الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أكتب إليكم من "مخر السيل"
كتب

أكتب إليكم من "مخر السيل"




 


كرم جبر روزاليوسف اليومية : 21 - 01 - 2010



من ينقذ سيناء ب"شريان الحياة"؟


1


أكتب إليكم من العريش، حيث حدث اجتياح للسيول والأمطار بشكل لم يحدث منذ 35 عاماً، والمشهد من الطائرة يحكي قصة السيول الغاضبة التي ضربت سيناء وخلفت وراءها دماراً شديداً.


أول لقاء كان مع اللواء مراد موافي محافظ شمال سيناء، الذي تحدث عن الخطط العاجلة والآجلة لمواجهة كارثة السيول، وكذلك الإجراءات التي اتخذتها الدولة لإنقاذ الأهالي من الكارثة.
بشرح أبعاد المأساة قال المحافظ: إنه لا يستطيع الذهاب من مكتبه بمبني المحافظة إلي الاستراحة، لأن السيول قطعت الطريق ولذلك يظل يتابع أعمال النجدة والإغاثة طوال الليل والنهار.
2
الأمطار أصبحت الآن هادئة، ولكنها تتجمع بعيداً فوق الجبال مثل فلول الجيش المهزوم، الذي يحاول أن يستجمع قواه ويعاود الهجوم مرة ثانية.
مخرات السيول التي حفرت مجراها بالقوة فوق أرض سيناء تبدو من الطائرة مثل مجري نهر النيل، ولكنها تسير بسرعة فائقة لتقطع الطرق وتطيح بالكباري وتقتلع البيوت.
أخطرها السيل الذي قطع وسط سيناء، واستطاع أن يضرب في طريقه الكثير من الطرق والبيوت، ويشرد مئات الأسر تاركهم دون ملجأ أو مأوي.
3
الحمد لله أن سد الروافع جنوب شرق العريش مازال متماسكاً وصامداً، ويحاول مقاومة السيل الغاضب الذي قسم مدينة العريش إلي نصفين، ولولا هذا السد لحدثت خسائر فادحة.
العريش أصبحت مدينتين، سكان النصف الغربي لا يستطيعون الوصول إلي الشاطئ الشرقي إلا باستخدام قوارب تعوم بهم في شوارع المدينة حتي البحر المتوسط، فيأخذون إحدي المراكب ليصلوا بها إلي الجانب الشرقي.
موظفو المحافظة أيضاً ظلوا يبيتون في مكاتبهم لمدة ثلاثة أيام ، لأنهم لا يستطيعون الوصول إلي بيوتهم في الجانب الآخر من المدينة، ويتندرون "أصبحنا محافظتين".
4
حدث في مدينة العريش مشهد يشبه تماماً انهيار برج التجارة العالمي في نيويورك، حيث اقتحم السيل أسفل عمارة من ثلاثة طوابق، فانهارت العمارة مثل بيت الرمال وتحولت إلي ركام.
أصاب الشلل التام كل المرافق والخدمات، تم تعطيل الدراسة وتأجلت الجلسات في المحاكم، ويعاني الأهالي صعوبات ضخمة في الحصول علي احتياجاتهم من المواد الغذائية والوقود.
الأهالي قاموا بتصوير منظر مياه السيول وهي تقتحم البحر المتوسط، بشكل يشبه اندفاع شلالات نياجرا في الأفلام السينمائية، وهذا جعلنا نتحسر حيث كان يمكن أن تروي تلك المياه سيناء لمدة عشر سنوات مقبلة.
5
لو كان في سيناء خزانات للمياه، لكان من الممكن أن تكون احتياطياً استراتيجياًً ينفع في الزراعة والشرب، ولكن المشكلة أن بها خزاناً واحداً امتلأ عن آخره منذ الساعات الأولي لجريان السيول.
الخسائر و-الحمد لله- ليست كبيرة، واقتصرت فقط علي إغراق واقتلاع البيوت التي تعترض طريق مخرات السيول، ولكنها كانت كبيرة في مدينة الشباب بالعريش حيث أصبحت غارقة داخل بحيرة ضخمة.
لأن سرعة السيل تتراوح ما بين 60 إلي 120 كم، فإنه يحفر أنفاقاً عميقة تحت الطرق الأسفلتية فتنهار بسهولة، وتمتلئ الأنفاق الطولية بكميات كبيرة من المياه ويصعب عبورها حتي بالمراكب.
6
أنا الآن في منطقة "سقل" حيث المأساة الكبري، ولا يمكن وصف حجم الدمار الذي خلع الأرصفة من الأرض وحطم مباني المدينة الرياضية، وشق العريش إلي نصفين.
علي الجانب الغربي يقف الأهالي ينظرون إلي الجانب الشرقي ويفصلهما "نهر السيل العظيم"، الذي قام "بفركشة" أشجار النخيل وزراعات الوادي وأعمدة الإنارة، ورتبها بفوضوية شديدة.
لا تسألوني هذا السؤال فلن أستطيع الإجابة عنه: هل البيوت هي التي وقفت في مخر السيل، أم أن السيل هو الذي ذهب إليها؟
7
طبعاً العشوائية هي العنوان، عشوائية السيل الغاضب الذي جاء فجأة، فآخر مرة كانت عام 1982 وكان هادئاً ومداعباً وخفيفاً، وسبقها سيل سنة 1975 كان صورة طبق الأصل من السيل الأخير.
طبعاً اللواء مراد موافي يبذل قصاري جهده، وهو بالمناسبة شخصية رفيعة المستوي وله ثقافة سياسية وعسكرية بعيدة المدي، واختياره لهذه المحافظة ضربة معلم.
المأساة لم تجسدها وسائل الإعلام بعد، ولكنها مرعبة ومخيفة وهي من سلسلة الكوارث الكبيرة مثل زلزال عام 1992، ولكن لأنها جاءت بعيدة عن القاهرة فلم يهتم بها الإعلام.
8
مطالب الناس بسيطة، حيث التفوا حولي في كل مكان عندما علموا إنني صحفي ، وكانوا يصرخون بأعلي صوتهم "عايزين بطاطين.. عايزين خيام.. عايزين أكل".
مثلاً رجل فقير من حطام الزمن قال بصوت غاضب: "السيل أكل العريشة والغنمات"، ومثله كثيرون تضرروا بشدة من حجم المأساة، ويطالبون بتعويضهم عن الخسائر .
المأساة تحتاج إلي تضافر الجهود الاجتماعية وفتح باب التبرعات لإنقاذ المنكوبين، ونحتاج لهم عشرات القوافل علي طريقة "شريان الحياة".
9
أنا الآن في مدرسة "عباس صالح" مأوي مشردي السيول ، بدأ العدد ب400 فرد، ثم أخذ يكبر ويكبر حتي وصل الآن إلي 2000 معظمهم ضحايا وعدد كبير منهم متسولون.
البطاطين والوجبات والخيام يتم ابتلاعها في دقائق معدودة، ويعاود الناس الشكوي والصراخ، كثير منهم ينتظرون تجفيف أنهار وبحيرات السيول ليعودوا إلي منازلهم.
بعد زوال الكارثة يجب أن نسأل بصراحة: من هو العبقري الذي قام ببناء الشاليهات والعمارات والأسواق والبيوت في مخر السيل القديم؟.. هذه الإشغالات وقفت في وجه السيل فشق طريقه عنوة.


E-Mail : [email protected]