الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الناقد سيد البحراوى.. المُُعلم الباحث عن «لؤلؤة المستحيل»

الناقد سيد البحراوى.. المُُعلم الباحث عن «لؤلؤة المستحيل»
الناقد سيد البحراوى.. المُُعلم الباحث عن «لؤلؤة المستحيل»




كتبت – رانيا هلال

 

بين طرقات كلية الآداب كنت أراه يتحدث إلى طلابه فى ود شديد يداعب هذا ويجاوب تلك حتى صادفنى فى مرة وكان يوجه حديثه للجميع وعندما انتهى انتبه إلى الفتاة التى لا تتحدث كثيرا وقال: «وإنتى مش عاوزة تورينا قصايدك بقه ولا ايه» كانت الجملة رغم بساطتها إلا أنها أثارت لدى رغبة فى شيئين أولهما: رغبتى فى أن أخبره بحبى لكتابة القصة القصيرة وليس الشعر وثانيهما: أن أتقرب لهذا الأستاذ الذى يتودد إلى كل الطلبة حتى لأمثالى من طلبة الأقسام الأخرى غير قسم اللغة العربية حيث يدرس لطلبته الذين يحفظ وجوههم التى يلقاها كل يوم.
انضممت لجماعة «آدم» الأدبية وكنا أنا والأصدقاء بالجماعة نقيم الندوات والمؤتمرات ونلتقى كبار القامات الأدبية وكان البحراوى من ضمنهم وفى وقت لاحق التحقت بورشة نقد أدبى كان يشرف عليها فى مكتبة الكتب خان ورأيت عن قرب كيف كان رحمه الله يتعامل مع طلبته فكان حريصا أشد الحرص على أن يكون لكل منهم رأى أصيل ينبع من داخله يدافع عنه ويتشبث به حتى أمامه هو شخصياً كان يؤكد أهمية أن تكون أنت بلا رتوش وألا تنتمى إلا إلى الإنسان بداخلك وتنحاز بكل صدق وتطرف إلى الضمير الإنسانى بعيدا عن أى حسابات أخرى. وتوطدت العلاقة بيننا ولم يخطر ببالى أن يزورنى فى بيتى بعد تغيبى عن الورشة مرتين متتاليتين مصطحباً بعض الأصدقاء حاملا هدية. كانت لفتة إنسانية راقية للغاية من أستاذ وناقد بقامته يحرص دائما على إقامة علاقات صداقة وطيدة ترسخ للإنسانية مع الجميع بغض النظر عن أى فوارق.

وقت أن قررت أن أكتب أولى مجموعاتى القصصية حرصت على استشارته وبحياء شديد وخجل من طلبى بأن يقتطع من وقته لقراءتها ويعطينى رأيه ذهبت إليه فى الجامعة وانتظرته حتى ينتهى من إلقاء المحاضرة وأعطيته الملف الذى يحمل المجموعة فأعطانى ميعادا بعد أسبوع فى نفس المكان ذهبت والقلق والتوتر يتناوبان على كل ذرة فى جسدي. التقيته فى مكتب أعضاء هيئة التدريس وأصر على أن أشرب شيئا وتجاذب معى أطراف الحديث عن بعض الأمور الشخصية ولم يتطرق الحديث بأى حال من الأحوال إلى المجموعة القصصية فأيقنت فى نفسى أنها لم تنل رضاه ولم يرد هو أن يحرجنى بإعلان رأيه صراحة أمامى أو حتى مناقشتها معى فحتماً هى لا ترقى حتى لمستوى المناقشة حولها.
كنت ممتنة له ولمقابلته لى وقبل أن أهم بالانصراف ناولنى الملف الخاص بمجموعتى تناولتها فى عجالة وخجل وانصرفت وعندما وصلت للمنزل تصفحت أوراقها وهالنى ما رأيت فقد أرفق بها دراسة كاملة عن قصص المجموعة تشيد بها وبشخوصها شارحاً مواطن الجمال بكل حب ولافتاً إلى مدلولات تفتح أبوابا للتأويل.
كانت كلماته بمثابة صك العبور إلى عالم الأدب، إقرار من ناقد كبير وإنسان بحق على جودة ما قرأ رغم حداثة وبساطة تجربتى الصغيرة فى عالم الأدب.
قال الدكتور الراحل سيد البحراوى فى دراسته «فى مجموعة القصص الأولى «دوار البر» تفاجئنا الكاتبة الشابة رانيا هلال بقدرة فذة على الوعى بفارق ضئيل لا يستطيع الكثيرون التقاطه، بين رؤية رومانسية تسعى لأنسنة الأشياء ورؤية أخرى قد تكون واقعية أو حتى أعمق من الواقعية. تجسد القيمة الاستعمالية لتلك الأشياء وتنجح بمهارة شديدة فى الإفلات من فخ أنسنة الأشياء، إلى تجسيد قدرة الملكات الإنسانية (الشعورية والعقلية) على التعامل مع الأشياء على نحو موضوعى «لكل شجرة رائحتها الخاصة، لكل شجرة ذاكرتها الخاصة».
كما هو حال الإنسان المصرى والثورة المصرية الآن هى طريق الانتقال من حالة ثورية إلى وعى ثوري. وهو نفسه حال رانيا.. تقودها كتابتها إلى هذا الوعى العميق بجذور الثورة فى التكوين المصرى الخاص.. لا عبر خطابة أو شعارات أو عظات.. وإنما عبر كتابة فنية راقية وجميلة، لا تنفصل بأى حال عن هذا الوعي، فرغم الحرص على بساطة اللغة والحكى تقودنا بنية النصوص القصيرة نسبيًّا والمحكمة الى نهاية فذة فى كل نص، تغلقه مكتملًا، كى ينفتح لذى القراءة على مجمل الدلالات المكثفة والعميقة، تلك التى لم نكن نملك الابتعاد عنها فى هذه الفقرات القصيرة.. هل نحن ــ هنا ــ إزاء ثورة أدبية وليس فقط سياسية تقودها الأجيال الجديدة؟».
على الفور هاتفته شاكرة اهتمامه واستأذنته أن أرفق هذه الدراسة بالكتاب الذى سيضم بين دفتيه قصصى رد قائلا: «هى دلوقت بتاعتك اتصرفى فيها زى ما تحبى».
صدرت مجموعتى القصصية الأولى «دوار البر» 2012 وحصلت على جائزة ساويرس الأدبية 2014 ولم أتردد لحظة فى إهداء الفوز لذلك الرجل الذى وقف بجانبى ودعمنى وساندنى وأنا ما زلت أحبو فى عالم الكتابة والأدب ولم يكن هذا مقتصرا على فقط وإنما قدم خلال مسيرته الإنسانية عشرات المبدعين فى جميع المجالات واهتم بشكل خاص بالشباب وفتح بيته للقاصى والدانى من الكتاب والباحثين والدارسين واعتبر الجميع أبناءه وهو الذى لم يرزقه الله بأبناء من صلبه فجعلنا بحبه ودفئه وونسه ودعمه غير المشروط أبناءه نحن أبناء هذا الرجل الذى رفض التعاون مع كل المؤسسات التى ضمت بين طياتها جهات أو أشخاص معادين لمصر وندد بجرائم الكيان الصهيونى فى فلسطين وعشق تراب الوطن الذى رفض أن يتركه رغم الإغراءات التى حاصرته من بلاد تقدسه وتقدس علمه، عربية وغير عربية على رأسها دولة «المغرب» الشقيق الذى منحته لقب «إله النقد العربى».
رغم فرادة وتميز دعواته إلى وجود نظرية نقدية عربية خالصة ومع ذلك لم تجد استجابات وصدى يعمل على تفعيلها بشكل لائق لكنه لم ييأس وحرص على البدء بنفسه فعكف ذلك اليسارى الدءوب على تأصيل كل ما كتب بالعربية فى مجال الأدب.
هاجمه المرض مرتين صمد خلالهما بكل شجاعة وتحمل العلاج بالكيماوى ولم يقبل بالعلاج سوى فى بلده بين أهله وأحبابه وعلى نفقته الخاصة فقط. لم يكن يتردد فى السؤال عنى ومهاتفتى كلما أمكن يطمئن على الكتابة وعلى أحوالى الشخصية ويسألنى عن جديدى فى الكتابة وكثيرا ما كان يرشح قصصى لباحثين ونقاد من الوطن العربى ليستعينوا بها فى أبحاثهم ويخبرنى بنفسه عندما تنشر تلك الأبحاث حتى عندما كنت أتحدث إليه عن فكرة ما تراودنى أجده وقد اهتم وبحث واتصل بى ليخبرنى بما وجد وينصحنى من أين يجب أن أبدأ فيها.
اجتاز مرحلة المرض فى المرتين بنجاح ولكن كانت المضاعفات التى فاجأته مؤخرا كمن تتربص به وهى التى أودت بحياته فلم يتحمل صدره الذى حمل كل هموم الوطن والأصدقاء والكتابة أكثر من ذلك وآثر الرحيل وسط دعوات كل أبنائه وزملائه وأحبابه بالرحمة.
- فى رؤيته عن الألم حيث قدم كتابا بعنوان «فى مديح الألم» قال: «فى تأملى للحياة ومكوناتها، اكتشفت أنه الأصل فى الحياة، ولا حياة من دونه، فهى مقترنة به، وهو محور مجهود الإبداع، والصناعة، والاقتصاد، والهدف من نشاط الإنسان هو التغلب عليه أو مقاومته، فحياة الإنسان دائرة من الألم، ما أن ينتصر على ألم حتى يدخل فى آخر، ولا تغلق هذه الدائرة إلا بالموت».
وكانت رغبته الوحيدة فى آخر أيامه ألا يتألم وقد نالها، لكنه ترك لنا ألما عظيما لن يدركه إلا من نهل من دفء وإنسانية هذا الرجل.