجلة منها «بلبل وقطر الندي» وكتب الهلال للأولاد والبنات، ولأن الكتابة للأطفال تثرى الخيال لذا فأنا أرد الجميل لهم كل فترة بالكتابة لهم فأصدرت 5 كتب للأطفال ولى روايتان للأطفال هما «كوكب النفايات» و«صديقى فرتكوش»، ومسرحية «سارق الحضارات»، وإذا ما رغبت فى استراحة من كتابة عمل، يكون بصحبة مجلاتى القديمة، فأنا أحب أغلب شخصيات ديزنى وتربيت بين صفحات مجلة ميكى التى جمعت بينهم، وأكثر ما فتننى «بطوط» البحار المعتزل بنفسه وجنونه وإنسانيته ورعايته لأهله وسخريته وكفاحه وفشله السرمدى فى حبه وأحلامه وجميع الأعمال التى يعمل بها، لكنه لم ييأس ولم ينكسر، بعكس «ميكي» الذى قدمه لنا ديزنى مثاليا بأكثر ما تحتمله روحنا الإنسانية فكرهناه، وقد أطلق على زملائى من الصغر لقب «ميكى» تدليلا وانتقل معى من المدرسة حتى الجامعة وصولا إلى عالمى الأدبى حاليا، وطالما رغبت أن أخبرهم بأنى أكره «ميكى» وأحب «بطوط».
وعن رؤية المجتمع لكاتب الأطفال قال مكاوى أنه يتعامل مع كاتب الأطفال بنفس منطق تعامله مع طبيب الأطفال، وكأنه لم يكمل تعليمه، وكأنه فى مرتبة أدنى من الروائى والقاص، فى حين أن كاتب الأطفال هو أكثر أهمية من كاتب الكبار لأن طبيعته تلزم الأطفال سلوكيًا ونفسيًا، وهو يملك أدواته الخطابية للوصول إلى عقولهم، الأطفال لا يعرفون النفاق أو الجدل أو الخيار من متعدد فيصنفون ما يقدم لهم إما «حلو» أو «وحش».. الكتابة للأطفال تجربة خطرة لا يستطيع أن يخوضها كاتب غير مؤهل.. المغامرة الحقيقية فى الكتابة للأطفال وليس كتابة الرواية أسعد لحظات حياتى وأنا أكتب لهم.
المحيط الجغرافى لمكاوى سعيد لم يتجاوز حدود وسط البلد أو «مثلث الرعب» التى أسهب فى رواية تاريخها فلم تخل روايته من حكايات وسط البلد وتاريخها المجهول وكأنه يؤرخ لهذه البقعة من أرض مصر بكل ما مر ومن مر فيها فجاءت مقتنيات مكاوى فى كتابه «مقتنيات وسط البلد» تمثل حكايات مزيج بين واقع وشخصيات قابلهم مكاوى بالفعل وشخصيات من وحى خياله متمثلة فى 41 شخصية من ذوى الوجوه المألوفة فى جلسات المثقفين أو على أطرافها فى جزء سماه مكاوى «كتاب البشر»، وبعض هذه الشخصيات كان موهوبًا وفضّل الصعلكة على الموهبة، وبعضهم تكسّرت طموحاته بيده أو بيد غيره؛ فانطوى على نفسه أو أصابه الجنون أو مات أو ابتعد، وبعضهم آثر السكينة وظلّ يغرف من حكمة الحياة الصافية.
أما فى جزء «كتاب المكان» يحكى مكاوى عن مقاهٍ ومطاعم وبارات ومنتديات ثقافية نشطت فى وسط البلد فى منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينات؛ تلك الأماكن التى منها لا يزال قائمًا يحتفظ ببريقه، ومنها ما انسحب تمامًا من الصورة بعد أن أزاحته محال الأحذية أو الوجبات السريعة، ومنها ما تدهور حاله، وأن ظل محتفظًا باسمه ومكانه.
مكاوى سعيد هو ملك السرد فإلى جانب «تغريدة البجعة» كتب روايتين هما «أن تحبك جيهان» و«فئران السفينة» وفى كل رواية كان يزداد عدد صفحاتها حتى وصل عدد صفحات روايته الأخيرة إلى 700 صفحة.. «أن تحبك جيهان» كانت حالة رومانسية خاصة لمكاوى سعيد تحرر بها من الحالة السائدة أعقاب ثورة يناير من تحرش لفظى وأدبى بالسياسة إذ لم تخل الروايات الصادرة فى تلك الفترة من ذكر الأحداث وتمجيدها، ورأى مكاوى «أن تحبك جيهان» ليست رواية رومانسية لكنها واقعية، وعلى العكس من الرأى السائد فى الأدب رأى أنه فى ظل الظروف الراهنة نحن فى أمس الحاجة إلى الرواية الرومانسية كاستراحة بعيدًا عن ما يخالط الواقع الذى نعيشه من زخم فى الأحداث المرعبة والسياسية..  السعيد «مكاوي» صاحب الابتسامة المميزة لم يكن يؤمن بالنهايات السعيدة ويعلق على ذلك بسؤال فلسفى وهل يوجد فى الدنيا نهايات سعيدة؟!.. النهاية حسب المسار والعمل فى الرواية هو ما يحدد نهايتها لا يوجد رواية أو قصة كتبتها تخيلت نهايتها لكن المسار المنطقى للأحداث هو الذى يقودنا إلى هذه النهاية وعادة هى غير سعيدة.
شكل الراحل مكاوى سعيد مع محمد صلاح ثنائيا استثنائيا وقدما معا للساحة الثقافية واحدة من أهم دور نشر الكتابة الجديدة، وهى دار (الدار) التى استطاعت فى شهور قليلة أن تحتل مكانة جيدة فى دور النشر الخاصة، بل إنه فى سبيل نشر الثقافة للنشء قررا إتاحة الفرصة للأطفال، فأنشأ فرعا للكتابة للأطفال مسندا رئاسة تحريره للشاعر فتحى عبد الله وإدارة تحريره للقاص عبد الحكيم حيدر، أكثر اثنين فى هذا الجيل اهتماما بهذا الأمر.