الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المؤرخ عاصم الدسوقى (1): «ناصر» أعاد تجربة محمد على فى بناء مصر الحديثة

المؤرخ عاصم الدسوقى (1): «ناصر» أعاد تجربة محمد على فى بناء مصر الحديثة
المؤرخ عاصم الدسوقى (1): «ناصر» أعاد تجربة محمد على فى بناء مصر الحديثة




حوار - مروة مظلوم

يوليو 1952 ويناير 2011 كلا التاريخين شاهد على نقطة تحول كبيرة فى تاريخ مصر ليس على المستوى السياسى فقط ولكن على المستوى الاقتصادى والاجتماعى وحتى الثقافي، وبعيداً عن الشعارات والفجوة الزمنية بين الثورتين وما أفرزته كل منهما على المستوى الثقافى من روح إبداعية حقيقية وظهور أعلام أضافوا لتاريخ الثقافة العربية دعونا نرصد ماحققته كلتا الثورتين على أرض الواقع فى حوار خاص لروزاليوسف مع المؤرخ المصرى الكبير د.عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث والعميد المؤسس لكلية الآداب جامعة حلوان، نقرأ معه صفحات من تاريخ مصر الحديث.

■ مصر بين ثورتين يوليو 1952 ويناير2011 اختلفت تماماً إجتماعياً وثقافياً واقتصادياً.. حدثنا عن تلك الفكرة؟
المناخ الثقافى فى تلك الفترة تأثر بقيام ثورة يوليو وما أحدثته من تغيير جذرى وتطور إقتصادى وإجتماعى فى إدارة شئون المجتمع المصرى وكان فى هذا تكرار لتجربة محمد على - مؤسس مصر الحديثة بشهادة الغرب- إذ بعثها جمال عبد الناصر عندما أعاد دور الدولة الإقتصادى والإجتماعى ومنها الجانب الثقافى الذى انتهى بعهد محمد علي، الأمور كلها أصبحت تحت رعاية الدولة ويتولاها الزعيم فالزعيم فى اللغة هو الكفيل الذى يتكفل بشئون الناس دون أن يطالبوه وليس كل رئيس زعيم، فعندما عمم ناصر مجانية التعليم مثلا لم يكن بناء على مظاهرة كما أسس المجلس القومى الدائم وهكذا كان دور الدولة وفقاً لرؤية الزعيم كانت لها السيطرة الاقتصادية على الوحدات والخدمات الاجتماعية والوضع الاجتماعى للمصريين إذ قامت الثورة فى يوليو وفى سبتمبر من نفس العام صدر قانون الإصلاح الزراعى فى مصر فحدد الملكية لـ 200 فدان ووزعت الأراضى على الفلاحين الذى يعملون فى نفس الأرض وفى 15 سبتمبر صدر قانون تخفيض ايجارات المساكن المبنية منذ عام 1943 بغض النظر أن هذه القوانين أضرت بفئة فى المجتمع إلا أن أى قانون يصدر يفيد مجموعة ويضر بآخرين، العبرة فيه باستفادة الغالبية الغالبة فإذا كان المتضررون نسبة ضئيلة إذا القانون صحيح.. كذلك فى أكتوبر 1952صدر قانون منع الفصل التعسفى فمعظم عمال المصانع آنذاك كانوا لا يعملون وفق عقود صاحب العمل من حقه طردهم دون أى ضمان فصدر القانون يمنع الفصل إلا بمحاكمة لخطأ ارتكبه العامل ويحضر محاكمته عضو من النقابة والعقوبات متدرجة، كلها قوانين كانت تحمى الغالبية الغالبة فى المجتمع المصرى «العمال الفلاحون الموظفون» إذا الإجراءات الثورية خلقت مناخاً جديداً يتيح لفئات الشعب فرصة للإبداع كل فى مجاله وفتحت قنوات للتعبير عن الرأى ترعاها الدولة فى الفنون والمسرح والثقافة وجعلت لها وزارة ووزير وخصصت لها نفقات من ميزانية الدولة.
■ تعنى أن البعد الإجتماعى لثورة 1952 أفرز أدباء هذه المرحلة ولكن معظم الأدباء ينسبون إبداع هذه المرحلة أنه نتاج للمرحلة الليبرالية ماقبل ثورة يوليو؟
هذا المناخ أثر على أدباء وشعراء تلك الفترة فبدأوا كتابة قصص ومقالات ودراسات تصف هذه الأجواء والتغييرات السريعة فى المجتمع «الثورة» لاينكر أحد على ثورة يوليو كونها مصدر إلهام لما أحدثته من تغييرات إجتماعية جذرية فكانت بيئة خصبة إحتضنت إبداع أدباء المرحلة الليبرالية فى وصفها، إذ كان تركيز الأعمال الأدبية فى هذه المرحلة على تصوير واقع وتناقضات المجتمع فى تلك الفترة فكتب يوسف إدريس «الحرام» لتصوير الواقع لإجتماعى فى الريف، و»العيب» لتصوير الحياة فى المدينة، والمسائل نسبية عن ماهية «الحرام» و»العيب» فماتراه عيباً لايراه أحد أخر عيباً وماتراه حراماً لايراه الآخرون حراماً ركز على «فقر الفلسفة وفلسفة الفقر « كان هناك رواج، عبد الناصر أنشأ وزارة الثقافة فى حين لم يكن لها منظومة حكومية ترعاها وتولاها ثروت عكاشة وهو أحد الضباط المثقفين وله قلم ومن هنا بدأت رعاية الدولة للثقافة مسرح، سينما، أوبرا، معاهد فنية.
■ معظم المسئولين عن المؤسسات الثقافية والصحفية فى تلك الفترة كانوا «مثقفين برتبة عسكرية» هل ترى فى ذلك تحيزاً أم انضباطاً لإيقاع المنظومة مع احتياجات الدولة؟
ليس لها علاقة بالتحيز الفكرة لم تكن فى كونه ضابطاً وإنما فى كونه كاتباً مؤثراً فى تلك الفترة مادام يكتب، فعلى سبيل المثال «يوسف السباعى روائى وقاص، «ثروت عكاشة» دكتوراه فى التاريخ الإسلامى و»ابن قتيبة»، «أحمد حمروش» كاتب، الفكرة المشوهة عن الضباط أنهم لايجيدون إلا الأوامر وهذا أمر خاطئ وماذا عن حسه الثقافى وموهبته فهو انسان فى المقام الأول.
■ هل كان للشللية وجود وأثر واضح فى المجتمع الثقافى آنذاك؟
الشللية طول عمرها موجودة فى مصر، موروث ثقافى لا ينقرض، فالإنسان يأمن لمن حوله وهذا له عواقب كأن تأتى بابن مجموعتك، زميلك فى الكلية جارك فى الشارع وتوليه مسئولية فى موقع مقرب منك فى منصبك الجديد، العيب ليس فى كونه قريب العيب فى ألا يكون هذا الشخص على نفس مستوى الكفاءة المطلوب بما يضر الوظيفة أو موقع المسئولية وبالتالى يسبب خلل فى المنظومة، الشللية عيب مستشرى فى المجتمع المصرى حتى اليوم، وهناك صدف أن من يقع عليه الإختيار يكون متكافئ مع متطلبات الوظيفة لكن ليست شرطاً.
■ ثورة يوليو كانت شرارة لثورات أخرى فى الأدب؟
عندما فجر عبد الناصر فى الناس الإهتمام بالذات والثقافة والتعبير عن ذلك بإجراءاته الثورية عبر عن عموم الجماهير الموجودة وقتها فكان من باب أولى أن يسير الكتاب والشعراء على ضوء التغيير ويواكبو التطور السريع فى المجتمع بثورة فى مدارس الشعر المختلفة فحدث الانقلاب على الشعر من العمودى إلى الحر إلى العامية فلم تقتصر الثورة على السياسة ولكن على منهج الشعر أيضاً وظهر عبد الرحيم منصور وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودى ألوان من الشعر لم يألفها الشعب المصري.
■ وصفت ناصر بالزعيم أو الكفيل فهل كان ملهماً بما يكفى للأدب فى مصر؟
عبد الناصر كان رجلاً بسيطاً لكنه ملهم واضح ظاهره هو باطنه سريع الرد ليس كمحترفى السياسة، اليوم عند سماعى لأى من رجال السياسة فى أى حوار إذاعى أو صحفى أعرف أنه لايقول الحقيقة، على سبيل المثال أثناء دعوة الغرب لإنضمامه إلى الـmiddle east command بعد الثورة أخذ اسماً اخر «منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط» والذى شهد فترة الحرب الباردة مع السوفيت فجاء «دالاس» وزير الخارجية الأمريكى يسوق للحلف من اليونان وحتى أسيا وقابل جمال عبد الناصر أثناء التفاوض مع الإنجليز على الجلاء فى مايو 1953 وعرض عليه عضوية منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط فسأله عبدالناصر ببساطة الدفاع عن الشرق الأوسط ضد من؟ فأجابه «دالاس» ضد الشيوعية فرد عليه عبد الناصر لايوجد خطر على الشرق الأوسط من الشيوعية لو هناك خطر حقيقى على الشرق الأوسط فهو من اسرائيل..هذا هو «ناصر» ظاهره وباطنه واحد ومنذ ذاك الوقت اعتبره الأمريكان عدواً يمثل خطراً ويهدد أمن اسرائيل منذ تلك اللحظة وانضمت العراق بعد ذلك إلى الحلف وأطلقوا عليه «حلف بغداد» الذى حاربه عبد الناصر فيما بعد،  قصص عبد الناصر ومواقفه خلقت له شعبية لدى الناس جعلتهم يلتفون حوله باعتباره الزعيم واحداً منهم يمثلهم فى أفكارهم البسيطة.
■ معظم الكتاب والأدباء فى عهد عبد اناصر تعرضوا للاعتقال ورغم ذلك لم يعب أحدهم على عبد الناصر أو يكرهه.. بما تفسر ذلك التناقض كيف فصل بين الإختلاف السياسى وعلاقاته الشخصية؟
الفكرة هنا فى أن السياسة نشاط خارج منطقة الأخلاق، وهناك عيب صارخ فى الخلط بين ثلاثة ةمصطلحات للأخلاق، وهى تنظر للأمر من خلال العادات والتقاليد والدين، هناك «اللاأخلاق» وهى النقيض نظرة لا أخلاقية للأمور لا يحكمها تقاليد ولا إنسانيات ولادين، وهناك الـ «nonmoral» وهى أنشطة خارج منطقة الأخلاق منها السياسة، بمعنى أنه لايجب أن تحكم على النشاط السياسى من خلال نظرة أخلاقية «السياسة براجماتية» أى عمل نفعى تحقق من خلاله أهدافك بأى وسيلة، كما فى المثل الشعبى «اللى تغلبه العبه» فمن حق أى سلطة تدافع عن نفسها ضد من ينتقدها من الأقلية بينما تدعمها الأغلبية، فلو كان هناك زعيم ولديه أخلاق هل يسمح لمعارضيه بالهجوم عليه وإزاحته؟!.
■ لكن هناك من الكتاب من وظف قلمه المعارض فى تسجيل إحتجاجهم متسترين بأعمالهم الأدبية؟
ونجحوا فى ذلك وترك لهم مساحة حرة للتعبير دون المساس بهم مثل نجيب محفوظ الذى انتقد سياسات ناصر ومواقفه من خلال رواياته وأهمها «ثرثرة فوق النيل» فكلاهما كان يعرف ماوراء الكلمة الكاتب والزعيم، أذكر مصادفة أثناء حضورى لقاءات نجيب محفوظ فى مقهى ريش يوم الجمعة فترة الثمانينيات فحضرتنا سيرة عبد الناصر وقال محفوظ إنه عندما جاء ناصر لافتتاح مبنى الأهرام عام 1964 فأوقف هيكل الكتاب صفاً لإستقباله كان من بينهم توفيق الحكيم ولويس عوض صافحهم عبد الناصر بعد تعريف هيكل لشخص كل منهم حتى توقف عند نجيب فصافحه ناصر وضغط على يده قائلا «إزيك ياسى نجيب» فعلق نجيب أثناء روايته الموقف «لو قالى يانجيب بس مش هزعل ياواد يانجيب مازعلش لكن ده قال «ياسى نجيب» وكأن ناصر يبعث له برسالة بعد روايته «ثرثرة فوق النيل» بمعنى «أنا فهمك يعنى ومع ذلك سايبك «.
«يوسف إدريس» كان نقده صريحاً لذا اعتقل، ناصر يدافع عن نفسه لكن الرموز فى الكتابات تحتمل الجدل وتحمل أكثر من معنى، كذلك محمود أمين العالم عضو الحزب الشيوعى كان فى معتقل الواحات وفى يناير 1959 أصدر عبد الناصر قرارات التأميم وبدأ الحديث عن الإشتراكية فبعث «العالم» برقية من محبسه إلى عبد الناصر يحيه موضحاً أن هذا الإجراء بحاجة إلى تنظيم سياسى جديد غير الإتحاد القومى فتحول إلى الإتحاد الاشتراكى، زملاء «العالم» انتقدوه فرد أن عبد الناصر يحقق مايطالبون به من أهداف اشتراكية فلما لايدعمه، المهم أن يتحقق الهدف بغض النظر عمن يحققه، أى أنه ارتفع فوق الجرح وشهد شهادة الحق الموضوعية، نحن الآن نفتقر إلى هذه النماذج والعقليات الناس تظل أسيرة لما تعانيه من جراح شخصية لا العامة.
■ بعض الإجراءات والقوانين الثورية الناصرية لاقت نقداً مثل قانون الإصلاح الزراعى إذ إنه لم يكن هناك ضوابط على احتياج الدولة من المحاصيل كل فرد يزرع مايحلو له.. ماتعليقك؟
غير صحيح كان هناك جمعيات زراعية ودورة زراعية تحدد فيها أنواع المحاصيل واشراف الدولة ظل مستمراً حتى عهد مبارك الأمر لم يزد عن نقل الملكية من كبار الملاك إلى المستأجرين «الفلاحين» فما كانوا يملكونه من أراض لم يشتروها أصلاً، هى منح وعطايا بدءاً من محمد على وإسماعيل بهدف تكوين «عزوة» أو قوة إجتماعية تسندهم فتواصلوا مع شيوخ وعمد البلاد «الصفوة» وأفاضوا عليهم بملكية الأراضى ليكون الولاء لهم.. لكن فى الحقيقة الأرض لمن يزرعها لذا نقلت الملكية للفلاحين، الجمعيات التعاونية كانت تقدم مستلزمات الإنتاج بسعر مناسب وتورد بسعر مناسب ماحدث بعد ذلك فى عهد مبارك عندما تخلت الدولة عن دورها وتفككت العلاقة مع المزارعين تحت عنوان تحرير العلاقة بين المالك والمستأجرعام 1992 وانتهت الجمعيات الزراعية أصبح الفلاح يشترى مستلزماته من السوق الحرة بأسعار مبالغ فيها فى الوقت الذى لم ترفع فيه الدولة سعر التوريد فأصبحت غرامة على الفلاح فأنصرف الفلاح عن الزراعة وبدأ بالاستيراد.
■ هل كانت معارك المثقفين فى الستينات تختلف شكلاً وموضوعاً عما نعيشه الآن عقب ثورة يناير؟
كانت كلها مابين تدعيم وتمجيد الثورة وقوانينها و بين نقدها بالرجوع إلى ماقبل 1952 من خلال المقالات الصحفية، وهناك الكثيرون ممن لم يهتموا بالنقد فى سياقه الموضوعى، على سبيل المثال عندما تم إلغاء دستور 1922 فى ديسمبر 1952 هناك من هاجم عبد الناصر لإلغائه الدستور الليبرالى الذى يدعم الحريات لكن بقراءة الدستور نجد مادة فيه تقول إن نظام الحكم فى مصر ملكية وراثية وهو أمر غير منطقى الإبقاء عليه، فألغى ناصر الدستور وقام بإعلان دستورى مؤقت وشكل لجنة لوضع دستور وكان من بين أعضائها قيادات سياسية قبل ثورة 1952 مثل مكرم عبيد، اللجنة كتبت مسودة الدستور لكنها لم تلتزم الحيادية ولم تضع الدستور وفق السياق الجديد للثورة فمثلا مادة عن النشاط الإقتصادى فى مصر أن يكون نشاطاً حراً، ومادة أخرى يُشترط لمن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية ألايقل سنه عن 45 سنة وهو مايحرم عبد الناصر وزملاءه الضباط ماعدا محمد نجيب من الترشح للرئاسة، هذا الدستور كتب عنه صلاح عيسى مقالاً بعنوان «دستور فى صندوق زبالة» وانتقد عبد الناصر دون قراءة الدستور بموضوعية والنظر للإجراءات خارج السياق، كذلك هناك من انتقد الوحدة بين مصر وسوريا علماً بأن جمال عبد الناصر سعى لقيام وحدة عربية فى المنطقة لأن أمن الدول العربية من أمن وسلامة مصر.