الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

إبراهيم أصلان ... كاتب كبير بلا «بيت» ولا «كرسي مريح»!





ربما كان القدر يدخر له نصيبا موفورا عندما لم يكمل تعليمه في مساره المعتاد، وسلك مسارا مختلفا، فرغم التحاقه بالكتاب في سن صغيرة وتنقله بين مدارس عديدة، إلي أن التحق بمدرسة لتعليم فنون السجاد، ومنها إلي مدرسة صناعية، فقد استقر في النهاية في هيئة البريد كبوسطجي، ليحمل حكايات وقصص وأحوال الناس بين طيات حقيبته ليسلمها إلي ذويهم، والحقيقة أن الكاتب الراحل إبراهيم أصلان كان يحمل تلك الحكايات، التي كان يخبره بها أصحاب الرسائل، أو لمحات حياتهم التي كان يلمسها بنفسه، ليعبر عنها في سياق خبراته المختلفة وحياته التي دارت أحداثها بين بلدته «الغربية» ومنطقتي «الكيت كات» و«إمبابة» بالقاهرة، بطريقته الخاصة البسيطة التي اجتذبت العامة قبل النخبة

 
 فكسر ذلك الحاجز الذي كان يفصل بينهما، وكسب قلوب البسطاء بروايته الأشهر «مالك الحزين»، نتحدث هنا عن علم من أعلام الأدب العربي إبراهيم أصلان، لنحيي معا ذكري رحيله الأولي مع بعض من محبيه.
يقول الدكتور حسين حمودة: الكاتب المبدع الراحل إبراهيم أصلان، يمثل بالنسبة لي، درسًا حيًا متجددًا، حتي بعد رحيله الذي لا زلت غير قادر علي تصديقه، علي محو المسافة بين «الكاتب» و«الكتابة»، تقرأ له، ثم يصادفك حظ حسن فتعرفه، فتجد الاثنين في واحد، بساطته وعفويته المحسوبة، وصدقه الذي يتضح لك من الوهلة الأولي لقراءته، وكذلك من النظرة الأولي لوجهه البشوش، وتجسيده لـ«ابن بلد» الحقيقي.. كلها سمات تلحظها بسهولة في التعامل معه سواء عن قرب، أو عن بعد من خلال إبداعه، ولغته المدققة البسيطة المتماسكة التي تنأي عن أي ترهل، والتقاطه لقيم النبل في عالم لا يسمح بكثير من النبل.. كلها سمات تطل عليك من كل نصوصه، بحيث لا يمكن أن تحدد أيهم أقرب إلي قلبك ووجدانك، ولكنك تعلم في النهاية أنها نابعة من إنسان بحق.
وأكمل حموده: تعرف الإنسان، أكثر ما تعرفه، في تجربة «السفر»، وقد رافقت إبراهيم أصلان في سفرتين، إحداهما كانت بالمغرب، في مشهد موح، بالمغرب، وقف علي حافة المحيط، وحدق في أفق بعيد جدا، وصمت. وعندما تكلم فاجأتني جملته: «تعرف.. حياتنا ما تسمحش بوجود كاتب كبير!». سألته عن السبب، فأكمل: «الكاتب الكبير هناك.. (حدق مرة أخري في الأفق الممتد).. لازم يكون عنده بيت، وتحت البيت قبو، ويكون عنده مكتب وكرسي مريح.. إحنا فين من الكلام ده كله؟!».
مع ذلك، كان إبراهيم أصلان كاتبا كبيرا، وإنسانا كبيرا، بلا مسافة بينهما، رغم أنه كان بلا بيت وبلا قبو وبلا كرسي مريح!
الكاتب سعيد الكفراوي يقول عن أصلان صديقه وجاره ورفيق دربه: إبراهيم أصلان علي المستوي الإنساني صديق عمري، فقد التقينا في منتصف الستينيات تقريبا وظلت علاقتنا قائمة وعشنا المتغيرات معا علي مستويات الثقافة والسياسة والاجتماع، وكنا طوال الوقت في صف الناس بالسلوك والكتابة، غادر هو الدنيا وهو جاري الحبيب، وقد نقلته من بيته إلي قبره، علي المستوي الإبداعي هو أحد أبرز الكتاب في هذا الجيل، كتب القصة القصيرة والرواية، كان كقاص يملك وعيا قاصا في عملية الكتابة وبناء أعماله، وكان مهتما كثيرا بشأن القصة والرواية، وله القليل من الكتب ولكنها كتب ستبقي في ذاكرة الابداع المصري.
أكمل: أصلان يعد أحد منشئي الحداثة العربية في كتابة الأدب، رحم الله أصلان الذي نادتني زوجته قبل رحيله، وكنت قد اشتريت له كرسيًا هزازًَا فوجدته جالسا عليه في هدوء نائما وكأنه يودع الدنيا بتؤدة، فحملته إلي حجرته وقلت له مع السلامة يا أصلان مع السلامة يا رجل يا جميل.
أما الدكتور يسري عبدالله فيقول: يعد إبراهيم أصلان أحد أهم المعبرين- وبجلاء- عن حيوية الاختلاف في المشهد السردي المعاصر، غايته البساطة الآسرة، النافذة إلي جوهر العالم، والأشياء، والمتماسة مع متلقيها في امتلاكها قوة الحضور داخل سيكولوجيته، ولعل أول شيء يمكنك أن تتماس معه في إبداع إبراهيم أصلان، عنايته الفائقة بالتفاصيل، وقدرته علي صبغها بطابع إنساني محض، طارحا من خلالها الهامشي، والمعيش، قابضا علي جمر الكتابة المتقد، ومنطلقا من المكان المحلي متمثلا في المدينة الشعبية (إمبابة/ الوراق/ الكيت كات) إلي أفق أكثر رحابة، يتسم بغناه الإنساني، وقدرته البديعة علي رصد التفاصيل الدقيقة، والصغيرة، بدءا من مجموعته القصصية الأولي (بحيرة المساء) والصادرة عام 1971، وصولا إلي مجموعته (حجرتان وصالة) 2010، وفيما بينهما ثمة تنويعات جمالية مختلفة تبلور مشروعه السردي.
قدم أصلان في نصوصه السردية إمكانية إضافية لتقديم عمل سينمائي جيد، وهذا ما تحقق بالفعل في روايته البديعة (مالك الحزين)، التي تحولت إلي فيلم «الكيت كات» برؤية إخراجية لداود عبدالسيد، وقد حوت الرواية توظيفا لآليات السيناريو، والتقطيع المشهدي، فضلا عن الاتكاء علي عدد من الحكايا البسيطة التي تصنع في مجموعها كلا متراكبا، ينحاز إلي إنسانية الإنسان، ولا شيء سواها. وهذا ما نراه أيضا في  روايته (عصافير النيل) التي أخرجها للسينما المبدع مجدي أحمد علي، والتي تعد تعبيرا جماليا عن جدل الحياة والموت، عبر عيني راويها الرئيسي المشغول بتحولات الزمن وتغيراته، هذا التحول الذي يضمر داخله تحولا آخر خاصا بالبشر، أولئك الذين كتبهم أصلان وعبر عنهم دون أن يصبحوا أبواقا، أو مجرد ممثلين لوجهة نظر الكاتب، بل كانت لهم حركتهم الديناميكية في المكان والزمان السرديين، وبما يمكننا من القول بأن أصلان كان قابضا علي ذلك المنطق الديمقراطي للسرد، في احتفائه بالتنوع، وتعدد زوايا النظر تجاه العالم، والأشياء، خاصة مع توظيفه للمكان، وإجادته للعب التقني معه ، فحوله إلي فضاء نفسي يسع أحلام الشخوص وهواجسهم، في ظل عالم مملوء بالأسئلة، ورافض لكل الأجوبة الجاهزة، سؤاله الأساسي الحرية، تلك التي ظل أصلان باحثا عنها، ساعيا إلي تلمس جوهرها الثري، لا عبر خطاب أدبي محمل  بعبارات تقريرية مباشرة، وزاعقة، ولكن عبر مس شفيف، أداته التقنية الاقتصاد والتكثيف اللغوي علي مستويي الأسلوب، والحدث السردي، فضلا- وهذا هو الأهم- عن إعادة إنتاج العالم عبر النظر إليه من خلال رؤية جديدة تجاه الحياة بصخبها، وعنفها، وتغيرها المستمر.
ومتحدثا عن والده قال الكاتب والصحفي هشام أصلان: سعدت كثيرا بتهافت الأصدقاء والصحفيين والمثقفين والفنانين علي إحياء ذكري والدي -رحمه الله- وأود أن أؤكد علي موقف والدي الذي ظل عليه إلي آخر لحظة يوم مماته، يطالب باستكمال مطالب وأهداف الثورة، وناشد الثوار ألا يتخلوا عن مطالبهم، وأن يظلوا يدا واحدة، ومن أبرز الجهات التي رأي والدي أنها مشت علي هذا النهج «جبهة الإبداع» و»أدباء وفنانين من أجل التغيير»، وأنا أيضا أتمني أن نتكتل كمثقفين ومبدعين في مواجهة التشدد والتطرف الذي نجابهه من قبل بعض التيارات الإسلامية المتشددة، التي تحد من حرية الإبداع.
وقال الشاعر أحمد اللاوندي: عرفت المبدع إبراهيم أصلان من خلال كتاباته، وعرفت عنه أنه كان دائما يهرب من وسائل الإعلام، وقد حققت روايته «مالك الحزين» التي كنت أقرأها مرة تلو الأخري من شدة إعجابي بها، ولاقت هذه الرواية شهرة كبيرة بعد تحويلها لفيلم سينمائي، حقق نجاحا باهرا في التسعينيات.
وأضاف اللاوندي: أثار أصلان إعجابي الشديد به علي المستوي الإنساني فضلا علي المستوي الإبداعي ككاتب له وزنه بين الكتاب، عندما أيد إبراهيم أصلان حركة التغيير التي دعا إليها الدكتور  «محمد البرادعي» محمد البرادعي، وتم الاتفاق علي إصدار وثيقة يصيغها الأدباء والمثقفون لتكون بمثابة مشروع سياسي، رحم الله إبراهيم أصلان الذي ترك لنا إبداعا حقيقيا يجب أن نعتني به ونقدره جميعا.
وعن صاحب «عصافير النيل» قال الروائي أحمد مجدي همام: في الذكري الأولي لرحيل العم أصلان، يتساءل الواحد منا: هل ستجود الساحة المصرية بكاتب له نفس القيمة والحجم؟ الحقيقة أن الراحل إبراهيم أصلان كان آخر الكتّاب الذين يصح أن نقول أنهم «علامة فارقة» في تاريخ السرد المصري، فالرجل وعلي الرغم من محدودية إنتاجه، كان يقدم مع كل كتاب لونا جديدا ومذاقا مختلفا. وهو مالم يعد متوفرا هذه الأيام، وربما حتي لم يكن متوفرا بين مجايليه.
والناظر للتركة الثقافية لأصلان سيفاجأ من حيويته الهادرة، فبخلاف كونه ذلك الروائي الفذ والقاص العبقري، كان أيضا مشرفا علي سلسلة آفاق عربية الصادرة عن وزارة الثقافة والتي قدمت للقارئ المصري عشرات الأعمال لكتّاب عرب، عدا عن كونه مدير الصفحة الثقافية في جريدة «الحياة» اللندنية.