الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

وداعا عبد الغفار مكاوى.. «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء»




عاش فى هدوء، ناسكا فى محراب البحث والكتابة الأدبية، بعيدا عن الإعلام، وبهدوء أيضا رحل منذ أيام، فأخطأت -للأسف- بعض المواقع الإخبارية التى تناولت خبر وفاته فى صورته، إنه الأكاديمى والباحث والمفكر والناقد والأديب والمترجم الدكتور عبد الغفار مكاوي، الذى وهب حياته للعلم، لدرجة أنه تزوج بعد منتصف الأربعينيات من عمره، هذا الرجل الذى كتب فى المسرح: «من قتل الطفل»، و«الليل والجبل»، و«زائر الجنة»، و«بشر الحافى يخرج من الجحيم» وغيرها.

وكمبدع موسوعى كتب مكاوى عددا من المجموعات القصصية منها: «ابن السلطان»، و«الست الطاهرة»، و«أحزان عازف الكمان» وغيرها، أما فى مجال الدراسات الأدبية فقدم: «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، و«ثورة الشعر الحديث»، و«المسرح الملحمى جذور الاستبداد»، و«شعر وفكر» وغيرها، أما مجال الترجمة فأثر أيضا بعدد من الأعمال المهمة منها: «جوته الأقصوصة والحكاية»، و«برشت»، و«ملحمة جلجامش»، وفى الفلسفة كتب: «ألبير كامى .. محاولة لدراسة فكره الفلسفي»، و«مدرسة الحكمة»، و«نداء الحقيقة»، و«معالم الفلسفة» وغيرها.

عمل أستاذا زائراً فى جامعات ألمانيا والكويت واليمن، قتلناه بالصمت، بعد ان طاف بنا بين كنوز المعرفة القديمة والحديثة لدرجة انه جرى اتفاق ضمني، بينه وبيين الدكتور أحمد عتمان رائد الدراسات الكلاسيكية «اليونانية واللاتينية» فى العالم العربي، على أن يعلمه الدكتور مكاوى الألمانية فى مقابل أن يعلمه عتمان اليونانية واللاتينية، فقد كان عاشقا للعلم والحكمة أنى وجدت، فهو أولى بها، ينتمى الراحل إلى جيل الخمسينيات فى الجمعية الأدبية المصرية، وكان من أعضائها فاروق خورشيد، وعبد الرحمن فهمي، وعزالدين إسماعيل، وأحمد كمال زكي، وشكرى عياد، وعبد العزيز الأهواني، ورغم تخصصه فى الفلسفة الغربية على كثرة تياراتها ومذاهبها، فإنه اهتم أيضا بالفلسفة الشرقية لمصر القديمة ووادى الرافدين والسومريين والبابليين والآشوريين، وكان مثله الأعلى فى ذلك أستاذه الدكتور عبد الرحمن بدوي، الذى كان يتقن أكثر من لغة قديمة، وفى رأيه أن المثقف الحقيقى يجب أن يكون له اهتمامات جانبية مثل الآداب والعلوم، وكان يحاور تلاميذه بلغة الأديب ويشرح لهم أعمق الموضوعات بطريقة مبسطة جدا، وكان مغرما بالكلاسيكيات سواء فى التراث العربى أو التراث الإنساني، فقد التمس الحكمة فى الحضارة البابلية، والحضارة الصينية التى يعتبرها أمة غامضة، وترجم كتاب «الطريق والفضيلة» أو الحياة، وكتابه «تجارب فلسفية» جمع فيه بعض المقالات التى كانت مشتتة، تحت عنوان «فلسفة الحياة» لانها نابعة من الحياة، كما نعيشها ونكابدها كل يوم. انتقد مكاوى سيطرة قيم المنفعة والمصلحة، بعيدا عن معايشة الأسرار والأعماق والمنابع الحقيقية للحياة فى تراثنا التى لا تعلو عليها قيمة سوى الحياة ذاتها التى هى القيمة الكبرى والنهائية، وهى فلسفة كان على رأسها برجسون الفرنسي، وكان يرى أن مصطلح «صراع الحضارات» مفهوم استعمارى خاطئ، قصد به مصلحة أمريكا والصهيونية، واستثمر فى العراق فى أسوأ صورة على حساب الشعب العراقي، وربما يجرب فى بلاد عربية أخرى، هذا المفهوم وراءه أجهزة الاستخبارات الغربية، ويعتبر صمويل هنتنجتون عالماً مزيفاً لأنه يغالط فى الحقائق، وفى معلوماته عن الفكر الشرقى سواء كان عربيا إسلاميا، أو شرقيا صينيا، فهو مدسوس، والمخابرات الأمريكية تعمل بكتابه «صراع الحضارات» فهناك تعاون دائم بين الحضارات، بين السومريين جنوب العراق، وبين المصريين القدماء، هم اكتشفوا الكتابة فى وقت واحد تقريبا ولم يكن هذا مصادفة.

الدكتور أحمد عتمان يرى أن الوسط الثقافى العربى خسر الكثير برحيل مكاوي، الذى نقل وترجم كنوز الفلسفات الغربية للعربية، وكان صاحب شخصية جادة، وكان عزوفا عن المناصب، وعن ثقافة «الشو» الإعلامي، وكان صديقا لى ومؤازرا، كنا نتبادل الهموم والتأملات، وكان كلا منا يسعى إلى التعلم مما لدى الآخر، كنت أحاول أن أتعلم الألمانية، وهو كان يعرف شيئا عن اليونانية، رحمه الله كان صاحب شخصية علمية نزيهة.

أما الدكتور فيصل بدير عون أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس فيرى أن الدكتور مكاوى كان رجلا عف اللسان، كرمته جامعة القاهرة منذ أسبوعين، وعلى المستوى العلمى فحدث ولا تسل، كان صاحب تكوين علمى فريد، وأعماله العلمية تمثل علامات فارقة فى مجالها واذا كان الدكتور زكريا إبراهيم قد أطلق على أبى حيان التوحيدى لقب «أديب الفلاسفة وفيلسوف الادباء» فهذا اللقب يصلح أيضا للإطلاق على الدكتور عبد الغفار مكاوي، الذى كان له إسهامات لافتة فى مجال الكتابة المسرحية والقصصية ونقد الشعر وترجمته، وكان مدققا لأقصى درجة، ولا ينسب رأيا إلى قائله إلا وهو موثق توثيقا علميا، وكان يميل بطبيعة الحال إلى الاتجاه المثالى الذى يتناسب مع طبيعته.

الدكتور الطاهر مكى يرى أن الدكتور عبد الغفار مكاوى عالم موسوعى بامتياز ومن أبرز أعماله ترجمة الديوان الشرقى لجوته، الذى ترجمه ترجمة نثرية دقيقة وأمينة، بعد احتضان النص والفناء فيه والتخلى بقدر الإمكان عن إقحام الذات الشخصية والجماعية عليه، وكان رحمه الله يرى أن الترجمة هى الخطوة الأولى على الطريق لما يسمى بالأدب العالمي، لابد من تمثلها واستيعابها حتى نصبح جزءا من تكوين الوجدان الثقافى العربى.