الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الثأر والميراث أبطال مسرح الجنوب

الثأر والميراث أبطال مسرح الجنوب
الثأر والميراث أبطال مسرح الجنوب




 أسوان - هند سلامة

انتهت فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان مسرح الجنوب بمحافظة أسوان، وبدأ المهرجان يتحسس خطاه نحو إكتساب الصفة الدولية خلال هذه الدورة وذلك عن طريق مشاركة دولة السودان ضمن فعاليات المسابقة الرسمية وكذلك حرص رئيس المهرجان الناقد الفنى هيثم الهوارى ورئيسه الشرفى المخرج عصام السيد على ضم عضو من دولة البحرين إلى لجنة التحكيم بمشاركة الناقدة المسرحية زهراء المنصور، حصدت السودان وفريق صلاح حامد التابع لقصر ثقافة الفيوم جوائز هذه الدورة وكذلك فريق النور للمكفوفين بقصر ثقافة اسيوط، كما كرم المهرجان اسم الراحل سيد خطاب، والمخرج والمؤلف المسرحى شاذلى فرح، والناقد الدكتور حسن عطية.

الانتصار للتنوع والاختلاف

انتصرت لجنة التحكيم للتنوع والاختلاف، والتى ضمت عضوية كل من الروائى أحمد أبو خنيجر والناقدة المسرحية البحرينية زهراء المنصور وكاتبة هذه السطور، شاهدت اللجنة ثمانية عروض مسرحية يصر معظمها على التكرار والتناول النمطى للشخصية الصعيدية والغجرية على وجه الخصوص التى لم يخل منها عرض وظهرت بنفس الصورة..الراقصة اللعوب الساعية للمتعة واختطاف حبيب البطلة بكل السبل وصاحبة الأخلاق الملتوية دائمًا، فمعظم الأعمال اعتمدت على تناول التراث الذى انحصر فى قضايا المرأة والثأر والتوريث وكأن الصعيد ليس به تراث آخر يستحق إعادة التفكير وسبر أغواره، فللموت أشكال متعددة ظهر عليها فى عروض المهرجان «عقول»، «ندية»، «زعف النخيل»، «ليلة بدر»، و»أطياف حكاية»، لكن فى المقابل انتصرت بعض العروض لقضايا مختلفة مثل عرض «شكاوى على جدران الزمن» الذى تناول رحلة الفلاح الفصيح فى عصر الفراعنة ببساطة وتلقائية فى عمل مسرحى انتصر للحركة والتمثيل والسينوغرافيا، فهنا تناولت المخرجة قضية جديدة من تراث صعيد مصر فى العصر الفرعوني، ثم جنحت للتجديد فى تكنيك تناول هذه القضية الذى إعتمد على الإضاءة والملابس وحركة الممثلين دون حوار منطوق، وربما كان من أكثر الأعمال لفتا للانتباه واستحق الجوائز التى حصل عليها، وكذلك كان العرض السودانى «جدع النار» الذى استعرض الأشكال الفلكلورية والتراثية من حياة السودان مثل طقوس الزواج والمرض والعلاقات الزوجية والإنسانية، وكان عيبه الوحيد عدم احتوائه على رابط فنى يضمن له تقديم الأحداث أو هذه الطقوس بشكل مسلسل ومنتظم بعيدًا عن الطريقة العشوائية السريعة التى قدمت عليها، والتى تضمنت مجموعة من الرقصات الفلكورية غير المنتظمة والتى لم تحتو على رابط درامى يحكمها بل كان كل طقس أو عادة يتم عرضه بشكل مفاجئ وبلا سابق إنذار، وكأنه عرض سريع لطقوس لم يجمعها سياق فنى واضح، لكن فى كل الأحوال كان من بين الأعمال خفيفة الظل التى انتصرت أيضًا للخروج عن القوالب المسرحية المعتادة فى عروض التراث، وتمتع ممثليه بالبساطة والصدق والتلقائية فى معايشة الأحداث على رأسهم بطلى العمل سلمى عبد الله، وحسن صديق.

«الغجري» يتجاوز المحنة

كان من بين الأعمال الملفتة بحق ضمن فعاليات المهرجان عرض فريق النور للمكفوفين «الغجري» الذى انتصر فيه المخرج للفن فقط وتجاوز به محنة الفريق، تمتع أبطال العمل بانضباط فنى شديد على خشبة المسرح وقدموا عملهم بدقة واحتراف متجاوزين أى عائق، تدور أحداث العرض حول الصراع المعتاد بين الخير والشر، بين حبيبين سعيدين يعكر صفوهما شخص قد يمثل شخصية الشيطان أو أى كاره وحاقد على الخير ويدخل بطلا العمل هدير محمود وحسن أحمد فى صراع مع هذا الشرير جرجس سيدهم، وتتواصل الأحداث بانتصار الخير على الشر، رغم بساطة الحكاية وربما هى إفراز لأعمال تناولت نفس الصراع الدرامى على إختلاف مصادرها إلا أن الانتصار هنا كان لمخرج العمل وفريقه الذى استطاع بمهارة شديدة تجاوز أزمتهم جميعًا وتقديمهم على أنهم أشخاص لا يعانون شيئًا، ولا يشغلهم شيء سوى الفن، بجانب حرصهم جميعًا على الاندماج والتمثيل والحركة بدقة واتقان على المسرح لدرجة نسى معها الجمهور انتماءهم لجماعة بعينها، فكسروا الحاجز النفسى بينهم وبين خشبة المسرح وبينهم وبين الجمهور فاندمج معهم الحضور، فضلا عن ذكاء المخرج فى اختيار نص مسرحى اعتيادي، فلم يتعمد اختيار نص أو قصة لها علاقة بانتماء فريقه أو بتصنيفه وهذا ما كان جاذبًا للانتباه واستحق عليه هذا الفريق الثناء والاحتفاء الكبير من الجميع.

الصعيد وثقافة الموت

لكن فى المقابل انتصرت أعمال أخرى لثقافة الموت كما سبق وذكرنا على اختلاف وتعدد اشكال تناوله بالأعمال سالفة الذكر، والتى من الواضح أنها ثقافة مازالت تحكم مجتمعات الصعيد حتى يومنا هذا، وهو مؤشر شديد الخطورة والقتامة معا، فإذا كان تراث الصعيد ينحصر فى الثأر وقتل الفتيات بالزواج المبكر وحرمانهم من الميراث بل والانتصار لهذه الثقافة عن طريق تمريرها كرسائل غير مباشرة فى الأعمال الفنية وكأن صناع المسرح بالصعيد يستجيبون بشكل أو بآخر إلى دعوات مجتماعاتهم بالارتداد إلى الوراء وعدم الاستجابة لأى شيء آخر سوى ترسيخ ثقافة الموت والخراب النفسى والإنساني، اتضحت هذه الأزمة بشكل واضح وجلى فى عرضى «عقول»، و»ندية» هذين العملين على وجه التحديد احتويا على رسائل شديدة الخطورة، العرض الأول «عقول» تأليف وإخراج محمد موسى يتناول قصة لسيدة تسعى سعيا حثيثا بالثأر لمقتل زوجها ورغم المحاولات العديدة لإثنائها عن هذا الفعل إلا أن العرض فى النهاية ينتصر للقتل وضرورة الأخذ بالثأر فتنتصر عقيدة هذه السيدة على الجميع، لم ولن نناقش العمل هنا على المستوى الفنى حيث بذل فيه صناعه مجهودًا لا بأس به سواء على مستوى التمثيل أوالإخراج، لكن من الضرورى تناول فكر هذه النوعية من العروض بقدر من التأمل والتمحيص، فإذا كان المهرجان خطوة كبيرة وناجحة نحو التنوير على عروض مسرح الجنوب فمن الأولى أن تخضع هذه العروض لفلسفة التنوير بالحرص على تغيير فكر مجتمعها، برفع مستوى الوعى لدى جمهور هذه المحافظات التى ما زالت تحكمها ثقافة الثأر والدم لكن للأسف هذا لم يحدث وكأن الأعمال اكتفت بأن تكون مرآة للمجتمعات التى جاءت منها وليست ناقدة ومحرضة على نبذ ثقافة التخلف والعنف، كان من الأعمال الصادمة أيضًا عرض «ندية» لفريق اتحاد الصعيد تأليف وإخراج عمار ياسر، تناول العرض قصة فتاة تقهر من أسرتها بالزواج المبكر ثم تحرم من الدراسة والتعليم لأنه نوع من الفساد وفى البداية يدافع عنها أخوها المتنور ثم يتركها تواجه مصيرها، وسرعان ما يرتد هذا المتنور إلى عصور الظلام بلا أى مبرر منطقى ويسعى إلى وأدها وحرمانها من الميراث لأنها فتاة وفى النهاية تصلب هذه الفتاة على ظهر أخيها المستبد، هذا العمل ايضا قد يوحى فى البداية أنه يقدم نقدًا لاذعًا لعادات الصعيد وتقاليده فى التعامل مع الفتيات لكننا نفاجأ بتحول هذا الأخ والانتصار أيضًا لثقافة الموت، بفناء هذه الفتاة بعد تعرضها لقهر شديد من أسرتها والترسيخ لمبدأ انتصار منطق المجتمع الذكورى لأننا فى «الصعيد»، هذان العرضان على وجه التحديد مؤشر صارخ وخطير لارتداد فكر هذا المجتمع خاصة عندما صفق الجمهور وصاح مؤيدًا على جملة «التعليم  أدى بالفتيات إلى المغنى والمرقص» وكأن الحضور موافق ومناصر لموقف الأب ضد تعليم ابنته..!، صدمة كبيرة ودعوة للوقوف والتفكير طويلًا فى حال هذه البلدان التى قد لا نعلم عنها الكثير لماذا يدعو الصعيد إلى الردة والعودة لعصور الجاهلية من جديد، ولماذا لم يثر صناع المسرح على هذه الرؤية بنقد المجتمع وتحريضه على الخوف من هذه الردة..!، أما عرضى «زعف النخيل» للمخرج هشام إبراهيم، «ليلة بدر» تأليف وإخراج مصطفى إبراهيم السيد لم يخرجا عن فكرة توريث السلطة فالأول جد حاول نزع السلطة لحفيده بعد موت أبيه حتى لا يحكم غيره بالمدينة، ثم فى «ليلة بدر» أم تحب أحد أبنائها أكثر من الآخر فتقرر التزوير فى موعد ميلاد ابنها الثانى باعتباره الأكبر حتى يرث أباه فى الحكم وبالفعل تنجح مكيدتها ويتولى الابن الأصغر مكان أخيه فيصاب الأخير بمرض شديد، ثم يشعر الأول بذنب عظيم بعد أن يتسبب فى مقتل أخيه وحبيبته وينتهى العرض بتوبته بدخوله الحضرة، ربما قدم هذا العمل أفضل سينوغرافيا بالمهرجان لاعتماده على صورة مسرحية جيدة مقارنة بالأعمال السابقة، لكن هذا لا ينفى عنه سذاجة الطرح بالاغتسال فور دخوله الحضرة بعد ارتكابه لكبائر الذنوب وكأنه لم يفعل شيئًا بجانب عدم وجود مبرر درامى طوال العرض عن حب هذه الأم وتفضيلها للابن الأصغر فى حين أن الاثنين توأم كل هذه تساؤلات أدت بلجنة التحكيم إلى حجب جائزة النص المسرحى لعدم وجود نص متكامل من بداية العمل حتى نهايته.

الورش

كما سبق وذكرنا يعتبر هذا المهرجان خطوة إيجابية تسعى إلى الاكتمال فمن ضمن ايجابياته، صدور مجموعة من النصوص المسرحية كنتاج لورشة صناعة المسرح تحت عنوان «خراط البنات» وصدر فى عددها ورشة الكتابة المسرحية بأسوان نصوص «مسرحية السواقي» تأليف طه الأسواني، «خراط البنات» تأليف قسمت كاتول، «أم العداني»، «بهية وياسين» تأليف أحمد أبو دياب، كما قدم المهرجان هذه الدورة ورشة بمسرح العرائس قدمت نتاجها فى حفل الختام ولاقت استحسانًا كبيرًا من الحاضرين بقيادة المخرج عمرو حمزة والذى قدم عرض بمفرده اتقن فيه تحريك العروسة ثم عرض جماعى كنتاج لهذه الورشة، أيضًا احتوى المهرجان على ورش فى مسرح التراث للأديب أحمد أبو خنيجر، وورش فى التمثيل والإخراج للمخرج أسامة عبد الرؤوف، الدراماتورج للمؤلف بكرى عبد الحميد، الديكور للمخرج ومهندس الديكور خالد عطا الله.

إعادة النظر فى تناول التراث

لا يمكن إغفال حجم الجهد المبذول فى الإهتمام بصناعة تجارب مسرحية بالأقاليم وصعيد مصر، حتى وإن شابها بعض العيوب الفنية، لكن هناك ضرورة لإعادة النظر فى طريقة وتكنيك تناول التراث، فلم يتوقف تراثنا عند قضايا الموت والثأر والميراث، فلدينا كتاب وروائيون كبار كتبوا كثيرًا فى التراث ولم يهتم صناع المسرح سوى بعمل واحد أو عملين لهؤلاء، فهناك أعمال للراحل يحيى الطاهر عبد الله غير «الطوق والأسورة» التى توقف عندها خيال المبدعين فى تناول قضايا الجنوب مثل «ثلاث شجيرات تثمر برتقالًا»، «الدف والصندوق»، «أنا وهى وزهور العالم»، «الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة»، «الرقصة المباحة»، «حكايات الأمير حتى ينام»، وكذلك بهاء طاهر له أعمال لم نشاهدها من قبل مثل «شرق النخيل»، «أنا الملك جئت»، «قالت ضحى»، و»الخطوبة» فلماذا لم ينفتح خيال مقدمى التراث على روايات وأعمال فنية لم يتم تناولها، لماذا نكرر ونعيد على الجمهور قضايا الثأر، والخوف، والميراث والموت؟!!