الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أبرزهم.. أصلان والبساطى وسالم وعبد الغفارمبدعون أخذهم 2012 ورحل




غيب الموت العديد من نجوم الإبداع المصرى والعربى والمفكرين الذين أثروا الحياة الثقافية والفكرية بكتاباتهم العام الماضي، منهم: الدكتور عبد الغفار مكاوى والمفكر الكبير ميلاد حنا والكاتب الساخر جلال عامر، والروائى إبراهيم أصلان ، والروائى محمد البساطي، والشاعر حلمى سالم، وآخر ثلاثة رحلوا بعد معاناة مع المرض. ومن هؤلاء المبدعين نذكر:
 
محمد البساطى .. الطفل الضاحك بعد الستين
 
عندما تحدثه تبهرك تلقائيته العذبة، البساطى كاتب عاش بصدق هموم حياتنا وواقعنا وأعماله تشكل مرحلة مضيئة لجيل الفن الروائى فى أدبنا الحديث، مرحلة أرست تقاليد فنية أصيلة للرواية العربية تلقى بظلالها دائما على الاجيال الجديدة من الروائيين، وفى رأينا أن التقليد الأساسى الذى أسسه وعمقه وأصله البساطى هو ارتباط الكاتب –بوعي- بواقعه وإشكالياته وحركته، فالواقع المصرى تم رصده بشكل مكثف فى أدبه، من خلال رؤية إنسانية كلية وحسية، والبساطى من مواليد نوفمبر 1937 بقرية الجمالية المطلة على بحيرة المنزلة بالدقهلية، حصل على بكالوريوس التجارة، وعمل فى بادئ الأمر بمديرية أمن سوهاج، ثم عمل فى الجهاز المركزى للمحاسبات حتى تقاعد عن العمل عام 1997 وكانت آخر أعماله الروائية: وسريرهما أخضر 2011 التى صدرت قبل اندلاع ثورة 25 يناير بشهرين، كان تقريبا يصدر كل عام عملا بشكل منتظم وعندما كنت ألفت نظره إلى هذه الحيوية والتدفق فى الكتابة كان يقول: امسك الخشب يا واد، وشعور الشخصيات بالسجن تيمة أساسية فى أعمال البساطى منذ روايته الأولى (التاجر والنقاش) 1967، ثم أفرد لتجربة السجن عملا مستقلا وهو رواية (أسوار) ، وكذلك مجموعته القصصية (محابيس) 2002، وكانت آخر اعماله عن تجربة السجن أيضا (وسريرهما أخضر) التى تطفح ايضا بالايروتيكا، كما سلط البساطى الضوء على عالم المهمشين والمقموعين، كما فى روايته (غرف للإيجار) ومجموعته القصصية (نوافذ صغيرة)، والقرية لها حضور قوى فى أعماله لأنها المكان الذى عاش فيه مرحلة الصبا، وهى أهم مرحلة فى تكوين الكاتب، وهناك فضول شديد ليرى كل شيء ويعرف كل شيء، وتبقى الذكريات مخزنة، نجيب محفوظ ظل يكتب كل أعماله عن فضاءات خان الخليلى، البساطى الذى تجاهلته الدولة منذ بواكير موهبته حكى لى ذات مرة أن يوسف السباعى سأله ذات مرة عن رأيه فيما يكتب .. فقال له البساطى (مش بطالة) وغضب عليه يوسف السباعى وحرمه من دخول جنة وزارة الثقافة، وقد حصل على جائزة ساويرس، وفى مرض موته الأخير منحته الدولة جائزة الدولة التقديرية.
 
 

 
أصلان .. «مالك الحزين» الباحث
 
عن الهوية
 
نحن نظلم صاحب رواية (مالك الحزين) الروائى الراحل إبرهيم أصلان لو توقفنا كلية عن إبداعه الباهر النابض بحياة التحام قلم مصرى أصيل وحكيم عانى وغامر وعرك وتمرس بالحياة الشعبية فى حى الكيت كات بإمبابة، فى أدنى درجات السلم الطبقى وقد استوعب هذه البيئة وهضمها وأفرزها مثل دودة القز والحرير فى ملحمة واقعية نقدية شعبية وتراجيديا إنسانية مليئة بأفانين الحكي، وأنماط من البشر من أهل الهوى والفنانين والسياسيين والمثقفين والنخبة والمهمشين من ملح الأرض.
 
إبراهيم أصلان حسب النقد الثقافى متجاوز لأقانيم جماليات وتقنيات النقد الأدبي، يمثل حالة ثقافية وفنية شاملة ينحت بأصالة النحات المصرى القديم، لوحات ونماذج حية متفجرة بالقوة الفنية والحكمة من ينبوع النحت المصرى وتراكمه الحضارى سر التكوين.
 
 لقد دفع إبراهيم أصلان ثمن الكتابة المنحازة والمنتمية للمقهورين والمهمشين من أبناء الحى كرمز للعالم ككل، دفعها بأن ظل حتى الستين مجرد موظف فى مصلحة البريد، يعانى حياة أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة، ورغم ذلك ظل دءوبا على الابداع الروائى والقصصى الباهر فى صمت وكبرياء، لقد كان أصلان مخلصا لقوميته وعروبيته وكان حزينا لسيطرة الروح الانهزامية والانبطاح والتطبيع مع العدو الصهيونى وقد انتقد اصلان النظام المخلوع فقال: (انت تعيش فى ظل نظام لا رؤية لديه، ولا يعمل من اجل الارتقاء بالمجتمع والنظر الى المستقبل) وقد صدرت أولى مجموعاته القصصية (بحيرة المساء) أواخر الستينيات ثم توالت أعماله: يوسف والرداء، وردية ليل، ومالك الحزين، وعصافير النيل، وخلوة الغلبان، وحكايات من فضل الله عثمان، وشيء من هذا القبيل، حيث يوهمنا أنه يكتب عن أشياء بسيطة حيث يقول فى كتابه (شىء من هذا القبيل): إذا حدث وقرأت قصصا لا تتعرض لأى من الأحداث أو القضايا الكبيرة التى نعيشها، فلا تظن ان هذه القصص المعنية بصغائر الامور كانت بمنأى عن هذه الأحداث الكبيرة أبدا فالأحداث الكبيرة هى كبيرة أبدا فقط، لأنها تصوغ وتلون المناخ أو المزاج العام الذى يعيش فيه الخلق من عباد الله، وهى تؤثر بالتالى أعمق التأثير فى تفاصيل الحياة اليومية وفى طبيعة العلاقات العادية بين الإنسان ونفسه، وبالآخرين، وبالدنيا التى يعيش فيها، والسعى فنيا من أجل التعبير عن طبيعة هذه العلاقة الإنسانية هو وظيفة الفنون جميعا.
 
وأصلان لم يكن غزير الإنتاج شأن أبناء جيله، لأنه لم يكن مشغولا بالكم ولكنه مشغول بالكيف والنوعية وكان يرد على الذين يتساءلون عن قلة إنتاجه: الحياة ليست فى حاجة إلى اختراعات جديدة، ومادة الكتابة مطروحة أمامك، وما عليك إلا الانتقاء، دعك من الثرثرة الفارغة، وقد شبهه النقاد تارة بديستوفسكي، وتارة بتولستوى، وأخرى بفلوبير، لأنه كان يختار اللفظة المحكمة فى موضعها المناسب، ولديه دقة فى التصوير ولذلك ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات العالمية وآخر أعمال الراحل (حجرتان وصالة)، حيث البيت البسيط المتواضع الذى يجسد موطن الإنسان الأول ومأواه، يحمل بين جدرانه هموم ساكنيه وذكرياتهم من الطفولة إلى ما شاء الله، لذلك يصبح كل ركن من أركانه، وكل زاوية من زواياه جزءًا يوميًا من حياة الإنسان أى أنه يعامل البيت مثل جسد وروح أى بمعناه الفضائى الذى لا يتوقف عن الحدود المادية للمفهوم.
 
ومن أبرز المعارك التى خاضها إبراهيم أصلان هى إقدامه على نشر رواية (وليمة لأعشاب البحر) للروائى السورى حيدر حيدر التى أثارت ضجة كبرى، ضمن سلسلة (آفاق الكتابة) التى كان يتولى اصلان رئاسة تحريرها رافضا الوصاية على معتقدات الآخرين باسم الاسلام، وقد تم اقصاؤه من رئاسة تحرير السلسلة عقب نشر الرواية، بعد ان قدم حوالى أربعين عملا لأهم المبدعين فى العالم العربى مثل : يوسف الصايغ ، وعبد الوهاب البياتى ، وعبد الرحمن منيف ونازك الملائكة ، ومحمد الماغوط ، وزكريا تامر، وسعدالله ونوس.
 
كان أصلان مؤمنا بأن الثقافة يصنعها المثقفون وقد تولى قبل رحيله بشهور قليلة الإشراف على مشروع مكتبة الأسرة ولكن القدر لم يمهله لتقديم رؤيته فى عالم النشر التى تقوم على الاتساق بين الفكر والمسلك .. رحم الله كاتبنا الرائع إبراهيم أصلان.
 
 

 
 
حلمى سالم.. أيقونة
 
 السبعينيات الشعرية
 
حلمى سالم الشاعر المتمرد بحق من أبرز زعماء جيل السبعينيات فى مصر، اشترك فى تأسيس جبهته الشعرية، وتثوير ذائقته الإبداعية، والقطيعة مع التيارات السابقة .. ثم لم يلبث أن ركن إلى اليسار ووجد فيه ملاذا لرؤيته المتمردة.
 
يرى الدكتور صلاح فضل أن حلمى سالم جسد فى شعره تحولات الثورة العربية من عصر الأحلام الوردية إلى فترة الكوابيس المروعة، وقد طالته نرجسية الشعراء الذين يرون أن البقاء للشعر، والخلود لرموزه، وكل ما عدا ذلك باطل وقبض الريح، وفى ديوانه (الغرام المسلح) لا يلقى عن كاهله عبء حمولاته الثقافية والأيديولوجية وهو يحشد فى قصائده القصار مجموعة من المطارحات النشطة لعدد من رموز الفكر والفن الكبرى.
 
ومن أبرز المعارك التى خاضها حلمى سالم المعركة التى أعقبت نشر قصيدته الشهيرة (شرفة ليلى مراد) والتى ترتب عليها مصادرة مجلة إبداع فى عهد النظام السابق، بحجة الإساءة للذات الإلهية وأعلن سالم أن حرية التعبير قيمة عليا، أكاد أقول مقدسة فى كل وقت وكل مكان، لكن لو كان هناك نص به تجاوز من أى نوع، فالسلوك المتحضر إزاءه هو نقده لا حرقه، وتفنيده لا مصادرته، فالرأى بالرأي، والمقال بالمقال، والفكر بالفكر، أما المصادرة والحبس والطعن بالسكين فهو عمل العاجزين عن السجال، وعمل الفاشلين، وعمل وكلاء الله على الأرض الذين لم ينبههم الله للدفاع عنه، وكان يرى أن قصيدة النثر تطور طبيعى للشعرية العربية وهى نبت طبيعى ذو أصول عربية قديمة ومتوسطة وحديثة ولذلك فسوف تزدهر أكثر وأكثر، والشعرية الحقة غير مرتبطة بالوزن، فهناك قصائد موزونة لا شعر فيها أبدا.
 
 
وكان سالم يرى أن الشعرعلاج ليس للأمراض النفسية فقط، ولكن علاج للأمراض العضوية أيضا فيقول سالم فى أحد حواراته: الشعر كان الشعر بالنسبة لى منقذا من الخلل أو الانحراف أو الخيانة أو الارتداد أو السقوط على أى نحو، لأن الشعر يجمل الشاعر وينقيه ويصونه من الخراب، لقد كنت فى بداية حياتى الشعرية أرى أن الشعر سيغير الدنيا إلى العدل والحرية والاشتراكية، لكننى مؤخرا صرت أكتفى من الشعر بأن يحمى صاحبه فقط من الانتحار أو الكسب الحرام أو القتل أو السرقة أو العمل مع المباحث وهذا دور إيجابى للشعر لا مزيد عليه.
 
وعضويا لقد أنقذنى الشعر من براثن جلطة المخ، حيث توقف النصف الأيمن من جسدى تماما، وعندما بدأت أكتب التجربة شعرا بأصابعى التى لم تستطع الإمساك بالقلم بشكل جيد، شعرت أننى انتصرت على المرض، لقد ركبت المرض بالشعر وعلوت عليه ووضعته أمامى على الورق وصرت ألعب فيه، فأخرجت ديوان (مدائح جلطة المخ)، وطلبت من الدكتور جاير عصفور أن يكتب له مقدمة لأنه كان قد خاض مثلى بعدى بشهرين تجربة جلطة المخ، وأردت معه أن نقدم نموذجا إنسانيا لقهر المرض، أنا بكتابة الشعر وهو بنقده.
 
وتقول الناقدة فريدة النقاش: حلمى سالم أحد أصدقائى الأوفياء الذى دافع عن قيم الجمال الخالص فى الأدب والعلاقات الانسانية، وكانت المسيرة التى قطعناها معا على مدى ربع قرن من عمر مجلتنا (أدب ونقد) استشرافا دءوبا لثورة 25 يناير التى أنا على يقين أنه مات سعيدا لأنه رآها تمشى على الأرض وعاش مع شبابها أياما مجيدة وإن كانت عملية الانقضاض عليه من (الكابات والعمائم) قد آلمته ألما عظيما، رحم الله شاعرنا المتمرد حلمى سالم.