الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

نصب معلن

نصب معلن
نصب معلن




تحقيق - مروة عمارة



توقف محمد علي، موظف ميسور الحال، أمام إحدى اللافتات الإعلانية خلال سيره أعلى أحد الكبارى، إذ كانت اللوحة الإعلانية تدلل على وحدات سكنية فى إحدى القرى السياحية، إذ تشمل تفاصيل عن سهولة التعاقد، وتقسيم الأقساط على سنوات، يصاحب هذا صور رائعة من أرض القرية، تظهر خدمات متعددة، وشواطئ، وملاعب ترفيهية ورياضية، كل ذلك دفعه للتفكير فى شراء وحدة سكنية شاملة، تحلم بها كل أسرة مصرية.
تحمس «علي» وتواصل هاتفيًا مع الشركة المعلنة، إذ حفظ الرقم فى ذهنه من كثرة إلحاح اللافتات الإعلانية المتكررة التى يقابلها على الطرق فيراها ذهابًا وإيابًا أثناء سيره بطريق المحور.
حجز «على» موعداً للتعاقد مع الشركة، وقام بسحب مبلغ من مدخراته، وسداد المقدم، متفقًا على موقع الوحدة ومساحتها كما هو مبين له فى صور،  أكد له مسئولو المبيعات بالشركة أنها مطابقة للواقع، وأن الاستلام سيكون خلال شهور. بعد فترة من التزمه بسداد الأقساط، طالب الشركة مرارًا بتسليمه الوحدة الخاصة به، حسب نص العقد المتفق عليه، لكنه فوجئ أنه ومثله من آلاف الحاجزين حصلوا على «اللا شيء»، واكتشف بعد فترة أن المشروع مجرد «حبر على ورق».

رغم أن «على» وغيره من ملاك تلك الوحدات الوهمية، تقدموا ببلاغات إلى النائب العام، وجهاز حماية المستهلك، ضد المشروع، إلا أن إعلانات تلك الشركة مازالت منصوبة فى الشوارع تصطاد يوميا ضحايا جددا.
«على» واحد من الضحايا الذين وصلت لهم «روزاليوسف» أثناء إجراء هذا التحقيق، الهادف إلى رصد وكشف مدى المخاطر والأضرار التى تسببها اللوحات الإعلانية، غير القانونية، المبدورة فى شوارع العاصمة، والتى تعرض حياة المواطنين للخطر ويستخدمها تجار الإعلانات فى التربح.
ضحية أخرى ـ قابلتها معدة هذا التحقيق ـ وقعت فى فخ إعلانات الطرق المزيفة، إنها منال السيد، سيدة الأعمال، فقد جذبها إعلان مركز تجميل منتشر على أعمدة الإنارة بأحد الأحياء الراقية، الحاوى لصور جراحات أجريت لحالات «تشوه الأنف» و»زرع الشعر» و»تعبئة خطوط الشيخوخة»، وكل ذلك بأسعار مغرية. فساقاها قدماها إلى مركز التجميل (اكتشفت فيما بعد أنه غير مرخص، رغم تواجده فى أرقى أحياء القاهرة).
داخل المركز تعلق بحوائطه شهادات دولية، تفيد بحصول طاقمه الطبى عليها (اتضح بعد ذلك أنها وهمية).
اتفقت «السيد» على إجراء جراحة لتجميل أنفها، وبعد العملية، فكت الأشرطة الملصقة عن مكان الجراحة، فوجئت بمضاعفات وورم بوجهها، وصعوبة فى التنفس، وتشوه بالأنف، وعندما واجهت مدير المركز، وعدها بمعالجة التشوه، وبعد فترة علمت أن المركز لا يزال فى مرحلة تقديم أوراق الترخيص، فقدمت بلاغا بنقابة الأطباء ضده.

آلاف من إعلانات «الأوت دور» تغرق ميادين الجمهورية، لجذب المواطن تجاه سلعة أو خدمة، لا تقدم ما يفيد حول آمان وسلامتها، فالإحصائيات الرسمية تشير إلى أن نسبة الإعلانات المرخصة بالمقارنة مع غير المرخصة فى محافظة القاهرة فقط تمثل 1 - 1.4 على التوالى، أى أن عدد الإعلانات العشوائية يفوق المرخصة.
ووفقا لما ذكره اللواء عاطف ترك، رئيس هيئة الطرق والكبارى، فأن تكلفة الإعلانات غير المرخصة تبلغ قرابة 500 مليون جنيه سنويًا، بينما أكد دكتور حمدى عرفة، خبير المحليات «أن 90% من إعلانات المحافظات غير مرخصة».
المهندس أشرف خيرى، رئيس شعبة الدعاية والإعلان بغرفة صناعات الطباعة، أوضح أنه لا حصر لعدد الإعلانات غير المرخصة، بالمحافظات رغم زيادتها، إذ إن أغلب تلك الشركات تتعامل بمبدأ «الفهلوة»، وتتهرب من رسوم المحافظات، وإذا حُرر محضر للإعلان فى حال ضبطه، يتم المصالحة لتسديد الرسوم فقط.
مسئول الدعاية بإحدى شركات الإعلانات، المهندس عباس محمد، أكد أن الشركات المرخصة تسدد رسوم الإعلانات للدولة، (قال: إنها تتعدى 80% من قيمة الإعلان) وبالتالى تقدم خدمة جيدة، وتخضع الإعلانات لرقابة الجهات المعنية للتأكد من سلامة المحتوى وسلامة هيكل الإعلان، حتى لا يتسبب فى تهالك العقار أو وقوع حادث. «محمد» أوضح أن «فى المقابل الشركات غير المرخصة، تضع إعلاناتها بأسعار منخفضة للغاية، مما يهدد الشركات الرسمية التى تقدم خدمة إعلانية مرتفعة السعر بسبب التزامها بالقانون».

لافتات الطرق غير المرخصة تتسبب فى مشاكل عديدة، أبرزها تخفيض أسعار الإعلانات بشكل كبير (أو كما يسمونه الأكاديميين «حرق أسعار الإعلانات»)، كذلك تساهم تشويه الموقع الذى توجد فيه إذا لم تلتزم بسبل الأمان فى الحجم واللون والموقع، وقد تؤدى تلك الإعلانات إلى وقوع ضحايا وأضرار بالغة تهدد سلامة الشارع، ذلك حدث عندما سقطت لافتة عملاقة بإحدى الطرق الرئيسية.
الدكتور صفوت العالم، أستاذ الإعلان بكلية الإعلام جامعة القاهرة، قال: «إن شركات «بير السلم» تمثل خطرًا كبيرًا على صناعة الإعلانات، كونها تصنع ملصقات عشوائية للتعبير عن سلع مجهولة المصدر تضر المستهلك، ولا يتحملون أية نفقات».
«العالم» تابع «أن مَن يقوم بتلك الدعاية إما أشخاص عاديون للترويج لخدماتهم أو تجارتهم، أو وكالات الدعاية والإعلان التى تعمل بشكل عشوائى، دون الحصول على تراخيص، فتلك الشركات لا بد من معاقبتها لأنها تتحايل على القانون».
وأثنى «العالم» على فكرة «طرح هيئة مستقلة للإعلان وتعديل القانون»، وأن يتم ذلك من خلال «لجنة متخصصة يشارك بها متخصص إعلام وهندسة وفنون جميلة، لتوحيد جهات منح الترخيص، بعيدة عن الوزارات والمحافظات».

تكشف الإحصائيات الرسمية أن محافظة القاهرة أصدرت 11 ألفًا و436 رخصة إعلانية خلال العام الحالى لشركات الإعلانات، فيما يبلغ عدد اللوحات الإعلانية المتواجدة فى العاصمة أكثر من مليونى لوحة إعلانية، بأرباح تصل إلى 60 مليون جنيه تقريبًا.
حجم صناعة «الأوت دور» الرسمية تبلغ حوالى 5 مليارات جنيه، تقدمها 300 شركة إعلانات، ويعمل بها أكثر من 200 ألف عامل مباشرة، وتحصل خزانة الدولة على 80% من إيرادات شركات الإعلانات فى صورة ضرائب ورسوم، وذلك وفقا لغرفة صناعات الطباعة بشعبة الدعاية والإعلان. حيث تسدد الشركات 20٪ ضريبة أرباحا تجارية وصناعية، و20٪ ضريبة دمغة، و10٪ ضريبة مبيعات، و20٪ رسوم تراخيص، علاوة على ضرائب الدخل والعقارية ورسوم الكهرباء، طبقا للقانون 66 لسنة 1956.

طارق الوكيل، مدير إحدى الوكلات الإعلانية، قال: «إن هناك اشتراطات لا بد من الحصول عليها قبل تنفيذ الإعلان، طبقا للقانون الحاى، تبدأ بالحصول على تراخيص من هيئة الطرق والكبارى، وأخرى من إدارة المرور، ويشترط توقيع مهندس استشارى والإشراف على تنفيذه، ومنح شهادة أن الإعلان مطابق للمواصفات، فيما يتعلق بوزن الحديد، وعمق العمود الخرسانى، وارتفاعها، للحصول على موافقة تصميم، وتشكل بعد ذلك المحافظة أو الهيئة لجنة أخرى لمعاينة الموقع بعد تنفيذ الإعلان، للتأكد من سلامته وعدم انتهاك حرم الطرق».
وأوضح «الوكيل» أن اختيار العملاء للمواقع يكون طبقاً لكثافة المرور وأهمية الطريق، ومدى رؤية الإعلان، أما التكلفة فتتوقف على المكان والحجم والجهة، ويبدأ سعر تصميم إعلانات أوت دور من نصف مليون جنيه وقد تصل إلى المليون جنيه، وسعر المتر من محافظة القاهرة حوالى 1650 جنيهًا للمتر، فبالتالى قد يصل سعر الحصول على الرخصة لإعلان 20 مترا إلى 300 ألف جنيه سنويًا.

مطلع العام الجارى نشب خلاف حاد بين «شعبة الإعلان» باتحاد الصناعات ومحافظة القاهرة، بسبب طرح المحافظة مناقصة إنشاء لوحات إعلانية جديدة، وهو الأمر الذى رفضته الشعبة بسبب التكدس الإعلانى الحالى بالمحافظة، وعشوائية اللوحات الإعلانية، تحديدًا عند كوبرى 6 أكتوبر، أعقب ذلك إصدار الشعبة قرارا بعدم المشاركة فى المناقصة.
«شعبة الإعلان» طالبت لجنتى «الإدارة المحلية» و»الصناعة» فى البرلمان بتعديل اللوائح المنظمة لإعلانات الطرق، على غرار اللائحة التجريبية التى وضعتها الشعبة لتنظيم الإعلان فى مدينتى 6 أكتوبر والشيخ زايد، لتوحيد شكل الإعلانات بكل منطقة.
تبع ذلك إصدار رئاسة الوزراء قرارا بوقف إصدار التراخيص الجديدة لإعلانات الطرق، حتى يتم إقرار التعديلات المطلوبة على قانون تنظيم الإعلان، وإنشاء الجهاز القومى لتنظيم الإعلانات، مع إعطاء مهلة شهرا فيما يخص تجديد إعلانات الشوارع المنتهية، فيما لا ينطبق القرار على الطرق السريعة، بحيث يجرى وضع نظام خاص بها.
قرار الوقف لاقى استحسان الشركات المتخصصة فى إعلانات الطرق، وهو ما عبر عنه أشرف خيرى، رئيس شعبة شركات الدعاية والإعلان، الذى قال: «إن القرار يأتى استجابة لمطالبة الشعبة للحكومة بوقف إصدار التراخيص الجديدة للإعلانات، فى محاولة للحد من العشوائية التى تشهدها إعلانات الطرق، رئيس شعبة شركات الدعاية والإعلان، أوضح أن القانون 66 لسنة 1956، أدى إلى تحول الإعلان لـ «وسيلة نصب» سواء فى المجال العقارى أو الأدوية والتجميل، وتورط بعض الممثلين والمطربين فى بعض قضايا نصب كذلك.

وأرجع «خيرى» تلك الأزمة إلى تعدد الجهات المشرفة على الإعلانات، قائلا: «نسعى لتعديل قانون الإعلان، خاصة أن الأزمة تكمن فى تعدد جهات الرقابة على إعلانات «أوت دور»، ما بين المحافظات والوزارات وهيئة الطرق والكبارى.
دكتور حمدى عرفة، خبير المحليات، علق على عدم وجود إدارة مسئولة عن تصاريح الإعلانات فى المحافظات، مؤكدًا أن «هناك قرابة 36 جهة تتحكم فى منح رخص إعلانات أوت دور، مما تسبب فى تدهور تلك الصناعة، وإهدار أموال الدولة.

اللواء عادل ترك، رئيس هيئة الطرق والكبارى، قال: إن الهيئة توافق على منح رخص مقابل رسوم بالمتر، بعد تنظيم مناقصات ومزايدات على الأماكن المتاحة، والطرق غير المشغولة، وعلى الشركات الالتزام بأسس الإعلان طبقاً لما وضعته هيئة التنسيق الحضارى، وقانون الإعلان، موضحاً أن هناك حملات إزالة يومية للإعلانات غير المرخصة.
فيما أوضح المهندس عاطف عبدالحميد، محافظ القاهرة، أنه أوقف تراخيص الإعلانات بشكل مؤقت، بسبب التشوه الإعلانى الذى غزى المحافظة، وتم تشكيل لجنة لوضع دليل إجراءات لتنظيم كل ما يتعلق بالإعلانات فى العاصمة، وذلك بحسب قوله.
سهير حواس، نائب رئيس الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، أكدت فى تصريحات صحفية متعلقة بقرار رئاسة الوزراء بوقف إعلانات الطرق: «أن تلك الفوضى البصرية لا تخضع لأسس علمية سليمة، ولابد من أن تخضع لمسافات محددة بين الإعلانات وأنواع الطرق وحجم الإعلان، حفاظا على المنظر».