الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الفارس النبيل

الفارس النبيل
الفارس النبيل




كتبت: سوزان كمال

منذ اثنين وعشرين عامًا، ثانى أيام عيد الفطر مات أبى، كنت طالبة بالفرقة الأولى بكلية الآداب قسم اللغة العربية وفى قاعة الدرس كان هو المُعلم العالِم الإنسان، طاقة النور، الحنان، الصدق الذى يكفى العالم. وقتها كنت قد بدأت قراءة رواية (الحب فى المنفى) التى كانت حديث العام، ثم عرفت بالصدفة أنه يدرسها لطلبة الليسانس، فبدأت أحضرها معهم، وأرى طريقة تدريس لم أعرفها من قبل، وأشاهد فريق عمل يحاضر ويناقش، ود.سيد فرد داخله، يتدخل فقط إذا اشتد الخلاف أو ظهر مصطلح صعب، وفى نهاية المحاضرة يلقى ملاحظاته.. يومها كان لى رأى مخالف له، فرفعت يدى على خجل وسمح لى بالكلام والاختلاف، ورد بابتسامته الجميلة، ثم فى النهاية سألنى: أنتِ يا بنتى مش فى سنة أولى؟! سايبة محضراتك ليه؟ ثم نظر لملابسى - ثوب الحداد الأسود -: تعالى يا سوزان، عايز أتكلم معاكى، يمتد الحديث فى حجرة القسم ساعتين، وأعتذر: آسفة، عطلت حضرتك عن شغلك. فيرتفع صوته للمرة الأولى: يا بنتى هتعرفوا حقوقكم متى؟ أنتم شغلى.. ويطلب أن يسمع قصيدة لى، وقال لى بعدها: جميلة يا سوزان، استمرى، وبكرة تجيبى لى القصيدة دى مكتوبة.. وتستمر الأبوة والصداقة والأستاذية 22 عاما لتهبنى الحياة رجلًا يفتح لى قلبه وبيته ومكتبته شريطة الإخلاص؛ الإخلاص للمبدأ، للوطن، للعلم والعمل. رجلًا لم يخذلنى يومًا. سيد الثائر، الغاضب، المناضل، وأمام الصادقين الطفل الوديع، سيد المهيب، الشجاع والخجول الطيب الحنون. قاوم الفساد بكل ما يملك من قوة، وساند بكل ما يملك من حب للعدل والعلم المخلصين، سيد المتضامن مع البشر لأقصى درجة. صديق طلابه الذى سعى جاهدًا لكسر الحدود بينه وبينهم واكتساب احترامهم بالتزام مضنٍ ومكلف، سيد الصادق ومقولته الشهيرة (صديقك من يتحمل صدقك) الرجل الذى لم يصمت أمام القبح أبدًا مهما كانت المغريات. الرجل الذى مثَّل لى ضمير أُمة. قاوم كل أنواع المعاناة، وآخرها محنة المرض التى واجهها بشجاعة واستبسال وبعض العزلة، إلا من اصطفى.. كنا (أنا - هو - أمينة - نجاة سيد) نعد معًا غذاء يوم الأحد، كنت أنا أنتظره أسبوعيًّا وأضطر للاعتذار أحيانًا وصرح لى قبيل رحيله أنه ينتظره بشغف. تعلمت من سيد أن الحياة عطاء وتسامح وكفاح، وأن البشر - كل البشر - يستحقون الشفقة، وأن العدل هو القيمة الأولى والأَوْلى بكل تضحية، وأن مساندة الآخرين واجب، وحمل هموم الوطن واجب، واحترام المختلفين والدفاع عن حريتهم فى التعبير عن اختلافهم واجب، ما دموا لن يضروا ولن يخالفوا طبيعة مجتمعهم. رحل سيد البحراوى الإنسان الأستاذ المناضل الرجل الوطنى العربى الذى أحب وطنه وعِلمه وتلامذته، فأحبه الناس وأحبته الأرض، رحل سيد ولن يغيب، فالفرسان النبلاء لا يموتون!.