الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

صراع سلطة العلم والدين.. «وشياطين أخرى»!

صراع سلطة العلم والدين.. «وشياطين أخرى»!
صراع سلطة العلم والدين.. «وشياطين أخرى»!




كما يبذل المخرج وصناع العمل جهدا فى صناعته، يسعى وفريقه لوضع الجمهور تحت وطأة هذا الجهد، فلم يتنازل المخرج وليد الدغسنى عن حلمه وشغله الشاغل فى تناول قضايا اجتماعية وسياسية مغلفة بأفكار فلسفية، فهو مخرج مسرحى أقرب للمفكر فى همه الأول من يحمكنا ومن يتحكم بنا من كونه مخرجًا مسرحيًا تقليديًا، عندما تذهب لمشاهدة عروضه لابد أنك تعلم بأن عليك التفكير كثيرا فيما طرحه أمامك من عمل فنى وأفكار فلسفية وإسقاطات سياسية تحمل الكثير من العمق والتأويل وليس مجرد عمل عابر قدم اعتباطيا لملىء فراغ ووقت خشبة المسرح ضمن فعاليات أيام قرطاج المسرحية.

عن «الحب وشياطين أخرى»
«وشياطين أخرى» عرض مسرحى شارك خارج السباق وعرض على هامش فعاليات أيام قرطاج وهو مأخوذ عن رواية «الحب وشياطين أخرى» للكاتب جبرايل جارسيا ماركيز والتى تدور أحداثها حول سييرفا ماريا، الابنة الوحيدة لأسرة نبيلة متداعية فى القرن الثامن عشر يعتقد الجميع أنها مصابة بمس شيطانى ولهذا فقد أمر مطران الكنيسة بإلحاقها بالدير لتكون تحت الملاحظة. وهناك فى زنزانتها المنفردة تلتقى بالأب كايتانو ديلاورا، والذى كان بالفعل قد حلم بفتاة يجرجر شعرها خلفها. وهو يحاول علاجها بالماء المقدس والزيوت، يقع فى حبها. ويبدأ الصدام بين الحب الناشئ بينهما وسلطة الدين.

مسرحة الرواية
استغل وليد الإطار العام لفكرة الرواية وتدور أحداث العرض عن صحفى شاب طلب منه إعداد بحث عن بناية مهجورة، يتورط فى تصوير المكان فتبتلعه حكاية قديمة يجد نفسه أحد أبطالها الأسطوريين طبيب يجرى تجارب على فتاة غريبة الأطوار واناس يودون اختطافها لإقامة طقوس دموية توصلهم إلى الخلود وإقامة جنس آخر لايفنى.. يقع الصحفى فى غرامها ويجتهد لإخراجها من ذلك المستنقع فيتعرض للتجريد من الكرامات التى متعه بها سيد الكرامات فيجد نفسه فى العراء ولم يسانده الطبيب العبقرى أما الفتاة فتتمكن من سرقة العقاقير السحرية وتتمرد على الطبيب فتدمر مختبره وتجبر صاحب الكرامات الأكبر على نزع رداءه السحرى وتنتفض كسيدة خارقة، يستفيق الصحفى من الغيبوبة فيجد فتاة الخرافة تجلس إلى جانبه فى هيئة بشرية، والتى كان قد أصابها مس شياطنى من عضة كلب لكنها لم تمت كما مات الآخرون، نجد طوال العرض العالم ورجل الدين فى صراع طويل لا ينتهى كى ينفرد أحدهما ويفوز على الآخر فى الاستئثار بعلاج هذه الفتاة لكنها تنتصر بحبها عليهم فى النهاية أو بمعنى أدق هى انتصرت على شيطانها والشياطين الأخرى وهما العالم ورجل الدين، قدم وليد العرض بصورة أقرب للتجريد من التفصيل والتفسير فلم يدخل فى تفسيرات درامية كثيرة لشرح علاقات الشخصيات ببعضها البعض بل اعتمد فقط على مونولجات أقرب للغموض منها إلى الوضوح بين الفتاة والطرفين المتصارعين عليها كى يترك للمتفرج مساحة التفكير والتركيز وكذلك حرية التأويل للفلسفة التى أراد أن يبلغها، وقع العمل فى أكثر من رؤية وإطار فلسفى بدءًا من الاقتراب من عالم الميتافيزيقا أو عالم الروحانيات والعلاج من السحر ثم فلسفة العلاج بالحب وانتصاره فى نهاية الأمر على كل شيء رغم ما أعاقه دائما، والادعاءات التى يقودها رجال الدين للسيطرة على مصائر البشر وكذلك رجال العلم فهنا تكمن فكرة صراع العمل الأساسية فى الحرب بين العلم والدين من يحكم ومن ينتصر وفى النهاية انتصر من تجرد وانتفض وقاوم سلطة الاثنين واستسلم لفطرة الحب ودفع الغل والكراهية.
أكثر من فكرة وخط فلسفى يحتوى عليها العرض وكما ذكرنا تناول الدغسنى هذه الأفكار مسرحيا ببساطة فى استخدام الصورة وعمق فى توصيل المعنى مبتعدا كل البعد عن الرسائل والمونولوجات المسرحية المباشرة بل يتفوق دائما فى وضع المشاهد فى حالة من الحيرة والتفكير حتى يصل معه فى النهاية إلى العقدة الأساسية من العرض فلم يستخدم ديكورات سينوجرافيا ضخمة بل اعتمد على الإضاءة الخافتة وإمكانيات مسرح التياترو التابع للمخرج توفيق الجبالي، ثم كان اعتماده الأكبر على ممثليه أمانى بلج فى دور الفتاة المسحورة والتى قدمته بأداء مسرحى متقن بين التمثيل والتعبير الحركى ووقع عليها العبء الأكبر فى العمل لكنها استطاعت بمهارة شديدة الوصول بالمتلقى إلى الحالة التى عانتها فى حربها بين الاثنين، وكذلك كان منير العامرى فى دور الكاهن قدمه بمهارة واتقان شديد، وناجى قنواتي، وأسامة كوكشار، ففى النهاية نحن أمام عمل مسرحى غير تقليدى يمنح للفكر والخروج عن المألوف قيمة أكبر من اكتفائه بكونه عملاً فنيًا فقط، «وشياطين أخرى» مسرح لا يشبه المسرح..!