الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع .. المقبرة

واحة الإبداع .. المقبرة
واحة الإبداع .. المقبرة




يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 550 كلمة» على الإيميل التالى:    


[email protected]

اللوحات للفنانة مى حشمت


المقبرة

كتبتها - نجلاء نعيم


انتفض من غفوته ليجد نفسه مستندًا على الجدار الرخامى لإحدى المقابر، لا يدرى ما الذى أتى به إلى ذلك المكان الموحش فى تلك الليلة الباردة وهذه الساعة المتأخرة من الليل، هب مذعورًا ينفض ما علق به من تراب، أو هكذا خيل له، وأسرع الخطى نحو بوابة المقابر وهو يتساءل: أى أحمق أنت يا آدم، ما الذى أتى بك هنا؟!
ازدادت مخاوفه حينما لمح خيالًا يقترب منه، وأسرعت دقات قلبه حتى كاد أن يشج صدره ولكنه تمالك أعصابه وثبت فى مكانه دون حراك.. وبدأ ذلك الخيال يقترب منه شيئًا فشيئًا  حاملًا فى يده مصباحًا يشع ضوءًا غريبًا غير معتاد، وبدت ملامح ذلك الخيال تتضح فبدا شيخًا عجوزًا، ذا لحية بيضاء يرتدى جلبابًا أبيض ودنا منه ثم ألقى عليه السلام قائلًا:السلام عليكم.
هدأ آدم قليلًا فلم يسمع من قبل أن شبحًا يلقى السلام، ورد قائلًا: وعليكم السلام، من أنت؟!
ابتسم الشيخ ابتسامة هادئة وقال: أنا أولى بذلك السؤال منك، من أنت وماذا تفعل هنا؟!
ارتبك آدم وحاول أن يتذكر أحداث ذلك اليوم ولكنه بدا مشوشًا، فتلعثم قائلًا: أنا، أنا، لست أدرى، لماذا جئت هنا..ولكن على أن انصرف الآن.
رد الشيخ فى حنو بالغ: لا عليك يا بنى اهدأ قليلًا واطمئن أنا معك الآن.
شعر آدم بقليل من الارتياح لذلك الرجل، فتراجع للخلف خطوتين حتى استند على جدار المقبرة، وقال: ولكن أخبرني، هل أنت الحارس هنا؟.
أجاب العجوز مازحًا: هل أبدو لك كحارس، لا يا ولدي، فأنا أسكن هنا.
تعجب آدم وقال: ماذا، ؟! تسكن هنا، فى المقابر.. بين الأموات؟!
نعم..ولا تتعجب..فالحياة بين الأموات قد تكون أفضل كثيرًا من الحياة بين الأحياء.. ولكن أخبرنى.. هل تذكرت شيئًا بعد، هل تذكرت الجنازة مثلًا؟!
عقد آدم حاجبيه وضاقت عيناه وهو يحاول التركيز، ثم تساءل: جنازة، إية جنازة، آه..نعم..تذكرت..لقد كنت أسير فى تلك الجنازة اليوم ولكن لماذا لا أستطيع تذكر التفاصيل الأخرى ولماذا بت هنا؟!
ابتسم العجوز وقال: دعنا نتذكر سويًا.. لمن كانت تلك الجنازة؟! هل هو أحد أقاربك؟!
رد آدم فى حيرة: لا أعلم، لا أتذكر، أظن، نعم نعم، تذكرت..كان الكثير من أقاربى يسيرون بجواري..عمي، وخال لي..أتذكر أيضًا وجه أمى وهى تبكي..يا إلهي، لم أر أبي، هل هو، أبي؟!
مط العجوز شفتيه قائلًا: احك لى أكثر ماذا حدث..لا تفقد ذاكرتك هكذا؟
- ذاكرتي..ربما ارتطمت رأسى بشيء..آه.. الآن تذكرت، إنه الحادث!
أى حادث تقصد؟!
- بالأمس كنت مع أبى فى زيارة لأحد أقاربنا.. وبينما نعبر الطريق فاجأتنا سيارة مسرعة.. و.. و.. يا إلهي..إنه أبى.. لقد ألقى أبى بنفسه أمامى ليفادى اصطدام السيارة بي، نعم الآن أتذكر كل شيء.. لقد نقلنا الأهالى إلى المستشفى.. بيد أنى لم أصب.. ورأيت أبى ملقى على سرير مجاور، والدماء تسيل من جبهته.. ولكننى ظننت أنه جرح بسيط، وغفوت قليلًا حتى استيقظت على صراخ أمي، ولم يكن أبى فى فراشه..و.. ويبدو.. أننى فقدت الوعى مرة أخرى.. يا ربى.. مات أبى،  واجهش آدم فى البكاء وهو يقول..مات مضحيًا بحياته من أجلى.. رحمتك يا ألله
ربت الرجل العجوز على كتفه قائلًا: فلتهدأ يا ولدى.. ما فعله والدك كان ليفعله أى أب غيره..
- أنا السبب.. أنا السبب.. سامحنى يا أبي
- صدقنى هو يسامحك الآن.. ولا يحزنه..سوى فراقك
جفف آدم دموعه.. وانتبه قائلًا: لماذا تبدو مألوفًا، حتى نبرة صوتك.. أظن أنى سمعتها قبلًا
ابتسم العجوز مشيرًا إلى المقبرة التى يستند عليها آدم ثم قال: أنا صاحب تلك المقبرة
بهت آدم وارتعدت فرائسه، وقال متلعثمًا، ماذا، ماذا تقصد، هل أنت، لا، لا، مستحيل
قال العجوز: أتدرى من هو صاحب تلك المقبرة
التفت آدم ليقرأ الاسم على شاهد القبر.. وقال بصوت مرتجف، مدفن عائلة المنشاوى
وصرخ مفزوعًا: يا إلهي..إنه قبر جدى المنشاوى هل أنت..
قاطعه العجوز باسمًا: نعم أنا هو ولكن عليك أن تهدأ وتطمئن
تراجع آدم للوراء حتى كاد يقع، وهو يسأل: عفريت؟! أنت عفريت جدي
ضحك العجوز ضحكة عالية وقال: عفريت؟! جزاك الله خيرًا
لا لست عفريتًا، ألا تؤمن بالأرواح الطيبة يا ابن ولدي؟!
- أنا لا أصدق ذلك ، هل أنا أحلم الآن؟
- هذا يتوقف على اعتقادك فى الحياة..إن كنت تعتقد أن حياتك هى الواقع، فاعتبر ما أنت فيه الآن حلمًا.. وإلا فالعكس صحيح.
صاح آدم وقد كسا الغضب ملامح وجهه: أنا لا أفهم تلك الألغاز..وإن كنت جدى حقًا.. أو ليس من الأولى أن أرى أبى، أين هو، إذن، ولماذا تظهر أنت وهو لا.
أجاب العجوز فى هدوء: ظهرت أنا لأستقبل ولدى.
- إذن أين ولدك.. أين أبى
تنهد العجوز وقال حائرًا:ألم تفهم بعد، اليوم فتح قبرى.. ليدفن فيه، أحب الناس إلى قلبى، من صدمته تلك السيارة اللعينة، من دفن اليوم هنا، لم يكن هو، بل كنت أنت!!!