الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

«قيامة قايمة» بين سخرية وشفقة بيرم التونسى..!

«قيامة قايمة» بين سخرية وشفقة بيرم التونسى..!
«قيامة قايمة» بين سخرية وشفقة بيرم التونسى..!




كتبت_هند سلامة

«يوم القيامة يوم فرج.... لأهل العوز وأهل الحرج..
 رضوان يقول اتفضلوا.... دوسوا على الماس وادخلوا
وفى النعيم اتنغنغوا.... وفى الحرير اتمرمغوا» ... ما بين فرحة الفقراء وعذاب ومقت الأغنياء دارت وقائع وأحداث الأوبريت الأشهر للراحل بيرم التونسى وألحان زكريا أحمد «يوم القيامة» الذى تعيد تقديمه فرقة الورشة تحت عنوان «قيامة قايمة» للمخرج حسن الجريتلى خلال شهر رمضان بناء على رغبة الجماهير للعام الثانى على التوالى وتم تحديد موعدين له فى التاسعة والعاشرة والنصف مساء خلال أيام عرضه، وذلك من شدة إعجابهم وإقابلهم على الاستماع والاستمتاع بهذه الأشعار ومشاهدة أعضاء فريق الورشة يتغنون ويرقصون على شائعة «يوم القيامة» التى أطلقها الوالي.

بدأ العرض بالحكى على لسان الراوى محمد إسماعيل الذى يستهل العمل بحكاية.. « فى القرن ال 18 وتحديداً فى عصر عثمان باشا الحلبى كتب الجبرتى خرجت من بيتى فى الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة 1147 هجرية الذي هو آخر يوم فى شهر يوليو سنة 1728 ميلادية فرأيت تجمهر الناس فى الطرقات ووجدت المساجد على غير المألوف قد امتلأت بطلاب التوبة فقلت لنفسى ما هذه الحالة الطارئة التى تملكت النفوس، استفسرت عن السبب فأجابونى ألا تعلم يا شيخ أن يوم القيامة بعد غد؟ دهشت وحاولت أن أكذب ما يدعون واضطررت  أن أعود إلى بيتى وأدون هذه الحادثة... وهو راجع لقى الناس يودعون بعض ويقولون مش فاضل غير يومين.. وشاف ناس كتير خارجين فى الشوارع والجناين والميادين عشان يودعون الدنيا.. وأهل الجيزة راحوا يستحمون فى النيل رجالة وستات.. وناس أصابهم  الاكتئاب وناس خافوا وناس تابوا وقرروا ميعملوش حاجة غير أنهم يفضلوا يصلوا ويدعوا ربنا إنه يغفر لهم.. لحد القيامة ما تقوم»..

شائعة اقتراب يوم القيامة

شائعة أطلقها الوالى لإلهاء الناس باقتراب موعد يوم القيامة كتبها بيرم التونسى فى مجموعة أشعار بديعة ممتعة، أطلق فيها لخياله العنان بوصف حال هؤلاء الناس بعد تصديق هذه الشائعة، فانقسموا إلى ثلاثة أشكال منهم من تهلل فرحًا باقتراب موعد القيامة للخلاص من ذل الدنيا وهوانها إلى نعيم الآخرة، ومنهم من مات رعبًا خوفًا من حساب وعذاب الآخرة، ومنهم من أشفق على حال الناس من وقوفهم أمام الرحمن مذنبين، وبمزيج من المتعة والألم تخيل بيرم التونسى حال الفقراء الفرحين والأغنياء المغمومين والدراويش المتصوفين، بدأ الأوبريت بغناء لشعر «يا لطيف»..» دنا الميعاد دنا المحظور.... وإسرافيل نَفَخ فى الصور» ثم تهللت أسارير الفقراء، وعبوس الأغنياء واشفاق الدراويش، بعدها اكتشف أهل المدينة تلاعب الوالى بهم وإطلاقه لهذه الشائعة بسبب تبديده لأموال الدولة ومطالبة السلطان له بالخراج فأطلق هذه الشائعة كى يلهى الناس عنه، انقلبت الأحوال وسر من حزن وتغنوا بـ«سلامات سلامات ألف سلامة اتأجل يومك يا قيامة»..ثم حزن من كان مسرورًا «ضحكوا علينا وشحططونا الله يكيدهم كما كدونا».

عمق تشريح النفس البشرية

خلال هذه الأشعار فضح بيرم التونسى مشاعر الناس وألاعيب الحكام وأظهر تباينا واضحًا فى كشف حالة الزيف الإنساني، قدمها التونسى بسخرية لاذعة من أحوال المجتمع وبحكمة وحرفة فنية عالية وعمق فى تشريح النفس البشرية بسلاسة وبساطة ألفاظه الشعرية وعمق معانيها التى أصابت أهداف عديدة، فكما قال الله تعالى «لكل امرئ يوميذ شأن يغنيه» وصف التونسى حال إبطال «قيامة قايمة» فكل منهم انشغل فى حاله، ففرح من فرح بهذا الخبر بتركه للدنيا إلى نعيم الآخرة وهم الفقراء وتغنوا «يوم القيامة يوم هنا يا فرحنا يا انسنا»، ثم الأغنياء من حزنوا وخشوا قدوم ذلك اليوم «وتغنوا.. يا لطيف» ثم الدراويش من اشفقوا على وقوف الناس بين يدى الرحمن «يا ويل الناس يا ويل»..فلسفة إنسانية مزجت بين الشفقة والسخرية من الناس فى تكالبهم على الدنيا وتشبثهم بالحياة ومتعتها الزائلة وكراهية الموت والرعب من يوم الحساب، ثم فضح زيف وتلاعب الحكام بمصائر ونفوس البشر، كتب التونسى كل هذه المستويات من الصراع  الإنسانى على اختلافها وتنوعها بحكمة فنية بالغة جعلت كل مستمع يتأمل ويتساءل ماذا سيحدث إذا تأكد موعد القيامة وقيل إنها غدًا أو الجمعة المقبلة..كيف سيكون حال الناس وماذا سيفعلون بها؟!!، ثم وصوله إلى مستوى آخر من الشعر بقصة الحب بين شمس بنت شهبندر التجار ومنصور.

قاعة محدودة وجمهور كبير

بالطبع عندما تذكر كلمة الأوبريت لابد أن يتبادر إلى ذهنك على الفور حجم الضخامة الإنتاجية الذى بدا عليه هذا الأوبريت، من أوركسترا وصورة مسرحية مبهرة بالأزياء والمكياج والديكور وخشبة المسرح الكبير، التى تناسب حجم الفخامة الشعرية واللحنية لبيرم التونسى وزكريا أحمد؛ لكن تظل فرقة الورشة لقائدها حسن الجريتلى تمنح دروسًا يومًا بعد يوم فى نسف وتجاوز كل الخيالات، بتقديم شكل غير متوقع لفن الأوبريت وفيه تتعلم كيف تبدع دون أن تنتج، وكيف تتخطى وتتجاوز خيال الأثرياء بتقديم عمل فنى محترف يداعب أحلام المسرحيين الفقراء، هكذا تفعل دائمًا فرقة الورشة بتقديم شيء كبير من لا شيء، ففى داخل شقة صغيرة اخترع الجريتلى بأحد أركانها مسرحًا، أو قاعة محدودة العدد، وبمجموعة من الكراسى المتحركة وبحرفة وجودة أداء المشاركين من مطربين وممثلين وعازفين بفريق الورشة قدم هذا الأوبريت الغنى فنيا والفقير إنتاجيا، لكنك لن تشعر بهذا الفقر أمام الثراء الفنى لصناعه بدءًا من جمال الأصوات ومتعة الأداء فى الحكى والغناء والتمثيل وانتهاء بالعزف الموسيقي، مستوى آخر من الفن والإبداع الحقيقى الذى لا يحتاج إلى شيء سوى المهارات الذاتية للقائمين عليه، ففى كل عام تقيم الورشة شعائر الفن بغير حسابات المكسب والخسارة أو الإنتاج الفخم والضخم الذى اعتدنا عليه بهذا النوع من الفن، شارك فى بطولة الأوبريت محمد إسماعيل، باسم وديع، داليا الجندي، عبير علي، الزهراء أحمد، ياسمين اسامة، محمد جمال، بهاء طلبة، حازم الصواف، مصطفى زاهد، محمد شعراوي، محمد ربيع، إضاءة شريف الدالي، وملابس نشوى معتوق، عزف ماجد سليمان، جمال مسعد، رأفت فرحات، أحمد ممتاز، نص شادى عاطف، وإخراج حسن الجريتلي.