الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عربات الجيلاتى كارثة متحركة

عربات الجيلاتى كارثة متحركة
عربات الجيلاتى كارثة متحركة




تحقيق - علياء أبوشهبة

 

بلهفة شديدة ينتظر الطفلان مازن وحلا مرور عربة الجيلاتي للاستمتاع بطعم المثلجات المنعشة فى حر الصيف مقابل جنيه لا يكلف والدتهما بائعة الخضروات فى سوق السيدة زينب كثيرا، وما أن تقترب العربة يتشارك الطفلان لهفتيهما لشراء المثلجات بألوانها الأخضر والبرتقالى والشيكولاتة، هو الأخضر ده بطعم إيه يا عمو؟ جرب طعمه ده حلو يشتريه الطفل بفرحة ويعود برفقة شقيقته.
عربات بيع الآيس فى الشوارع أو الجيلاتي كما يسميها البعض، عادت للظهور بكثافة هذا الصيف رغم انحسارها السنوات الماضية، وفى العادة يتم التقليل من خطورة بيع المثلجات فى الشوارع على اعتبار أنها تماثل أى مأكولات تباع لكنها فى حقيقة الأمر أكثر خطورة، وهو ما كشفته روزاليوسف فى السطور التالية...

رصدنا عملية تصنيع المثلجات والرحلة التى تمر بها حتى تصل للمستهلك، والأضرار الناتجة عنها، ووفقا لما ذكره الدكتور محمود محمد عمرو مدير مركز السموم فى مستشفى القصر العيني، فإن المثلجات المباعة فى العربات تعد شديدة الخطورة، إذ ينتج عنها الإصابة بالتسمم الغذائى الشديد والنزلات المعوية وكذلك الإصابة بالجفاف وحالات وفاة إسهال وقيء التسمم الغذائى الميكروبى وأحيانا يكون تسمما كيماويا بسبب الألوان المستخدمة فى تلوين الآيس كريم، كما أن خطورة التسمم بالمثلجات تتمثل فى عدة عناصر منها أنها عند تحولها لسائل وإعادة تجميدها تكتسب الميكروبات مناعة لأنها يتم تدريبها على التعايش مع درجات الحرارة المختلفة، وكل الظروف المتعلقة بتصنيع الآيس كريم تجعل منها قنبلة موقوتة لا بد من القضاء عليها.

بواقى الفاكهة وبودرة مجهولة

روزاليوسف رصدت يوميات أحد بائعى الجيلاتي كما يطلق عليه الأطفال، وفى حى السيدة زينب وعلى بعد أمتار قليلة من الميدان يتجول رفعت رجل أربعينى يتهافت عليه الأطفال بشكل أساسي، قال إنه يسكن فى إمبابة ويخزن عربة البيع فى مخزن قريب من ميدان السيدة زينب، وبالقرب من المخزن يشترى الثلج من أحد باعة المياه الغازية ليقوم بتقطيعه وخلطه بالملح ما يساعد على الحفاظ على درجة حرارته.
وبداخل إناء من الصاج يوجد الآيس كريم بلونيه البرتقالى والأبيض، وعن مصدر المواد الخام قال إنه يتعامل مع ورشة فى إمبابة يشترى اللبن من الباعة القادمين من المناطق الريفية فى الصباح الباكر، ويذهب إلى سوق العتبة لشراء ما يتبقى من الفاكهة، ولضبط النكهة يقول: الجيلاتين سعره مرتفع لذلك أشترى بودرة برائحة الفانيليا، بديلا للجيلاتين، تباع لدى بائعة المواد الخام للحلويات فى شارع الجمهورية ولديهم أيضا البسكويت والأكواب البلاستيك المستخدمة فى تقديم الجيلاتي.
قطع حديثه توافد الأطفال المتكرر عليه للشراء، وواصل قائلا إنه يعمل فى الشتاء بائع بطاطا وفى السنوات السابقة كان يبيع الذرة المشوية، لكن المثلجات أكثر رواجا، وبالأخص فى أيام المواسم، وفى رمضان يعمل من بعد أذان العشاء حتى ينهى بضاعته، والتى إذا ذابت يضطر إلى تثليجها مرة أخرى، وهو ما يحدث كثيرا بسبب الركود، وحرارة الجو.
وأوضح أنه يحرص على غسل الإناء المصنوع من الصاج، كلما أمكنه ذلك، وتوافرت لديه المياه لأن الأولوية لاستخدامها فى التصنيع، وأكد أنه يحرص على تقديم أفضل منتج لزبائنه لأنه يحرص على صحتهم وسلامتهم، ولأنه فى بعض الأحيان يمر فى نفس الشوارع.
هل حصلت على تصريح من أجل بيع المثلجات؟» سؤال أجاب «رفعت» عليه بالاندهاش لأنه أمر لم يسمع عنه.

اللبن والشيكولاتة منتهيا الصلاحية

ومن السيدة زينب إلى المنيل وبالتحديد على كوبرى عباس الذى يعتبره البعض ممشى وبمثابة فرصة للتنزه، وهو يوصل بين المنيل وميدان الجيزة، وبين العربات الخاصة ببيع الذرة المشوية والترمس، ينافس عم عزت البائع الخمسينى بعربته الصغيرة المزينة باسمه جيلاتى عزت ويتوافد عليه الزبائن، وبعضهم يشتريه حتى فى حالة ذوبانه فى أكواب ليكون مشروبا مبردا.
قال عم عزت لـ “روزاليوسف”  : بدلا من الجلوس فى المنزل وانتظار الدعم المادى من زوجتى المعيلة لأسرتى نظرا لظروفى الصحية التى تمنعنى من العمل المستمر، وفى أيام الراحة أترك العربة والأدوات لدى مخزن فى ميدان الجيزة، وأحرص على تغطيتها قدر الإمكان.
وعن طرق التصنيع أوضح أنه يشترى ما تبقى من الفاكهة من سوق الجيزة، كما أنه يستفيد من علب الألبان التى لم تباع لدى محال السوبر ماركت ويقوم بغلى اللبن أولا لأنه «أحيانا بيفصل»، كما يستفيد أيضا من الشيكولاتة غير المباعة لدى محال السوبر ماركت، والتى تستمر صلاحيتها لأيام تزيد على التاريخ المدون عليها، الشيكولاتة عمرها ما بتخسر أبدا وبتعمل طعم حلو العيال الصغيرة بتحبه هما كمان برضه حقهم يفرحوا بخمسين قرش، يقول عم عزت.

ورشة تصنيع تفتقد معايير النظافة والسلامة

روزاليوسف رصدت إحدى ورش تصنيع الآيس كريم، والتى تقوم ببيعه إلى الباعة الجائلين، الورشة عبارة عن حجرة أسفل عقار فى منطقة بشتيل الواقعة فى مدينة أوسيم، التابعة لمحافظة الجيزة، أمام الورشة تصطف العربات انتظارا لدورها فى الحصول على البضاعة، لوضعها داخل برميل خشبى محاط بالثلج المخلوط بالملح والذى يفقد برودته تدريجيا.
داخل إناء كبير يتم خلط المحتويات، ويتم تقليب المحتويات بواسطة عصاة خشبية طويلة، أكد أحد العاملين فى الورشة أنه يحرص على غسلها وغسل يديه قبل البدء فى العمل، ورغم تأكيداته المتكررة على الاهتمام بالنظافة إلا أن الواقع ينافى ما يقول حيث يبدو المكان قذرا وبه حشرات.
على ناصية أحد شوارع منطقة بشتيل، اعتاد عم رجب الصعيدي، الرجل الخمسينى الوقوف لبيع بضاعته، وصاحب ورشة بيع الجيلاتي، وقال لـ “روزاليوسف»: إنه مر عليه أكثر من 30 عاما قضاها بين حوارى المنطقة التى أصبح يعرفها جيدا، ليبيع الجيلاتى للأطفال، بعضهم كبروا وأصبح أبناؤهم يشترون منه الآن.
يبدأ يومه عم رجب فى السادسة صباحا، للاستعداد، أما البيع يكون بعد الواحدة ظهرا، خاصة فى فترة العطلة الدراسية، ويظل يعمل حتى منتصف االليل أو إنهاء بضاعته، والتى يبيعها بسعر لا يتجاوز جنيها واحدا على الزبائن الصغار، إلا أن عم رجب كان متحفظا عند حديثه عن ثلاثة أمور، أولها إجمالى قيمة ما يجنيه يوميا من عمله فى هذه المهنة الموسمية، والأمر الثانى هو قلقه من التناول الإعلامى لعمله، والثالث محاولته التأكيد على نظافة المنتج الذى يقدمه، لدرجة رفضه تجربة محرر التحقيق للجيلاتى الذى يبيعه، وشدد على حرصه إتقان عمله لأن أى ضرر يصيب طفلا من أطفال المنطقة قد «يقطع عيشه» من المكان إلى الأبد.
عن خطوات التصنيع يقول عم رجب : اشترى اللبن من فلاحين يأتون إلى المنطقة مبكرا، كما اشترى فاكهة رخيصة بالجملة من سوق العبور يستخدمها المصنع فى عمل الجيلاتى، ويعمل لديه خمسة بائعين للجيلاتى لحساب المصنع فى نفس المنطقة التى تنطلق منها نحو 5 عربات فى محيطها.
 يضيف عم «رجب» أن العربة الواحدة تستهلك 5 كيلو من اللبن و2 كيلو من السكر و3 كيلو من الفاكهة مع إضافة عدد 10 صفار بيض وربع كيلو من النشا ولتر من عصير الليمون، وطريقة التحضير تتمثل فى غلى الفاكهة على النار مع نصف كمية السكر، ويضاف عصير الليمون ثم يتم غلى اللبن مع باقى كمية السكر، ويضاف النشا بعد إذابته فى قليل من الماء ويضاف الفانيليا، وبعد برودة الخليط يضاف البيض ويصفى ويترك بالثلاجة لليوم الثاني، وبعد ذلك يوضع بالماكينة المخصصة للصناعة الجيلاتى ويكون جاهزًا للاستعمال ويتم نقله فى العربة.
   تساءل عم رجب صاحب ورشة تصنيع الجيلاتي، عن دور الدولة فى الإشراف على الباعة لضمان سلامة المنتج بدلا من تحذيرها للمواطنين من الشراء منه، وقال : كيف تنسى الدولة دورها الرقابى المتمثل فى التأكد من مصدر الأغذية وكيفية إنتاجها، سواء كانت جيلاتى أو غيره.
وأوضح أيضا أن بائعى الجيلاتى يعملون فى فترة تمتد بين شهرى مارس ونوفمبر من كل عام، تجمعهم الأساليب نفسها فى الحفاظ على الجيلاتى من حرارة الجو، بوضعه فى طبق كبير من الاستانليس داخل العربة الخشبية حوله ثلج مخلوط بالملح، ولكل واحد منهم منطقة يتحرك فيها بعيدا عن منافسه، موضحا أنه يجلس فى المنزل باقى شهور العام ويحاول تعليم أبنائه سر الصنعة.

كارثة متحركة

إلا أن الدكتور محمود محمد عمرو، مدير مركز السموم فى القصر العيني، يعتبر عملية تصنيع الجيلاتى المباع عبر العربيات بمثابة كارثة متحركة بمعنى الكلمة، وقال لـ«روزاليوسف»: «لو ركزنا فى التفاصيل سوف نجد أن القائم بالتصنيع نفسه لا يحمل تصريحا من أى جهة وهو شخص فى الغالب غير متعلم ما يعنى أنه ليس لديه الوعى الكافى لتقدير قيمة ما يقوم به، كما أنه لا يمتلك شهادة صحية تجيز له التصنيع، وفى حالة المثلجات ينبغى أن تجدد هذه الشهادة كل ثلاثة شهور.
يكمل مدير مركز السموم قائلاً: إذا نظرنا إلى المواد الخام المستخدمة فى التصنيع بالتأكيد لن يستخدم الصانع لبن درجة أولى بل يستخدم ألبانا مجهولة المصدر غير معقمة وقد تكون منتهية الصلاحية، يضيف إليه زبالة الفاكهة الفاسدة التى تستحق الرمى فى القمامة، بما فيها من عفن، إضافة إلى الشيكولاتة منتهية الصلاحية فى الغالب من المخلفات لدى محال السوبر ماركت، يضاف إليها ملونات مجهولة المصدر وهو ما يعنى أننا أمام منتج غذائى مسمم لا نحتاج إلى تحليله للكشف عن مدى سميته، لأن العناصر السابق ذكرها تكفى للكشف عن الكارثة».
فيما يتعلق بالأدوات المستخدمة فى التصنيع والحفظ وهى أوانى الصاج والألمونيوم من المحظور استخدامها فى إعداد الطعام، يضاف إلى ذلك استخدام ماء غير موثوق فى نظافته فهو بالتأكيد لا يستخدم مياها معبأة، وأيضا الوسط الذى يتم فيه التصنيع يعتبر وسطا ميكروبيا لأن الورش فى الأغلب فى مناطق عشوائية فقيرة، ويتم التصنيع فى مخازن وورش غير مرخص لها بالعمل ممتلئة بالحشرات والقوارض، وكذلك الحال بالنسبة إلى مكان تخزين عربة البيع.
وبالنظر إلى رحلة المثلجات بعد تصنيعها ووضعها فى إناء الألمونيوم يسير بها البائع فى شوارع بها ملوثات عدة منها مياه الصرف الصحى التى قد تكون تغطى أرضية الشارع إضافة إلى عوادم السيارات والأتربة والحشرات، يضاف إلى ذلك أظافر البائع نفسه أثناء تعبئة المثلجات وقد يكون مصابا بفطريات تينيا، والتى تنتقل بدورها عبر المنتج الذى يبيعه.
فى بعض الأحيان قد لا يوفق بائع المثلجات فى بيع بضاعته وهنا يعيد تجميدها مرة أخرى، وهو ما يعلق عليه مدير مركز السموم فى القصر العينى بأنه إجراء شديد السمية والخطورة لأن الآيس كريم فى هذه الحالة يصبح مخزنا للميكروبات فى درجة الحرارة المنخفضة، وإعادة التجميد يؤدى إلى تكوين مناعة لدى الميكروبات لأنه يدربها على التعايش مع درجات الحرارة المختلفة بخلاف البسترة.
الأمر الأكثر خطورة فى التسمم بالآيس كريم كما ذكر مدير مركز السموم فى القصر العينى أن المواطنين لا يضعون أى اعتبار لخطورته وعند الإصابة بالمضاعفات الصحية الخطيرة للتسمم الغذائى والتى قد تؤدى إلى الوفاة يتناسون أنه يمكن أن يكون سببا، نظرا لقلة الوعى.

قواعد استخراج تصاريح بيع المثلجات

فيما يتعلق بالدور الرقابى لوزارة الصحة روزاليوسف التقت الدكتورة مايسة حمزة، مدير عام إدارة الرقابة على الأغذية فى وزارة الصحة، وقالت: إن القانون رقم ٣٣ بشأن تصاريح بيع المثلجات يشمل عدة اشتراطات وهى تشمل آلية البيع وطريقة التخزين والتهوية، وسلامة المثلجات من الناحية الصحية ونظافة العربة ونظافة بائع المثلجات (الآيس كريم) ومظهره وملبسه، ومن ثم يتم استخراج شهادة صحية وترخيص بيع مثلجات من الإدارة.

 


 

الشركات الكبرى تنتج آيس كريم آمنا

نايرة مهنا، أستاذ ميكروبيولوجى الأغذية والالبان بالمركز القومى للبحوث، ورئيس قسم الألبان السابق، قالت لـ «روزاليوسف»: يعتبر الآيس كريم المنتج بواسطة الشركات الكبرى الخاضعة للرقابة يتمتع بالسلامة والأمان الصحى، الراجع إلى جودة المواد الخام المستخدمة فى الصناعة مع تطبيق الممارسات الصحية الجيدة، وفى مقدمتها بسترة المخاليط لضمان خلوها من الميكروبات المسببة للأمراض.


 

الأمراض الناتجة عن الآيس كريم مجهول المصدر

قال الدكتور عصام محمد ابراهيم، وكيل معهد التشخيص وصحة الاغذية التابع لمركز البحوث الزراعية بوزرة الزراعة: إن هناك معايير ضرورية لخضوع المنتج للكشف عن الملوثات، لتوافر تعداد معين للمكيروبات، إضافة إلى الكشف المستمر على نسب الميكروبات، وأنواعها لأن ميكروب «ايستريا» أو»باسيلا سيريس» أو بعض الميكروبات الأخرى يكون لها ضرر شديد على الصحة العامة؛ لذلك لا بد أن تكون المادة المقدمة للمستهلك خالية من الميكروبات خصوصًا ما سبق ذكره.