مساكين الفيللات!
عبد الله كمال
أجلس في مقهي "امفتريون" العتيق في مصر الجديدة.. من حين إلي آخر.. وكنت مساء الأحد هناك مع صديق.. حين قاطعنا رجل مهندم ووقور.. أسمر مبتسم فوق الستين.. عرف نفسه بأنه (أبوالسعود الكريمي).. كان مندوبا سابقا لمصر في منظمة الطيران المدني الدولية في مونتريال.. ويبدو أنه قد توقع مني خيرًا.
سمح لي الأستاذ أبوالسعود بأن أذكر اسمه.. بل طلب ذلك.. ومشكلته لا تخصه وحده كما فهمت من وقائع سابقة.. والقصة تتعلق بقانون العقارات.. الذي بدأ يثير جدلاً بين كثير من المواطنين.. خاصة بعد أن بدأت المأموريات في مخاطبة أصحاب العقارات تطالبهم بتقديم الإقرار الضريبي.. لتسديد ما عليهم وفق القانون.
قال أبوالسعود :إن البلد أكرمه بأن أرسله إلي هذا الموقع المرموق في تلك المنظمة الدولية.. ومن ثم فإنه حين أنهي عمله فيها كانت أن وظفته خبيرًا لها في مكتبها بالقاهرة.. جمع خلال ذلك بعض المدخرات.. موظف كبير.. اشتري سيارة جديدة.. ودفع نحو 400 ألف جنيه في فيللا اشتراها من شركة مصر الجديدة بأسعار عام 2000 .. وهي الآن إذا بيعت وصل سعرها إلي أربعة أضعاف هذا الرقم.
لكنه لن يبيعها طبعًا.. بل جهز شقة لكي تسكن فيها ابنته التي قاربت الزواج.. غير أن معاش تقاعده لا يزيد علي 1200 جنيه.. ومن ثم لا يعرف كيف يمكن أن يدفع للفيللا ضريبة عقارية قيمتها سنويا نحو خمسة آلاف جنيه.
وقال أبوالسعود: إنه سمع في التليفزيون الوزير يوسف بطرس غالي حين عرضت عليه مشكلات مماثلة يقول: إن من يملك فيللا مماثلة يمكنه أن يؤجرها وبإيجارها يسكن في شقة أقل حجمًا.. أو يبيعها ويستغل مبلغها في نواحٍ أخري.
وهذا بالطبع حل غير عملي.. وإن لم أكن متأكدًا أن الوزير قال ذلك.. ولو قال فربما كان يمارس عادته المتكررة في السخرية.
كان الوقت متأخرًا ولم أرغب في مهاتفة الوزير يوسف بطرس لكي أستفهم منه.. غير أني أيقظت صديقنا الدكتور سامي عبدالعزيز من نومه.. خصوصًا أنني أعرف أنه يجري أبحاثًا حول القانون والرأي العام.. فقال لي: إن هناك حلولاً لمثل هذا الموقف.. وخلص إلي أن الشعار سيعبر عن معني أساسي (القانون عادل في حساباته بسيط في إجراءاته).
وما أعرفه كما قلت للأستاذ أبوالسعود، وقد رجعت إلي زميلتي محررة شئون وزارة المالية إسلام عبدالرسول، هو أن القانون يتيح لمن هم في مثل حالته أن يعودوا إلي وزارة التضامن لكي تعد تقريرًا عن أحوالهم الاجتماعية.. فإذا ما رأت وزارة المالية أن الحالة تنطبق عليها شروط ما.. فإن الخزانة العامة سوف تتكفل بدفع الضريبة نيابة عنهم.
وقد يكون هذا حلاً مقبولاً من ناحية المضمون.. ولكن شكله غير لائق من الناحية الاجتماعية.. إذ ما الذي يمكن أن يتكون لدي موظف بهذا القدر السابق من انطباع حين يكون مضطرًا وهو يسكن في فيللا في مصر الجديدة أن يجهز لنفسه بصريح العبارة (شهادة فقر)!
وأبوالسعود الكريمي ليس سوي واحد من عشرات.. بل ألوف.. يسكنون في عقارات فخيمة من حيث الشكل والموقع.. وسعرها زاد بفعل متغيرات السوق.. لكنها ليست ثروة.. بل موقع للسكن. مثلاً: مدرس قضي نصف عمره في إعارات خارجية.. وعاد بمدخراته.. ودفع تكاليف زواج ابنته.. واشتري شقة في حي معقول.. وأودع ما تبقي من مدخراته للإنفاق علي نفسه من ريعها الشهري في أحد البنوك.
أو ضابط سابق.. تمكن في الستينيات من أن يقيم في منشية البكري.. أو حتي شارع أحمد عرابي في المهندسين.. ولم يبق له سوي معاشه الذي يكفيه بالكاد.. فهل يمد يده إلي أبنائه.. وماذا يفعل إذا لم تكن لديه أسرة.. ولا ما يمكن أن يسدد منه الضريبة المقررة.
لابد أن هناك طريقة ما لحل هذه المشكلة.. هؤلاء يسكنون فيما يملكون ولا ينوون البيع.. ومن الممكن أن تكون هناك طريقة ما للتسجيل تسمح بالتعرف علي أحوالهم.. بدون شهادة الفقر.. فإذا ما افترضنا أنهم باعوا ما يملكون.. فإن علي القانون أو لائحته التنفيذية أن يفرض عليهم تسديد ما فات من ضرائب.. لم يدفعوها.. لكي يكون القانون (عادل في حساباته.. بسيط في إجراءاته.. ويصون كرامة الناس).
الموقع الإليكتروني: ten.lamakba.www
البريد الإليكتروني: [email protected]