الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الجداريات المعاصرة وتنمية الثقافة البصرية فى المجتمع المصرى

الجداريات المعاصرة وتنمية الثقافة البصرية فى المجتمع المصرى
الجداريات المعاصرة وتنمية الثقافة البصرية فى المجتمع المصرى




كتبت – د. نرمين المصرى

اكتسب فن الجداريات حديثا أهمية مختلفة، فلم يعد تسجيلا لحضارات الشعوب وتجسيدا لملامح هويتها الثقافية فحسب، بل أصبح يلعب دورا أساسيا فى إحياء الثقافة البصرية فى المجتمعات الإنسانية، وكذا تصحيح مفاهيم الرؤية لدى المتلقى على اختلاف مستوياته الثقافية والاجتماعية.
ومع اتجاه علماء النفس فى علاجهم للأمراض النفسية والعصبية إلى الاستفادة من الفنون البصرية، لنا أن نتخيل مدى تأثيرها وفاعليتها لدى الأصحاء فهى بالتأكيد تساهم فى خلق الشعور بالسعادة والرضا والراحة النفسية التى تعينهم على مواصلة نشاطاتهم الحياتية فى شتى مناحيها، والفنون البصرية عامة والأعمال الفنية خاصة تلك التى تفسر الحياة وتنقدها وتضيف إليها ومن ثم تسعد رائيها ومتذوقيها، وتضفى سمات البهجة والجمال أينما وضعت وتكسبها طابعًا حضاريًا.

وحتى يحقق هذا النوع من الفن أحد أهم أهدافه المنشودة وهى الارتقاء بالذوق وتنمية الثقافة البصرية فلابد أن تجد الجداريات صداها لدى الجماهير، ليتحقق التواصل والانسجام بينهما. وهذا يعتمد بصفة أساسية على ثقافة المجتمع ومستوى خبرته الجمالية حتى يتسنى للفنانين اختيار الأسلوب الأمثل الذى يفى بأغراضه واحتياجاته –إن لم يدركها أفراد المجتمع أنفسهم– ويجد المجال الخصب لديه كى يتقبل رؤية تلك الأعمال بسهولة ويسر.
التواصل بين الفرد والعمل الفنى فى المجال البصرى يتحدد بداية فى إمكانية رؤيته للجدارية المنفذة داخل حيزها الفراغى، حيث يظل المعيار الأمثل التى تتحدد من خلاله قيمتها الفنية هو حضورها فى بيئتها الخاصة، تتمثل أولى خطواتها فى عملية الرؤية التى تعد جزءا مهمًا فى المنظومة البصرية، فهى وسيلة حيوية لاتصال المشاهد بالعمل الفنى، وتمثلها حاسة الإبصار التى تتجسد فى عين الإنسان عندما تلتقى الأخيرة بالصورة أو اللوحة.
    فرؤية العين لصورة شيء ما تحدث تلقائيا تاركة آثارها الإيجابية على النفس البشرية، وتخضع لخطوات متتالية تحدث داخل المخ من خلال عمليات عقلية شديدة التعقيد، تبدأ من انعكاس صورة الشكل على شبكية العين ثم استجابة المخ للمثيرات الحسية، والذى يحولها بدوره إلى معلومات يمكن إدراكها بصريا. فكل فرد يتمتع بامتلاكه تلك الخاصية الطبيعية المميزة، ليس فقط فى رؤية اللوحات بل فى قدرته على تذكرها واسترجاعها برغبته، لذا فلن يتوقف تأثره وانفعاله بها عند حد الإدراك البصرى، حيث تتابعها عمليات نفسية محدثة بعض المتع البصرية المثيرة للعواطف والوجدان، ولنا أن نتصور ما يقابلها من عمليات الإدراك الحسى التى تحدث داخل الإنسان العادى حيث تسهم بالتأكيد فى استمتاعه بصريا بأى عمل فنى يتسنى له مشاهدته.
وأعمال التصوير الجدارى ينبغى أن تضم العديد من السمات الفنية التى تضمن لها عوامل الجذب البصرى، ومن ثم تساهم فى تنمية الحس الفطرى وتعميق الوعى الثقافى لأفراد المجتمع المصرى، والارتقاء بالذوق الجمالى من خلال سهولة إدراكها والاستمتاع بها، وبالابتعاد عن الردىء منها تجنبا لحدوث التشوه البصرى أو انحدار الذوق العام.
والبيئة الثقافية تلعب دورًا مهمًا فى هذا الشأن من حيث التأثير والتأثر فى أعمال التصوير الجدارى. حيث يتوقف عليها مدى تقبل الأفراد لهذه اللوحات واستيعاب جماليتها وتذوقها. ووفقا لثقافة مجتمعنا المصرى تعد أنسب الوسائل للمعالجات الفنية هى استخدام الصياغات الفنية الواقعية التناول والأقرب إلى مفهوم وإدراك الإنسان العادى، فالاعتماد على المعالجات التجريدية يزيد من تعقيد رؤيته البصرية إلى حد ما، ويحول بينه وبين إدراكه للعمل ما يتسبب تلقائيا فى الانصراف عن مشاهدته لعجزه التام عن التواصل الفكرى مع أشكاله الغامضة ومعالجاته المبهمة.
ويعد اعتماد الفنانين على نماذج الفن المصرى القديم أحد أهم الوسائل التى لجأوا إليها لتحقيق عاملى الانجذاب والاندماج مع العمل المرئى، وذلك لأنها تعد الأكثر شيوعا وألفة للأفراد، لسهولة التعرف عليها وتمييزها فهى لا تشكل عائقا أمام عقلية المشاهد، مما يساهم بشكل واضح فى جذب الانتباه وإدراك المتلقى لما يراه. وتعد جداريات الفنان صبرى منصور خير مثال لتضمنها قيما إبداعية تحقق لها جماليات الرؤية فى صور فنية متعددة، فجدارية جامعة حلوان تتسم ببيئة ثقافية مختلفة حيث يرتادها نوعية من الجماهير تسمح  بتوافر قدر ما من الوعى الثقافى يكفى لتقبلها بصريا واستيعابها فكريا، وهى تتميز بوضوح الأشكال واستقلاليتها. وتتجلى أهم هذه الأشكال فى كتلة الجسم الأنثوي المصور فى معالجة رمزية لتتسيد الفراغ التشكيلى فى أعلى اليسار تعادلها الكتل الهندسية والأشكال الدائرية فى الفضاء الأزرق تم ترديدها بصورة متوازنة بتصوير البناء الهيكلى للماكينات والآلات، تحقيقا للتماثل الشكلى إلى جانب التناغم اللونى لإكساب العمل مزيدا من الحيوية والتنوع.
وقد يلجأ الفنان إلى محاولات التعديل والحذف والإضافة رغبة فى إضفاء البساطة وتجنبا لتكدس العناصر وامتلائها بالتفاصيل التى من شأنها تشويه اللوحة وبالتالى تشويش عملية الإدراك.
وتتمتع جدارية محكى القلعة للفنان محمد شاكر بهذا التناول الفنى والتى من شأنها إحداث المتعة البصرية وهى تضم مجموعة من الدوائر المتباينة الأحجام تتيح فى تداخلها استمرارية عملية الرؤية وتواصلها، وذلك لأن العين تدرك الأشكال المستديرة بسهولة ومن ثم الاستيعاب الكامل لأشكالها الداخلية إلى جانب انتقاء معالجة لونية رصينة ضمن لها رؤية متكاملة.
  ولأن أعمال التصوير الجدارى تتيح فرص الاقتراب منها وتحسس أسطحها الخارجية مباشرة فالفرد يمكنه أن يستشعر الطبيعة المادية لتلك الخامات والأسطح، فباتحاد حاستى البصر واللمس معا نتمكن من استيعاب قيمة العمل وإدراك أهميته بصورة أفضل. وجداريات الفنان عبد السلام عيد أتاحت له حرية التعبير عن أفكاره وتناولها بحرية مطلقة، ورغبة منه فى استمالة عين المشاهد وانجذابه بدرجة أكبر استحدث أساليب تنفيذية جديدة كاستخدام الإنشاءات الجاهزة والمجسمات المعدنية وغيرها، لتكسب اللوحة مزيدا من الحيوية والتميز، فالعين الآدمية تنجح فى التمييز بين الملمس الحقيقى والمصطنع، وكلما نجح الفنان فى مزج تلك الخامات كلما أكسب لوحاته مزيدا من القيم الجمالية وتزداد قوة الإثارة بالإحساس المرئى لدى المتلقى.
 وهناك بعض أعمال التصوير الجدارى فى الشارع المصرى تحتوى على قيم جمالية متعددة، بما يحقق لها الجاذبية ومتعة المشاهدة، وذلك فى إطار معالجات فنية مصرية الطابع، يتضح فيها العزوف عن نسخ القوالب الغربية التى ينجم عنها تعميق الفجوة بينها وبين الأفراد، وهى تجسد إبداعا من نوع خاص تمثل فى انتقاء صياغات فنية مستساغة تميزت بالبساطة والعذوبة، والتى من شأنها أن تسهم فى هذا الدور الحضارى، وأن ما نحتاجه فى هذا الشأن هو التركيز على الأهمية المعرفية والثقافية لشتى صنوف الإبداع على اختلاف صوره، وإلقاء الضوء على طبيعة رؤية المشاهد العادى غير المتذوق، والذى يفتقد إلى الاهتمام من قبل المتخصصين أصحاب النظرة الواعية تمهيدا للارتقاء بمستوى ثقافته البصرية، والتمييز بين مظاهر الجمال والقبح واستبعاد النماذج التى فقدت سمات التميز والجاذبية ما سلبها متعة المشاهدة والاستمتاع الجمالى، وذلك لن يتم إلا بدراسة تخطيطية شاملة من قبل المسئولين والفنانين لمعرفة احتياجات الإفراد وما يرغبون فى رؤيته من تشكيلات بصرية متنوعة يسهل عليهم رؤيتها وإدراكها، وتتوافق مع معطياتهم الثقافية كخطوة أولية لإمكانية استيعابهم لها، حتى ليتسنى فيما بعد الارتقاء بها تدريجيا، لترتقى معها أذواقهم وثقافاتهم.