الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

يحيى حقى مبدع غلّف «ثورة التجديد» بـ «الموروث الشعبى»





خرج أديبنا من رحم الموروث الشعبى الأصيل وتغلغل فى النسيج المصرى بكل أطيافه وجاءت أعماله وكتاباته معبرة عن تلك الثقافة الشعبية المتوارثة القائمة فى معظمها على الأساطير، فى مقابل منهج علمى صاغه بلغة روائية بسيطة سلسة، ليسلط الضوء على مشكلات المجتمع الكبيرة بأسلوبه المفعم بالواقعية الناعمة، حيث يواجه المجتمع بمشكلاته، مقدما مقترحاته لحل تلك المشكلات، دون تجاهل الموروث الشعبى، كما تعمد أن يصدم المجتمع بما هو مسكوت عنه بكل تفاصيله، فكانت تلك طريقة المبدع الراحل فى معالجة مشكلات مجتمعه دون خدش موروثه الثقافى الذى يعتز به بل ويستند إليه فى أحيان كثيرة.

نقدم رؤية شابة فى احتفالنا بالذكرى الـ108، لميلاد الكاتب العظيم يحيى حقى (1905-1992) الذى أثرى مكتبتنا العربية بالعديد من إبداعاته التى ستظل ذات رونق خاص لا يتوارى على مر العصور.

عن يحيى حقى يقول الناقد الدكتور بهاء عبدالمجيد: يعتبر يحيى حقى من الرواد فى فن القصة والرواية والمقالة وكان تنويريا فى آرائه وأفكاره الخاصة بمجتمعه، وكان يرى أن وظيفة الأديب هى الإصلاح وتغيير قيم المجتمع خاصة البالية منها، وفى رأيى أن روايتيه «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم» من أقوى قصص الأدب العربى فى القرن العشرين، خاصة أنهما تناقشان الصراع بين التقاليد القديمة والحديثة خاصة فى المجتمعات الريفية والفقيرة، فـ«قنديل أم هاشم» تناقش الصراع بين العلم والدين، والطب الشعبى والطب الحديث، فى النهاية لا يستطيع البطل أن يتعايش إلا بمحاولة المواءمة بين الفكر الشعبى أو الوعى الشعبى البسيط، وبين تعقد المعرفة المتمثلة فى العلم والطب، لأن البطل وجد مقاومة شديدة من أهله فى قبول العلم وهو العلاج الحديث ولكن ظل التبارك بزيت قنديل الاولياء هو السائد. الصراع فى معظم اعماله بين الشرق والغرب لا يمكن أن نقول أن الغرب يمثل المعرفة والشرق يمثل الخرافة وإلا سنقع فى خطيئة المستشرقين، كما ذكر إدوارد سعيد ولا يمكن القول إنه صراع من أجل التحضر، أما فى «البوسطجى» فحقى حاول أن يناقش التقاليد البالية فى الريف عن طريق كشف الخطابات وأسرار البشر لدرجة أن الفتاة دفعت حياتها ثمنا للعار الذى جلبته لأهلها، كان يحيى حقى مستشرفا للواقع المصرى والعربى وكان يطمح جاهدا لتغيير نمط السائد للثقافة العربية.

وقال الروائى خليل الجيزاوي: الأديب الكبير يحيى حقى أحد الآباء الكبار للرواية العربية، ليس من ناحية الكم ولكن من ناحية الكيف، لقد أنجز واحدة من أهم وأفضل مائة رواية عربية صدرت خلال القرن العشرين 1900 - 2000 وهى رواية قنديل أم هاشم، لقد جسدت روايته الصراع الدائم بين العلم والموروث الدينى والشعبي، وأيهما يكون له الغلبة والانتصار فى النهاية، وطرح الكاتب يحيى حقى بتلقائيته وعذوبة مفرداته هذا الجدل وتلك الإشكاليات القديمة والمتجددة فى آن واحد: هل ينتصر العلم وحده بدون الدين والإيمان؟
وهل إذا انتصر العلم وحده ألا يعد هذا شططًا وبعدًا عن القيم الأخلاقية والروحية التى يضبطها الوازع الديني؟ وهكذا انحاز الكاتب الكبير ابن حى السيدة زينب إلى أن نجاح العلم هو فى احترام الموروث الدينى والاجتماعي، وهكذا وجدنا طبيب العيون يعالج مريضته بالعلم ويسمح باستعمال زيت القنديل، إنها رواية «قنديل أم هاشم».

من القضايا المهمة التى دافع عنها الأديب الكبير يحيى حقى وهى قضية الاختلاف بين كتابة الرواية والقصة القصيرة، هل نكتبها باللغة العربية الفصحى أم باللهجة العامية، واشتد الجدل بينه وبين عميد الأدب العربى د. طه حسين الذى كان يرى ضرورة كتابة الأدب باللغة العربية الفصحى، وانحاز عميد الرواية العربية نجيب محفوظ لهذا الرأى وكتب كل رواياته باللغة العربية الفصحى، ولكن الكاتب الكبير يحيى حقى كان يرى أن كتابة الحوار باللغة العامية ضرورة جدا لفهم أبعاد الشخصية واحتراما لمدلول اللهجة العامية عند الحوار، وضرب مثلا قائلا: عندما تشبك جارة مع جارتها من الأحياء الشعبية فى خلاف بسيط بينهما، فتقول لها جارتها: «وأنا أعملك إيه يا دلعدي».

هذه المفردة العامية «يا دلعدي» مهمة جدًا فى هذا الموقف، ولا بديل لها فى ألفاظ اللغة العربية، وهكذا انتصر الأديب الكبير يحيى حقى لكتابة الحوار باللهجة العامية، وسار معه الكاتب الكبير يوسف إدريس فى قافلة مدرسة أن السرد يكتب باللغة الفصحى، أما الحوار فلابد أن يكتب باللهجة العامية.

أما الكاتب عمار محمود فيقول: أخبرنا الكاتب الكبير نجيب محفوظ عن المفاجأة التى حدثت له عند قراءته لأحد أهم أعمال الكاتب يحيى حقى قائلا: تعرفت على الأستاذ يحيى حقى أديبا مبدعا حين قرأت له «قنديل أم هاشم» سنة 1945 م ولكنه كان يكتب قبل هذا التاريخ لأنه من مؤسسى القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى حيث إننى كنت متابعا لسلسلة «اقرأ» التى تصدرها «دار المعارف»، وكانت مفاجأة جدا لى لأننى وجدت أدبا عذبا جدا، جميلا جدا، إلى درجة أستطيع أن أقول معها أن «قنديل أم هاشم» والثلاث قصص الملحقة بها فى هذه المجموعة القصصية القصيرة استقرت تماما فى عقلي.

ويكمل عمار محمود: لك أن تتخيل العمل الأدبى الذى أحدث تلك المفاجأة لأديب نوبل، جزالة الأسلوب والعمق السردى والتماسك البنيوى فى النص القصصى والتجديد فى الشكل، مما جعل أحد أبرز الرموز الأدبية على الساحة العربية تؤمن بأدب يحيى حقى لدرجة الإصابة بإدمان قراءته وتقديمه للجمهور.

فالكتاب كثر والموهوبون كثر أيضا، لكن المبدعين قلائل جدا، ويعد يحيى حقى من أهم المبدعين فى القصة القصيرة ولابد من قراءة أدبه سعيا وراء المتعة والولوج إلى عوالم لن نصل إليها.
 ويقول الشاعر أحمد البريرى: من يقرأ قصص يحى حقى سيسرح مع الطفل الذى بداخله، ذلك الطفل الذى يدغدغ مشاعرنا حتى يصل إلى مبتغاه، ويلفت نظرنا إلى ما يريده بمنتهى التلقائية تجربته الإبداعية ووظائفه وخبراته الحياتية لم تغير من بساطته شيئا رغم أنه حصل على جوائز كثيرة، فإن ذلك جعله أكثر بساطة حيث كانت عبقريته تكمن فى إنسانيته وليس فقط كمفكر أو أديب أو ناقد ولكنه كان أكثر إنسانية مما يبدو عليه وهذا ما ظهر فى كتاباته، فقد أنار لنا بقنديل ام هاشم طريقا مظلما طريقاً ينزح بفلسفته وترجماته عنا جهلا، وهكذا كانت ابداعاته تنير طريقا أو تمهد آخر وكقارئ له ولغيره من المبدعين الحقيقيين الذين أثروا فكرنا وأمتعونا، أخشى من تجاهل المصريين لقيمة يحيى حقى لما أراه من ظلامية تلوح فى الأفق.