الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
"مصر أولاً" و "مصر أخيراً"
كتب

"مصر أولاً" و "مصر أخيراً"




 


كرم جبر روزاليوسف اليومية : 18 - 01 - 2010


إحسان يتحدث عن الفرق بين "الزعيم" و "الرئيس"


منذ أيام التقيت بالرئيس حسني مبارك في اجتماع ضم عدداً من الزملاء.. واكتفيت بالاستماع ولم أتكلم أو أشترك في المناقشة بل إن مرضي أعجزني عن البقاء حتي نهاية اللقاء.. ورغم أنه من المعروف أني لا أجيد التعبير عن فكري بالكلام إلا أنني يومها كنت أتمني أن أتكلم.


وآخر مرة جمعني حديث مع الرئيس مر عليه سنوات.. وكنت قد نشرت مقالاً أتمني فيه أن أحتفظ بثقتي في صحة القرارات التي يتخذها حسني مبارك.. والأحداث كلها التي يعيشها الوطن ترتبط بالقرارات التي يتخذها الرئيس.. وكان قد حدث أيامها الاعتداء علي طائرة مصرية مدنية فوق جزيرة مالطة.. واحترت أيامها كيف سترد مصر علي هذا الاعتداء.. هل سيقرر الرئيس حسني مبارك إعلان الحرب علي ليبيا.. سواء بإعلان الحرب أو بإعلان السلام.
فهل نرد علي الاعتداء بعملية إرهابية مقابلة.. إنني أيضاً لا أستطيع بعد التجارب العديدة التي مرت بها مصر في مواجهة الأحداث، أن أطمئن إلي التعامل الإرهابي.. هل معني هذا أن نستسلم لهذا الإرهاب جامدين صامدين كما يستسلم أي ضعيف؟!
**
وعشت حيرتي متطلعاً إلي القرار الذي سيتخذه الرئيس حسني مبارك.. وكتبت ونشرت أنني أتمني استمرار ثقتي في قراراته.. وقد جمعني بعد ما نشرته حديث مع الرئيس حسني مبارك طمأنني فيه إلي أنني سأظل محتفظاً بهذه الثقة.. وفعلاً.. تأكدت ثقتي واستمرت إلي اليوم.
والثقة في انتظار القرار الصحيح لا تحول دون إبداء الرأي قبل اتخاذ هذا القرار أو بعد اتخاذه.. كما أنني كنت اكتشفت أن كثيراً من هذه القرارات تعتبر خاطئة ومتعارضة مع الصالح العام.. ولكن.. ولأن حسني مبارك لا يتخذ أي قرار بدافع تحقيق مصالح خاصة متعلقة بشخصه.. أو متعلقة بمجرد فرض رئاسته.. فإنه هو نفسه كان يشاركنا في اكتشاف خطأ القرار الذي اتخذه ويعدله ويبدله بسرعة.. وهو ما يبدو واضحاً خلال تاريخ رئاسته. وإذا كنت أجلس في هذا اللقاء الأخير وأنا أتمني أن أتكلم.. فقد كان كل ما يدور في خاطري هو كلام في السياسة وليس كلاماً في الأدب العربي رغم أن المناسبة كانت متعلقة بإقامة صرح جديد للأدب العربي.
**
من الشعارات الأخري التي أطلقها خيالي السياسي هو شعار أقول به "إن مصر تعيش حالات ولا تعيش قضايا".. وفرق كبير بين أن نعيش "حالة، أو نعيش، قضية".. فإذا كانت حالة فهي تترك كل فرد يتحمل مسئوليته وحده في مواجهتها.. أما إذا كانت "قضية" فإنها تجمع الشعب كله في موقف واحد وتحرك واحد للوصول إلي هدف واحد.
إني أعتقد أننا نواجه مشكلة الغلاء علي أنها حالة ولا نرتفع بها إلي مستوي قضية وطنية.. لأنها حالة فإن كل فرد يواجهها وحده وبمجهوده الشخصي حتي أصبح المجتمع المصري يقوم فعلاً علي الانفرادية.. وكل واحد وشطارته.. ورغم أن السخط علي مشكلة الغلاء يعتبر سخطاً شعبياً عاماً فإن هذا السخط لم يتحول إلي اتخاذ موقف وطني كأن تقوم دعوة شعبية إلي اختصار وجبات الغذاء إلي وجبتين بدلاً من ثلاث.. أو دعوة شعبية لزيادة ساعات العمل دون زيادة الأجر حتي نرفع من مستوي الإنتاج.. أو دعوة شعبية لاستبدال الاعتماد علي السيارات بالاعتماد علي الدراجات.. أو.. أو.
لا أريد أن أستفيض في ترديد كل ما انطلق به خيالي السياسي في السنوات الماضية.. ولكن كان أول ما رسمه لي هذا الخيال هو أن حسني مبارك يمثل الجيل السياسي الجديد.. الجيل الذي أعقب جيل عبدالناصر وأنور السادات.. والذي تكونت شخصيته وعقليته السياسية والاجتماعية بعد تحقيق ثورة 32 يوليو لا قبلها.. والفارق كبير بين مسئولية كل جيل.
جيل كانت كل مسئوليته فرض الثورة وحمايتها.. وجيل أصبحت مسئوليته هي بناء الثورة وتحقيق أهدافها الوطنية الشعبية.. ولأن الجيل بدأ وعيه السياسي بعد الثورة فقد أصبح أقدر علي اكتشاف الأخطاء ومراكز الضعف فيما يجري حوله.. في حين أن الجيل الذي سبقه ولأنه يتحمل مسئولية هذه الأخطاء ومراكز الضعف فقد كان يتجاهلها وينكرها.
ثم أن هناك فارقاً آخر يحتاج إلي تفسير الحاكم أخيراً يستمد زعامته من قوة نجاح رئاسته.. فقد كان الحاكم يستمد رئاسته من قوة نجاح زعامته.. حتي لو فرضت عليه هذه الزعامة قرارات تتناقض مع مسئوليات رئاسته.
أضرب مثلا ًبما حدث في أوائل أيام الثورة فقد اتخذت القيادة قراراً تخطيطياً عاماً وهو أن نتفرغ لبناء مصر دون التعرض لأي وضع خارج مصر.. إلي أن يتم البناء وتصبح قوة تحمل المسئولية خارجها.. وكتبت أنا أيامها مقالات بعنوان "مصر أولاً" وواجهني كل كتاب العالم العربي بهجوم عنيف كأني أدعو مصر إلي التخلي عن عروبتها.
**
عبدالناصر نفسه استمر سنوات ورئاسته متفرغة تفرغاً كاملاً لبناء مصر وقد نجح فعلاً في تحقيق عدد من أسس هذا البناء.. وكان نجاحاً هائلاًً حقق لأول مرة قوة الشخصية المصرية وبالتالي قوة الشخصية العربية.. ولكن هذا النجاح غلب شخصية الزعيم علي شخصية الرئيس.
لم تقتصر هذه الزعامة علي مصر بل جعل منها زعامة عربية ثم زعامة عالمية.. وانطوت شخصية الرئيس المصري داخل شخصية الزعيم العالمي.. وأصبحت الزعامة تفرض ما لا يمكن أن يستسلم له الرئيس.. ولم تعد "مصر أولاً" من ناحية الحرص علي استكمال بنائها بل وصلت تصرفات الزعيم ودون أن يتعمدها إلي أن أصبحت "مصر أخيراً".
وصل هذا الفارق بين الرئاسة والزعامة الآن إلي الموضع الصحيح.. فحسني مبارك لا يحاول أن يستمد رئاسته من زعامته.. بل علي العكس يترك وصوله إلي الزعامة مستمداً من قدرته علي تحقيق مسئولياته كرئيس.
وأنا أومن بحاجة مصر إلي هذا الجيل السياسي الجديد.. وأعيش معتمداً أو متطلعاً ومتابعاً لتصرفات وإقرارات الجيل الجديد الذي يمثله حسني مبارك.. وتصر آمالي علي استمراره في رئاسة الحكم حتي أطمئن إلي استكمال ما لايزال ينقصنا.
وما ينقصنا كثير..
**
هذا هو إحسان عبدالقدوس الذي تحتفل مؤسسة "روزاليوسف" مساء اليوم بالذكري العشرين لرحيله.


مقتطفات من مقال: إحسان عبدالقدوس 01 أكتوبر 7891


E-Mail : [email protected]