الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

فى كتاب د.السيد محفوظ.. عن دار«آفاق» «الفراعنة» أسسوا أقدم دولة مُوحدّة عرفتها الإنسانية

فى كتاب د.السيد محفوظ.. عن دار«آفاق» «الفراعنة» أسسوا أقدم دولة مُوحدّة عرفتها الإنسانية
فى كتاب د.السيد محفوظ.. عن دار«آفاق» «الفراعنة» أسسوا أقدم دولة مُوحدّة عرفتها الإنسانية




كتب - علاء الدين ظاهر

 

مر علم المصريات المعنى بمحطات رئيسية شكلت تاريخه، ويعتبر «شاملبيون» وفك رموز حجر رشيد هو الخطوة الأولى فى تاريخ هذا العلم، ثم كانت جهود«مارييت» فى شأن إنشاء مصلحة العاديات المصرية ومتحف بولاق لحفظ الآثار مرحلة ثانية فاصلة، وكان كشف «كارتر» عن مقبرة الملك «توت عنخ آمون» مرحلة ثالثة لفتت أنظار العالم لقيمة الحضارة المصرية، وكانت القفزة الرابعة لهذا العلم هى حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة ومعابدها فمثلت الطفرة الحديثة فى علم المصريات وبعدها تغيرت كثيرا مفاهيمه ومناهجه ومعطياته.
ويختلف الباحث فى تاريخ الدولة الفرعونية عن أقرانه المتخصصين فى الحقب التاريخية الأخرى سواء الهللينستية أو البيزنطية أو الوسيطة-الإسلامية أو الحديثة أو المعاصرة، فهو مدعو باستمرار للنظر فى المكتشفات الحديثة التى قد تؤكد أو تغير الكثير من الفرضيات التاريخية، كذلك لا يمكنه الاستغناء عن الرجوع للمصادر الأثرية، وهو ما يدعوه لأن يكون مؤهلًا علميًا فى مجالات وتخصصات تختلف اختلافا بيناً فى موضوعاتها وأساليبها ومنهاجها سواء فى مجال التعامل مع النصوص والمصادر المكتوبة أو التعاطى مع المعطيات الأثرية.

ما سبق كان مدخلا ضروريا للحديث عن كتاب «تاريخ الدولة الفرعونية» لمؤلفه د.السيد محفوظ أستاذ التاريخ القديم والآثار بكلية الآداب جامعة الكويت، والصادر عن دار «آفاق»، وذلك بمجهود كبير من مدير الدار د.ناصر الشمرى وأحمد مصطفى مصمم الكتاب ومحمد عبد الله المدير الإدارى لدار آفاق، حيث إن الهدف من هذا المؤلف هو محاولة تعريف أقدم دولة عرفتها الإنسانية وترسم معالم تطورها عبر آلاف السنين.
والمثير فى الأمر، أنه رغم معرفة هذه الحضارة لمفهوم الدولة الموحدة منذ فجر تاريخها،إلا أن لغتها ونصوصها الكثيرة والمتنوعة، لم تعرف مفردًا واضحًا لكلمة «الدولة»(State-Etat) بمفهومها المعاصر،فنصوصها ومصادرها تتحدث عن«نيسو»(ملك-nsw) وهو رأس الحكم و«نسيت» (ملكية nsyt) تعرف مؤسسته الحاكمة و«كمت» (الأرض السوداءKmt) تسمى وادى النيل وسهله الفيضى و«تاوي» (الأرضين t3wy) ترمز لازدواج وادى النيل الأدنى وترمز بطبيعة الحال للكيان السياسى الخاضع لسلطات الملك الفرعون و«را-غنو» (مقر الحكم r-hnw) تمثل مركز السلطة المركزية.

الدولة المركزية

ومع هذا ففى نهاية الآلف الرابع قبل ميلاد السيد المسيح يمكننا استقراء العديد من المعطيات والمقدمات التى تُظهر توصل المجتمع المصرى لشكل الدولة المركزية الموحدة وتوفر مقومات هذه الدولة فى سبق تاريخى غير مسبوق فى هذه البقعة من العالم، وعند ترسمنا لهذا التطور، لابد أن نحدد بدايةً «الإطار» أو البوتقة التى اشتملت عليها هذه الدولة، وبمعنى أكثر وضوحاً حدود هذه الدولة والتى لم تكن على شكلها الحالي، فقد امتدت فى كثير من الأحيان لتشمل وادى النيل بأكمله حتى الجندل الرابع فى وسط السودان حاليًا، بل وربما وصل النفوذ المصرى حتى منطقة القرن الإفريقى من ناحية الجنوب واتسع فى منطقة الشرق الأدنى القديم حتى نهر الفرات.
فى وسط هذه الإطار الواسع يقف «الملك» وبجواره معاونوه وأحيانًا معارضوه أيضًا، ونرى الكهنة وما افترضوه من معبودات سيدوها على الحكام والمحكومين. ولا يغيب عن هذه المشهد، الشعب المصرى الذى ظل صامتاً طويلاً وإن لم يكن يومًا ساكنًا، فكان يظهر من وقت لآخر ليلعب دور البطل ويتمكن من تغيير الشكل الثابت لهذه الصورة بتغييره طريقة وقواعد ممارسة السلطة.يُفهم من هذا أنه حسب العصر والمتغيرات الإقليمية، يتبادل هؤلاء الممثلون دور البطولة على مسرح الأحداث وإن أعطت مؤسسات الدولة المصرية ذات المرجعية الدينية الدور الرئيسى ولو بصفة شكلية للملك المؤله.
وُلد نظام الدولة المركزية الموحدة فى مصر فى نهايات الآلف الرابع قبل الميلاد واستمر ولم يتغير معتمداً على أساس سياسى دينى يفترض ألوهية الحاكم ويتركز على وجوبية طاعته وتحريم الخروج عليه أو معصيته، فيما يُعرف اصطلاحاً بنظام «الملكية الإلهية». وهو نظام يكفل بقاء الدولة بمؤسساتها ووحدتها منذ نشأتها وإن تغيرت المفاهيم والتصورات حول شخص الحاكم، وكذلك هضمت أرض الكنانة الغزاة من هكسوس أو ليبين أو فرس أو أغريق أو رومان ومصرتهم وغيرتهم ولم يغيروا نظام حكمها وإطار إدارتها. وقد يتبادل الممثلون فى مسرح إدارة الدولة أدوار البطولة، ورغم هذا أعطت مؤسساتها ذات المرجعية الدينية للملك المؤله الدور الرئيسى بصفة دائمة ومستمرة ولو بصفة شكلية فى كثير من الأحيان.

الحضارات الإنسانية

وطوال التاريخ الفرعونى كان للصحارى الواسعة المحيطة بوادى النيل تأثير كبير وواضح على الاقتصاد المصرى بثرواتها الطبيعية وفى عمليات التبادل التجارى مع الكيانات المجاورة. كانت الصحارى المحيطة بوادى النيل بالإضافة للبحرين الأحمر والمتوسط المحيطين بمصر من الشمال والشرق عناصر عزلة مانعة أحياناً تنقلب إلى جسور اتصال فى أحيان أخرى حسب الكيان المتعامل مع الدولة المصرية من الجهة الأخرى فجابهت مصر بسببها وعلى أرضها أحيانًا شعوبًا وقبائل قادمة من آسيا وأوروبا ومن ليبيا ومن منابع النيل فى أواسط إفريقيا ومن مناطق الشرق الأدنى القديم.
وعلى أية حال يبقى نموذج الدولة الفرعونية بتركيبها وتوازن مؤسساتها دون شك من أكثر نماذج الدولة والكيانات الحضارية والسياسية الموحدة، أصالة وأهمية وقدرة على الاستمرار والبقاء. تمثلت الأصالة فى نسبة الكثير من الإبداعات الإنسانية فى المجالات المختلفة من علوم وفنون وآداب مثل الهندسة والرياضيات والطب والصيدلة والكيمياء والشعر والأدب والمسرح و العمارة والتصوير والنحت للحضارة الفرعونية، والدولة المصرية متميزة بالقدم باعتبارها من أقدم الحضارات الإنسانية ويكفى استشهاد الرئيس الأمريكى «ترامب» مؤخرًا بقدم الحضارة المصرية متباهياً بها فى مناقشته مع الرئيس الصينى ورغم هذا فهى تختص عن غيرها من الحضارات الإنسانية العريقة بالاستمرارية، فنظامها المركزى منذ ولادته فى عصر التأسيس فى مطلع الألف الرابع قبل الميلاد ورغم تعرضها عبر تاريخها لغزوات خارجية هضمتهم ومصرتهم وهى حتى اليوم دولة موحدة متجانسة.

مصرفى التاريخ

ويبقى التساؤل متى سقطت الحضارة الفرعونية؟ وهنا يجب التفريق بين السقوط السياسى والسقوط الحضاري، فالدولة الفرعونية سقطت بدخول الإسكندر الأكبر مصر فى القرن الثالث قبل الميلاد واستمرت يحكمها أجانب حتى تولى الرئيس محمد نجيب حكم مصر فى 1952م، غير أن الحضارة المصرية لم تسقط بدخول الإسكندر الأكبر وحكم البطالمة أو تبعية مصر للإمبراطورية الرومانية بعد هذا، فقد تبنى هؤلاء الحكام نظام الحكم الفرعونى واحتفظ المصريون بتقاليدهم وثقافتهم الفرعونية ولم تختفى على الأقل ظاهريًا إلا مع دخول المسيحية لمصر واعتبارها كل ما سبق عليها وثنياً وخروجاً على الدين القويم، فاختفت الحضارة الفرعونية من السطح وإن بقت فى عقل المصرى الباطن وجيناته الوراثية تخرج وتظهر من خلال عاداته وتقاليده وموروثه الثقافي.
الكتاب ألقى الضوء على بعض المسميات ومدلولاتها، فاسم «مصر» الذى تستخدمه اللغة العربية يعود فى أقدم صوره للنصوص الأكادية فى طورها الآشورى وتبعتها قرائنها من اللغات السامية سواء الشرقية أو الغربية بجذر واحد ثلاثى هو «مصر»، وان اختلفت فى اللواحق بين «مصري» و»مصرا» و»مصرايم» فى العبرانية القديمة بمعنى «المصرين» فى إشارة واحدة للازدواجية المعروفة فى اللغة المصرية القديمة. ولا نعتقد أن لهذه الكلمة أصل فى اللغة المصرية القديمة رغم افتراض كثير من المتخصصين لوجود أصل مصرى مثل «مـﭽر» وذلك لعدم ثبوت إطلاق المصريين فى نصوصهم لمثل هذه المصطلحات على بلدهم.
كما أطلقت اللغة اليونانية عليها اسم «أيجبتوس» Aegyptus ومنه جاء اسمها مصر فى اللغات الأوربية Egypt, Egypte, Egitto ويبدو سبب إطلاق الإغريق لهذا التعبير على مصر غير محدد وقد قربه المتخصصون أحياناً من تعبيرات مصرية قديمة مثل «حوت كا بتاح» وغيره، ولكن ربما نراه قريبا جداً من اسم «قفط» باللغة المصرية القديمة وكان «جبتيو» وأحيانا يصحف إلى «قبتيو» وهو ما يربطها بمسمى مسيحى مصر بالأقباط أو القبط، وإن بقى التساؤل لماذا يطلق الإغريق مسمى مدينة «قفط» على مصر بأكملها.
وعليه فمصر اسم أطلقته المصادر السامية و»أيجبتوس» المصادر اليونانية ومشتقاتها الأوربية ولكن ماذا كان المصريون أنفسهم يطلقون على بلادهم. يبدو الاسم الأكثر استخدامًا هو «تاوي» ويعنى حرفيا «الأرضين» وإن كان يقصد به كاتب النص المصرى بصفة دائمة الدلالة على «مصر» بمفهومها السياسى الحديث، كاسم علم يستخدمه منظرو الملك فى الديباجات الملكية، فالفرعون هو «نب تاوي» بمعنى سيد أو صاحب مصر (الأرضين) ويعضد من هذا أن الشعوب القديمة كثيراً ما كانت تستخدم لفظ «الأرض» للتعبير عن البلد وهو ما ظهر أيضاً فى نصوص القرآن الكريم. وتبقى مفردات جغرافية أخرى استخدمها المصرى للدلالة على بلده ولكن كانت تُستخدم بشكل موسمى وليس دائم مثل «كمت» ويعنى «السوداء» دلالة على أرضها الغرينية الخصبة سوداء اللون فى مقابل الصحراء «دشرت» والتى تعنى حرفيا «الحمراء».
وجاء فصل الكتاب الأول حول عصور ما قبل التاريخ اعتمادًا على تقنيات كل عصر ومواقعه فى مصر منذ العصر الحجرى القديم الأسفل حتى نهاية عصر ما قبيل الأسرات (نقادة الثالثة أو الأسرة صفر)، ثم ينتقل المؤلف لعصر التأسيس المتمثل فى الأسرتين الأولى والثانية متناولا مشكلات العصر التاريخية كمشكلة الملك المؤسس ومشكلة النصف الثانى من الأسرة الثانية، وفى الجزء الخاص بالدولة القديمة تناول الكتاب الأسرة الثالثة ودور الملك «زوسر» ومهندسه «إيمحوتب» وفى الأسرة الرابعة التى تعتبر من ذروات الحضارة المصرية تحدث الكتاب فى دور «سنفرو» مؤسس الأسرة فى إرساء دعائم دولة قوية ثم «خوفو» صاحب الهرم الأكبر وتشويه سمعته التاريخية ثم الخلافات الأسرية بين فرعى الأسرة الحاكمة فيما جاء بعده، وفى الأسرة الخامسة يرصد الكتاب بداية ظهور طبقة التكنوقراط والموظفين ونمو البيروقراطية المصرية ثم تحول الدولة نحو شكل من أشكال اللامركزية خلال الأسرة السادسة مع ازدياد نفوذ حكام الأقاليم واختتم الكتاب الجزء الخاص بالدولة القديمة بالحديث حول سبب سقوط هذه الدولة العتيدة بفعل الكارثة الطبيعية التى وقعت وتأثرت بها كل الحضارات القديمة المعاصرة والتى عُرفت بموجة الجفاف العالمية بعيداً عن التفسيرات التقليدية لسقوط الدولة القديمة من ثورة اجتماعية وهمية أو أسباب اقتصادية أو اعتداءات خارجية، فقد كانت جميعها أعراض لما حدث وليست أمراض.

الأطماع الخارجية


وقد خصص الكتاب جزئه الأخير للعصر المتأخر هو المتأخر زمنيا والمتأخر حضاريا فكان ملوك الأسرة الحادية والعشرين فى تانيس الذين تركوا كبار الكهنة يتحكمون فى صعيد مصر، بل وسعوا فى فترة تالية لمصاهرتهم وتوحيد الخط الملكى والكهنوتى لضمان استمرار أسرتهم، وتواكب هذا بازدياد نفوذ العناصر الليبية وارتقائهم فى المناصب العسكرية (اللى على رأسهم ريشة) حتى نجح أحدهم فى الوصول للحكم مؤسساً لفترة حكم الليبيين والتى استمرت من الأسرة الثانية والعشرين حتى الأسرة الرابعة والعشرين والذين كانوا أسرات متعاصرة تتنازع النفوذ فى مناطق الدلتا حتى بدا خطر جديد تمثل فى أسرة نوبية وليدة فى نباتا نجحت فى غزو مصر وتأسيس أسرة نوبية دخلت فى صراع مع القوة الإقليمية الرئيسية فى هذا العصر وهى قوة الأشورين الذين دخلوا مصر عدة مرات فى عهدهم بل واجتاح ملكهم «أشور بانيبال» عاصمة العالم القديم «الأقصر» وأشاع فيها الدمار والتخريب.
ومع العصر الصاوي، تبدأ الأسرة السادسة والعشرين جهود توحيد البلاد من جديد وإخراج الأشوريين والغريب أن أعوانهم من أحفاد الأسر الليبية المتعاونين معهم هم من قام بالتخلص من حكمهم، فكان «بسماتيك الأول» الذى استعان بالجنود المرتزقة الكارين لتوحيد البلاد فوض نفوذه والتخلص من بقايا الحاميات الأشورية مؤسسا عصر حاولت فيه الدولة المصرية استعادة شبابها الفتى مستلهمة مجد الدولة القديمة فى الفنون والعمارة وإن اعتمدت الكتابة الشعبية (الديموطيقية) كتابة رسمية لها مؤذنة ببداية عصر لغوى جديد.
فى خلال هذه الحقبة تبدأ أطماع قوة جديدة تظهر فى الشرق وهى قوة الأخمينيين الذين يغزون مصر فى عهد ملكهم «قمبيز» ويعلنون ولادة الأسرة السابعة والعشرين ومؤذنين باستمرار الوجود الفارسى فى مصر وإن مرت البلاد بمحاولات الخروج عن نفوذهم عبر أسرات حكم وطنية من قواد وملوك مصريين خرجوا على الفرس وأخرجوهم عدة مرات خلال الأسرات الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، بل كان بعضهم من أصحاب المشروعات المعمارية الكبيرة كملوك الأسرة الثلاثين الذين ينتهى حكم بعودة الفرس لمصر وإخضاعها لحكمهم انتظارا للحدث العالمى الأبرز فى العصور القديمة وهو غزو الإسكندر الأكبر للشرق القديم ودخوله لمصر بشرًا تلميذًا لأرسطو وخروجه منها معبودًا ابنًا لآمون- رع.