الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مباراة فنية و الفائز الجمهور!

مباراة فنية و الفائز الجمهور!
مباراة فنية و الفائز الجمهور!




كتبت: هند سلامة

تمثل عودة المؤلف المسرحى لينين الرملى من جديد، عودة للروح والوعى للكتابة المسرحية، ففى ظل تمسك كثيرين بإعادة تمصير روايات وأعمال أجنبية، يعلن المسرح القومى أن الكتابة لاتزال حية ترزق بأنامل المؤلف الكبير لينين الرملى، والذى لا يعتبر كاتبا بالمعنى المفهوم لكلمة الكتابة بينما إن شئت وصفه بدقة، هو مفكر مسرحى من طراز رفيع، يطرح وينسج ما يراود خلده من أفكار متناقضة وجدل وتأملات سياسية واجتماعية على لسان وأفعال شخصياته، يفتح الرملى ضمن أعماله الكثير من القضايا بسلاسة وبساطة متناهية، فأعماله عادة ما تكون عامرة بالفكر والفلسفة المستترة دون حنجورية أو تعقيد!

الفلسفة المستترة..!
» اضحك لما تموت«  هو أحدث إنتاجات المسرح القومى، والذى عاد به الرملى للساحة مع المخرج عصام السيد وبطولة نبيل الحلفاوى، محمود الجندى، سلوى عثمان ، وإيمان إمام ، حمل العمل الكثير من العمق وتناول بالنقد والتحليل وضع المجتمع المصرى اثناء اندلاع ثورة 25 يناير، لم يتعجل لينين الرملى فى الكتابة عن الثورة وأحداثها مثلما فعل كثيرون بل تأنى وتأمل وصبر وفكر ودبر ثم قرر كتابة هذا العمل الفكرى السياسى والاجتماعى، الذى يصور وضع المجتمع المصرى بكل تناقضاته وجدله بسلاسة شديدة، من خلال الدكتور يحيى سعد استاذ التاريخ الذى قرر التقاعد ومقاطعة الحياة لشعوره بالفشل فى إحداث اى تغيير والذى ادى به لليأس والإحباط، يشاركه نفس اليأس صديقه طاهر الذى عزم على الانتحار بعد أن طلقته زوجته وطردته من المنزل وهجرته ابنته فشعوره بجحود من حوله جعله يلجأ للمبيت عند صديقه القديم يحيى و تجمعهما نفس ظروف الوحدة واليأس لكنه عندما يذهب إليه يجده بصحبة فتاة صغيرة من الشارع قرر يحيى تبنيها كى تساعده على الحياة الصعبة التى يعيشها حزنا على ابنه الذى هجره بسبب انتقاده لثورة 25 يناير فهرب من والده إلى الميدان واتخذ قرارا بمقاطعته نهائيا لأنه أصبح فلول..كما ذكرنا فى البداية يحمل العمل الكثير من الأفكار الفلسفية المستترة كان ابرزها فلسفة الموت بالحياة والشلل عن الإتيان بأى فعل حقيقى فهذا الرجل الدكتور الكبير يحيى سعد يتعمد النسيان بشرب الخمر رغم أنه دكتور بالتاريخ وينصح الثوار بالرجوع وقراءة هذا التاريخ كى يتمكنوا من إحداث تأثير وتغيير بالواقع لكنه فى نفس الوقت يتعمد نسيان هذا التاريخ، وقرر ان يعيش فى منزله كالأموات حتى طاردته جثة تشبهه وكأن روحه خرجت من جسده وتمثلت له فى شخص يطارده ويرتدى طربوش أحمر وكأنه ماضيه وتاريخه الذى يحاول التخلص منه بإنكاره فعاش داخله ميتا لأنه لم يستطع الخروج من الماضى ولا نسيان التاريخ، ثم يدعى انه شل عن الحركة أمام كل طبيب يزوره وكأنه يريد أن يؤكد على صحة شلله التام عن الفعل وليست هناك جدوى من تناول الدواء أو نصح الأطباء.
السهل الممتنع..!
         يبدو العمل بسيطا فى ظاهره معقدا فى باطنه من كثرة الأفكار والقضايا المتناقضة التى يحملها داخله ففى الوقت الذى يعيش فيه يحيى وصديقه طاهر أمواتا بالماضى يضج ميدان التحرير بإعلان عن ثورة وانتفاضة لمجموعة من الشباب وهى ثورة 25 يناير، التى يعارضها يحيى ويؤيدها صديقه لكنه غير قادر على المشاركة بها فهو منشغل بذكرى حبه الأول من حورية أو حرية الفتاة التى كانت تسكن بجوراهما ومن شدة انشغاله بها حلم بوجودها فنهض كى يرسمها كما كان يتمنى أن يراها بجانبه، ثم الفتاة المشردة التى تعيش بينهما والتى تعين يحيى على تقبل هذه الحياة البائسة بل أصبحت أمله فهو يحيا من أجلها بعد أن آواها بمنزله إثر تعرضها لحادث اغتصاب على يد مجموعة من المشردين، فأصبح يرى الحياة من خلالها ويقول دائما طوال أحداث العرض » تعملت اشياء كثيرة على يد هذه الفتاة لم أكن أعلمها من قبل «..
متعة ممزوجة بالألم
        برغم ما يحمله العرض من ألم إلا أنك لن تخرج من قاعة المسرح إلا وأنت فى حالة من البهجة والمتعة بل والراحة النفسية وكأن صناعه تعمدوا تقديم توليفة من السعادة التطهيرية، فى حين أنه يتناول حياة شخص افرط فى العيش داخل ماضيه الذى قتله فى نهاية المسرحية حتى أنه كان فى لحظات عدم وعيه بمن حوله يسترجع كلمات والدته ووالده وزوجته المتوفين، والخلافات التى كانت بينه وبين والده بسبب ثورة 1952 وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد وهو التاريخ الذى كان ينصح بقراءته والعودة إليه لكنه هو نفسه لم يقرأه أو يعود إليه لحظة خلافه مع ابنه وهجره له، استخدم المخرج عصام السيد تقنية جديدة على المسرح فى تجسيد لحظة انسحاب يحيى الى الماضى فى حديث ذكرياته مع الأموات فتم تجسيد هذه اللحظات مسرحيا بتقنية ال video mapping  وهى تقنية تجسد الممثل وكأنه خيال ظل على خشبة المسرح وخرجت خيالات يحيى فى والدته الممثلة لبنى ونس، والده الفنان يوسف اسماعيل، زوجته لبنى عبد العزيز، وابنه أحمد سمير عامر، كل هؤلاء الأموات طاردوا خيالات يحيى أو نبيل الحلفاوى على جدران ديكور شقته بالمسرح القومى فخرج العمل بمزج فنى متقن بين تقنية المسرح والسينما وكأنك تشاهد فيلما سينمائيا مع عدد من الممثلين الأحياء على خشبة المسرح، بجانب استخدام مشاهد من التصوير السينمائى لحياة ابنة صديقه طاهر إيمان رجائى التى هجرته إلى اوروبا فصور العرض حياتها واتصالها بوالدها المتقطع من خلال هذه الفيديوهات.
موت الماضى وإحياء عهد جديد!
     تزامنت أحداث الثورة مع سوء أوضاع هذين البائسين نفسيا وفكريا داخل منزل الدكتور يحيى سعد، وكأن هذا المنزل يمثل مقبرة الماضى وأحاديث الذكريات، بينما يمثل ميدان التحرير الأمل فى التغيير والرغبة فى الحياة والنجاة من هذا الموات وفى المشهد الأخير للمسرحية يدخل الثوار المنزل وكأنهم احتلوه بعد موت صاحبه موتا حقيقيا وجلوس صديقه على كرسيه المتحرك، فإقتحموه ليعلنوا البقاء وبعث الحياة فى الأرض بعد موتها.. وتنتهى الأحداث بموت الماضى وتوقفه بشلل صاحبه وولادة أفكار وعهد جديد..!
فن صناعة الضحك
  دأب لينين الرملى على صناعة الضحك بحرفة فنية غير معهودة فهذا الرجل يغزل الإفيهات والضحك بسلاسة فى الكتابة ضمن أحداث العرض فهو لا يفتعل الإفيه كى ينتزع الضحك من الجمهور بل يلحمه بحوار الممثلين وكأنه أسلوب حياة فتجرى الكوميديا بدماء العرض المسرحى وكأنها جزء اصيل منه لا ينفصل، أو بمعنى أدق يقوم بتعشيق الإفيهات بعظم العمل كله بحيث لا يمكن خلعها من الحوار فيضحك الجمهور فى حميمية وسلاسة واندماج مع الممثلين، لم تساهم فقط كتابة الرملى فى خلق هذه الحالة من المعايشة الجماهيرية بل رسختها ووضعت البصمة النهائية عليها بساطة أداء نبيل الحلفاوى ومحمود الجندى الذى جمعتهما مباراة فنية كبيرة كان الرابح فيها الجمهور، الذى استمتع برقى التناول وخبرة السنين، الحلفاوى رجل تنبض ملامح وجهه برائحة تراب وتاريخ مصر، وكان اختيارا موفقا وموحيا عن شخصية استاذ التاريخ التى لعبها بحرفة فنية عالية اجتمع فيها الفضل لملامح الوجه المصرية الأصيلة وخبرة سنوات فنية طويلة فخرج بأداء بسيط مرن ينتصر للقرب من الجمهور وناسيا أو متناسيا نجوميته أمامهم، ومحمود الجندى الذى يمثل صناعة البهجة بالعمل بمجرد دخوله إلى خشبة المسرح وسلاسة أدائه فى إلقاء الإفيهات وكأنه فى جلسة عائلية وليس عملا فنيا، وكانت مفاجأة العرض الممثلة إيمان إمام التى قدمت شخصية فتاة الشارع ببساطة وتلقائية وخرجت بهذا العمل عن الشكل التقليدى الذى كانت تقدمه بأعمال مسرحية سابقة فتخلت عن حاجز التمثيل الذى كان يحول بينها وبين الجمهور واتجهت إلى شكل آخر أكثر هدوء وعفوية فإنسجم أداؤها مع القطبين الحلفاوى والجندى، كما كان لكل من تامر الكاشف فى دور الفتى الثورى، وزكريا معروف فى دور الدكتور وحمدى حسن شخصية الجثة والفنانة سلوى عثمان فى دور عشيقتهم القديمة حضورا قويا ومؤثرا بالعمل ولقوا جميعا ترحيبا جماهيرا كبيرا، ففى النهاية هذا عمل فنى متكامل أعاد للمسرح القومى هيبته، اتقن صناعته مخرج كبير وكاتب كبير ونجوم كبار، كما أنه يعيد الأسرة المصرية لشغف الخروج فى سهرة مسرحية تجمع العائلة، العرض ديكور محمود الغريب، مدير التصوير عبد الرحمن سمير، وإخراج الفيديو أحمد عصام السيد، ملابس نعيمة عجمى، موسيقى هشام جبر، تعبير حركى شيرين حجازى، إضاءة ياسر شعلان.