الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الفكر الدينى بين تطور الفنون وتدهورها

الفكر الدينى بين تطور الفنون وتدهورها
الفكر الدينى بين تطور الفنون وتدهورها




بقلم - د. نرمين المصرى

 

مما لا شك فيه أن الدين قد خلق للفن مسارا خاصا وكيانا متفردا أضفى عليه من الرقى والسمو ما حفظه وضمن له الإستمرارية والتطور، فالفن أظهر الجانب الروحى والمعرفى وأيضا الجمالى للدين على اختلاف العصور، ويلاحظ أن الفنون قد اتخذت طابعا عقائديا منذ القدم وكان الدين سببا فى نشأتها فى دول العالم المسيحى والإسلامى، حتى بداية عصر النهضة الأوروبى وبداية النظرة العلمية الموضوعية.
ومهما اختلفت الآراء فلابد من التأكيد على حقيقة واضحة هى أن معظم فنون الحضارات القديمة قامت بدعم وبدافع الدين وكانت نقطة انطلاقها الأساسية من جوهر المعتقدات الدينية، والعقيدة الروحية هى التى لا ترتبط بديانة بعينها وتتمثل فى اعتقاد الإنسان بأنه أحد المخلوقات الموجودة فى هذا العالم،وأنه ليس وحده فى هذا الكون، الكون الذى تحركه وتوجهه قوى خارقة تتحكم فيه وتسيطر عليه، هذه القوة عجز الإنسان البدائى فى تفسيرها وتحديدها فى عصور ما قبل التاريخ، أما فى الحضارات القديمة فقد سخرت الفنون لأجل خدمة الديانة، واجتهد المصرى القديم فى هذا التفسير فخلصت عقيدته الإيمانية إلى وجود حياة أخرى بعد الموت، هذاالإعتقاد كان سببا فيما خلفه لنا قدماء المصريين من فنون عديدة وحضارة لا مثيل لها على مدار التاريخ، فأبدعوا صورا فنية ورموزا متعددة للآلهة التى أوجدها خيالهم الفنى فى صور بشرية برؤوس حيوانات،أو صور حيوانات برؤوس بشر، واستلهموا صور القوى الكونية والظواهر الطبيعية كالشمس والسماء والنجوم، فى الإيحاء بقوة وهيبة تلك الآلهه التى قدسوها فى حياتهم وكانت لها الصدارة فى معابدهم وتماثيلهم وجدارياتهم، تجسدت الأخيرة فى تصاوير المقابر التى سجلت حياة الملوك الحافلة بالأحداث والاحتفالات والانتصارات،وكذا حياة الأفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية.
والحضارة السومرية واحدة من أهم الحضارات الإنسانية فى بلاد النهرين، حيث كانت المعابد السومرية والتماثيل والنقوش والألواح الدينية كلها تدورفى فلك العقيدة، لكن مع اتخاذ الفن فيها طابعا زخرفيا مختلفا.
وكان للعقيدة المسيحية صدى مختلفا فتركت بصمة واضحة صبغ فيها الفن بمسحة دينية مميزة فتعتبر فنونها بمثابة دروس تعليمية يتلقاها الأميون منهم والجاهلون بتعاليم الديانة، واتجه الفنانون بتوجيه ودعم من الرهبان ورجال الدين إلى تصوير قصص الكتاب المقدس التى تحكى موضوعات الخلق وتروى قصص الأنبياء ومعجزاتهم..وغيرها، وكانت سببا فى تنوع الرؤى الفنية تبعا لاختلاف الفكر العقائدى فى بلاد الشرق والغرب بدا فى الفنون المسيحية المبكرة وكذا الحضارة البيزنطية، وتأثرها بطابع كل مدينة كانت تابعة للإمبراطورية البيزنطية.
فى مصر ظهر الفن القبطى فى القرن الـ 4م، واتجه الفنانون إلى الأسلوب المبسط والمبالغة فى تسطيح أشكال الشخصيات الدينية المقدسة، لتعكس حالة من الزهد والتقشف بدا بوضوح فى الطابع اللونى، أما الفن البيزنطى فاشتهر بتصوير الأشخاص بكامل ملامحها وبالثراء الشكلى واللونى فى تنوع العناصر والوحدات الزخرفية النباتية والحيوانية والهندسية، فتجلى فن مغاير وطابع فريد للفسيفساء البيزنطية_لم ولن يوجد له نظير فى فنون الحضارات القديمة وحتى المعاصرة_ففى مساحات ممتدة شاسعة فى حنيات وجدران الكاتدرائيات والكنائس وقبابها المتعددة التى غطت الكنائس، واستلهام تلك المسطحات المعمارية والمستديرة لابتكار واختيار ما يلائمها من معالجات فنية بالفسيفساء الملونة ساد فيها-من ناحية أخرى-الفضاء الذهبى المتلألئ للتعبيرعن قدسية العقيدة.
ويتجلى بزوغ فن جديد وتناول شكلى مختلف من المعالجات الفنية للزجاج المعشق وخاصة بعد تأثر فن العمارة الأوروبية بروح العقيدة وظهور طراز القباب المدببة للعمائر الدينية خلال العصر القوطى فتميزت بناياتها بالإرتفاعات الشاهقة فى إشارة رمزية لسمو العقيدة وقدسيتها،واستمرارا لمبدأ تسخير الفنون لخدمة الديانة ،أن تحولت أعمال الزجاج المعشق المألوفة للنوافذ الممتدة باستطالة الجدران إلى ما يعرف بأيقونة الزجاج المعشق التى تصدرت الجدار الرئيسى للكنيسة أعلى المذبح،وهذا الشكل عرف بمصطلح نافذة الوردة Rose Window فى القرن الـ13م، حيث استمد تركيبه البنائى من شكل الزهرة وبتلاتها المتعددة فى اتجاهات مركزية دائرية، فاتجه الفنانون فيها إلى ملأ تلك المساحات الداخلية بمعالجة رمزية تجسد فكرة الكون ،والإله مركز الكون الذى تدور حوله جميع المخلوقات من الكائنات الحية فى صياغات فنية خاصة اتسمت بطابع متفرد، تباينت فيها صور وترتيب الشخصيات الدينية حسب أولوية ظهورها تبعا للتصميم البنائى لكل كنيسة، كان هدفها الأساسى إضفاء الهيبة والقدسية على الفرد المتعبد داخل الكنيسة.
ومع تباين الفكر العقائدى للفنان المسلم فى العالم الإسلامى وتأكيدا للمعانى الروحانية ونبذ الصورالمادية كتجسيد الأشخاص والكائنات الحية، فلم تندثر الفنون ولم ينحسر الإبداع بل ابتكر طراز فنى مختلف يتلائم والفكر الدينى الجديد،فجسد روح الفن الإسلامى بالتعبير عن حالة الخشوع والتعبد من وجهة نظر الفنان المسلم،الذى نجح فى خلق نموذج فنى مغاير يعتمد على مبدأ التكرار الفنى للمعالجات الهندسية الزخرفية فى قالب من السيمترية لينتج شكلا جديدا عرف باسم «فن الأرابيسك» تميز بتصميم إشعاعى مركزى، هو فى الأصل أيضا تجريد لشكل الوردة يتفرع منه وحدات هندسية فى اتجاهات دائرية لا نهائية تعكس وحدانية الإله الخالق، سبب النشأة والوجود فى هذا الكون، ظهرفى العديد من الدول الإسلامية، وازدهر بصور ملحوظة منذ القرن الـ8م فى أعمال التصوير بالفسيفساء والسيراميك وكذا الزجاج المعشق بالجبس فى مساجد مصر وايران وتركيا والقدس وقصور المغرب وأسبانيا فى معالجات تجريدية خالصة.
لم يكن الدين ولا ينبغى أن يكون عقبة فى مسار الفنون أو مدمرا لها لأنه على مدار التاريخ كان باعثا وموجها له، وإذا رأى البعض أن الدين قد كان سببا فى انحدار الفنون أو تدهورها أو القضاء عليها، لما أبدع الفنانون وتركوا لنا نماذج فنية وقوالب أصيلة انبثقت من مفهوم الفكر الدينى نفسه، فقد كان السبب الرئيسى فى ظهور العديد من أشكال الفنون والحضارات التى لولا وجود تلك الاعتقادات الروحانية ما ابتكرت هذه الفنون ولا وجدت مثل هذه الحضارات من الأصل.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم تكن فترة محطمى الصور فى القرنين الـ8 وبداية الـ9الميلاديين، إلا مرحلة انتقالية تمت بدوافع سياسية خشية من سيطرة وهيمنة رجال الدين، أعقبها صحوة فنية عظمى امتدت فى دول عديدة،وما كانت إلا نتاج فكر إنسانى متعصب لم يدم طويلا، والقرون اللاحقة محت آثارها وعبرت بالفن إلى أفق أكثر نضوجا وثراء وفرض الفن واقعا لا يمكن تجاهله فأصبح يمثل تاريخ الإنسانية كلها، هو من صنع حضارتها وأثرى ثقافتها، هو مرآة لكل الأزمنة وشاهد حى على كل العصور، فالفنون صبغت كل مدينة بطابعها المميز، وأكسبتها سمات فنية أثرت فى تشكيل ملامح بيئتها الخاصة وتخطيط مدنها وميادينها وتصميم عمائرها، ومايحدث من تدمير لبعض الآثار والأعمال الفنية ما هو إلا طمس لهذه الحضارات ومحو لتاريخها وأمجادها، وهو نتيجة طبيعة لحالة من القصور الفكرى وانعدام الوعى الثقافى، هذا الفكر المدمر الذى تدعمه بعض العقول الرافضة للرؤية الموضوعية وتذوق الجمال، ليس فكرا إنسانيا على الإطلاق لا شأن له بالدين أو التدين.
لقد خلق الله الجمال نتلمسه فى صنوف متعددة من المخلوقات، وفى كل ما يحيط بنا فى الطبيعة، وهذه رسالة خالصة للتفكر والتدبر فى جمال خلق الله وبديع صنعه ،ودعوة صريحة للإحساس بالجمال والاستمتاع به، والتى أوجدته الفنون المتعددة وجسدته فى صور كثيرة لا حصر لها، هى دعوة للبناء وليس للهدم، إن الدين والفن حلقة متصلة منذ الأزل، فالفنون خلقت من الدين وسخرت من أجله، ومازالت مستمرة بدعمه وهى موجودة الآن من أجل الحياة والاستمتاع بجماليات الحياة.