الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

هـل انتهـى زمـن الشعر العربي

هـل انتهـى زمـن الشعر العربي
هـل انتهـى زمـن الشعر العربي




كتب – خالد بيومى


ظل الشعر قرونًا طويلة بمنزلة العماد الرئيس للثقافة العربية، وصار علامة الرقى حين اهتم الخلفاء والملوك والأمراء برعاية الشعراء فى رحاب بلاطهم، وظل يمارس تأثيره وفاعليته فى مستوى النخب، وفى مستوى العامة، ولم يتوقع أحد يومًا أن يتوارى فن العربية الأول على مدار كل هذه القرون لصالح فن وافد من الغرب؛ كالرواية أو المسرح أو السينما أو الدراما التليفزيونية، فهل عجز ديوان العرب عن المنافسة على وظيفته ودوره وتأثيره لصالح هذه الفنون؟ أم أنه كفنٍّ معنيّ باللغة وجمالياتها وبلاغتها لا يتفق مع آليات الذيوع والانتشار الجديدة؟ أم أن العرب أنفسهم أصبحوا خارج إطار المنظومة الحضارية فى العالم، ومن ثَمّ فلا حاجة للعالم بفنهم الأول، كثير من الأسئلة التى يثيرها توارى الشعر عن دوره لصالح فنون أخرى، فما الذى حدث؟فمن يتخيل أنه لا توجد قصيدة شعرية واحدة يرددها العرب اليوم بعد كل ما مروا به من ثورات؟ إلى أين وصل الشعر اليوم؟ ما الذى غيّبه؟ ندرة المواهب الجديدة؟ رحيل الشعراء الكبار؟ توافر أجناس أدبية بديلة؟ سيطرة الشعر المكتوب باللهجات؟ وجود وسائل تعبير إلكترونية فورية؟

 هل هُزِمت الصورة الشعرية أمام الصورة الفيزيقية بكاميرا الجوال؟ هل هو العالم المتسارع حولنا شديد المادية؟ أم نقول ما قاله عنترة: «هل غادر الشعراء من متردم؟» وإن كل ما يمكن قوله فى الشعر قد قيل وانتهى؟
يقول البعض إن زمن الشعر انتهى، أو أنه لم يعد ديوان العرب ،على أقل تقدير، وفى المقابل يبشرون بالرواية سجلاً جديداً لحياة الناس وأحلامهم، وربما أوهامهم أيضاً، لكننى فى المقابل أعتقد أن انتشار السرد، على حساب غيره من الفنون ،يعنى فى أحد جوانبه طغياناً، أو انحيازاً نحو الثرثرة، يتلاءم والمرحلة الحضارية التى يمرّ بها العرب عموماً، على ألا يعنى ذلك تقليلاً من قيمة الحكاية الراقية التى لا تجسد ذلك الهذيان اللغوى.. واستناداً إلى ذلك يمكننا أن نفهم قصيدة الحكاية واليوميات التى تقدم على طبق النصوص المفتوحة والذرية أو الموصومة بأنها تحاكى مرحلة ما بعد الحداثة!.
 وإذا كانت الرواية تشكل ديوان العرب فى العصر الحديث، كما قال جابر عصفور، فهناك تجارب مهمة جداً فى الكتابة الروائية، ترقى إلى المستوى العالمى إلا أن المتسلقين أعتاب الرواية كثيرون».
 وقد أصدر عصفور كتاباً بعنوان: «زمن الرواية»، فتصدى له الشاعر  فاروق شوشة بكتاب حمل عنوان: «زمن الشعر» دافع فيه عن الشعر معتبراً أنه الفن الأول فى كل زمن، ولكن الدفاع على وجاهته، لا ينفى كون الشعر يتراجع عند القارئ لتتقدم عليه الرواية، فالرواية هى الأقدر على معالجة قضايا الناس والمجتمعات المعاصرة ذات التعقيد البالغ فى علاقاتها وفى أنماط عيشها، هذا إن لم نقل إن الشعر عجز عن عقد صلات بينه وبين الحياة المعاصرة بسبب استغراقه فى الغموض والإبهام ورفضه توسل أساليب الشعرية التقليدية الراسخة فى الوجدان العام وإيثاره لغة موغلة فى الرمزية مماثلة لما يصلنا من الشعر الأجنبى مترجماً، فلابد من كدّ الذهن من أجل الفهم، فى حين أن الرواية لا تتطلب مثل هذه الرمزية القاتلة وبإمكان القارئ أن يبحر فيها بسهولة فى حين أن الإبحار فى الشعر الحديث، عندنا وعند سوانا، أشبه بالإبحار فى المحيطات المتلاطمة الأمواج.
وفى أوروبا وفى أوائل القرن التاسع عشر الذى هو قرن التطور الصناعى والتكنولوجى حاول الكثير من رواد مبدأ المنفعة ومعهم أصحاب العلوم التطبيقية أن يوجهوا العامة بأن عصر الشعر قد انتهى لأن تهويماته لاتقدم فى زمن اللغة الصناعية شيئا، وقد دافع الشعراء الرومانسيون آنذاك عن دولتهم الشعرية بتفان، فقال (وردزورث): إن الشعر هو روح المعرفة الشفيفة والتعبير العاطفى المرسم على وجه كل العلوم وقال (شلى) : (إن الشعر شيء إلهي، إنه مركز المعرفة ومحيطها، إنه ذاك الذى يشتمل على العلم كله، والذى يرد إليه كل العلم، إنه فى الوقت ذاته جذر الفكر وبرعمه)، وقد بلغت المواجهة ذروتها منتصف القرن بين العالم التطورى توماس هكسلى وبين الشاعر (ماثيو أرنولد).
وقد طرح التساؤل حول موت الشعر، فى الأزمنة الحديثة، فى سياق نقدها، والتحذير من مخاطر التقدم التكنولوجي، وهيمنة ثقافة السوق والاستهلاك، وتهاوى الثقافة الرفيعة أمام الثقافة الجماهيرية، وتقنيات الدعاية والترفيه والإعلام الحديثة. ولم يسبق أن اقترن الكلام عن موت الشعر بغياب هذا الشاعر أو ذاك.
لذلك، لا ضرورة، فى الواقع، لتحميل الكلام عن موت الشعر فى سياق الكلام عن غياب محمود درويش أكثر مما يحتمل. ومع ذلك، ينبغى القول إن محمود درويش كان ظاهرة فريدة، وغير قابلة للتكرار. وهذا يصدق عند الكلام عن المتنبي، وأبى تمام، وشكسبير، وماياكوفسكي، ولوركا، ونيردوا.
ففى كل ثقافات ولغات الكون ظهر شعراء غير قابلين للتكرار، ولم يغب الشعر بغيابهم، فقد جاء بعدهم شعراء، وسيأتى دائما شعراء. وإذا كان كبار الشعراء، والشاعرات، غير قابلين للتكرار، فهذا لا يعنى أن أحدا من جيل، أو زمن لاحق، لن يتمكن من تنسم المكانة نفسها، ولا يعني، بالضرورة، أن عليه أن يكون مقلدا لهم، أو نسخة عنهم.
الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى يرى أن ‬الشعر‭ ‬احتياج‭ ‬إنساني‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنه‭ ‬لأنه‭ ‬أكمل‭ ‬تفسير‭ ‬عن‭ ‬إنسانية‭ ‬الإنسان‭ ‬ومن‭ ‬حاجته‭ ‬إلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬وأكمل‭ ‬تعبير‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬وهي‭ ‬وسيلة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالاتصال‭ ‬بالآخرين‭. ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬تعني‭ ‬المدينة‭ ‬والحضارة‭. ‬الشعر‭ ‬كأنه‭ ‬وسيلتنا‭ ‬لأن‭ ‬نعيش‭ ‬معًا،‭ ‬ولكننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نتصل‭ ‬بهذه‭ ‬الوسيلة‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬نتمتع‭ ‬بأقصى‭ ‬الإخلاص‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الصدق‭. ‬إنّ‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬الإخلاص‭ ‬والصدق‭ ‬مليء‭ ‬بالقسوة‭ ‬عنيف،‭ ‬لأننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نتعرض‭ ‬إلى‭ ‬القسوة،‭ ‬وحين‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الحدّين‭: ‬المودة‭ ‬والموت،‭ ‬أي‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬عمقها‭ ‬والموت‭ ‬في‭ ‬قسوته،‭ ‬وأنا‭ ‬اعتبره‭ ‬انقطاعاً‭ ‬وعدمًا‭. ‬وربما‭ ‬تعتبر‭ ‬أيضاً‭ ‬حركة‭ ‬الشاعر‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الحدّين‭ ‬ملهمة‭.
ويضيف حجازي: ضرورة الشعر مسألة بديهية نصل إليها بأنفسنا دون أن نحتاج إلى من يدلنا أو يقنعنا بها.الشعر ضرورة والدليل على ذلك استمراره فى كل اللغات وكل الحضارات على مر العصور ، بل الشعر هو الأصل،أصل اللغة.ومن ثم أصل الحضارة؛لأن اللغة حين بدأت لم تكن نحوا وصرفاً ولم تكن فنوناً وعلوماً مختلفة تتميز فيها لغة التعبير من لغة الاتصال ولغة العلم من لغة الأدب ولكنها كانت لغة واحدة تعبر عما يحسه الإنسان ويشعر به ويخطر له فى اليقظة والحلم وفى الواقع والخيال .وهذا هو الشعر الذى نستطيع أن نسميه لغة كلية لأنه تعبير عن وعى كلي.فالحضارة بدأت من اللغة التى مكنت الناس من التواصل والاجتماع والتفكير والتعبير.
أما الدكتور محمد عبد المطلب فيقول: ما زلت أرى أن الشعر يمثل الذاكرة العربية الحقيقية رغم المنافسات التى أحاطت به قديماً وحديثاً من أجناس أدبية أخرى وظل الشعر محافظاً على حضوره منذ أن ظهر قبل الجاهلية حتى يومنا هذا، وأخذ يهبط حيناً ويعلو حيناً لكنه لا يغيب أبداً، لكنى لست منحازاً إلى الشعر ضد الرواية، أو القصة أو المسرح لأن لكل جنس أدبى وظيفته. لكل جنس قراؤه، لكن إذا حاولنا أن نربط الإبداع بالذات الإنسانية، فإن الشعر يكون أقربها إلى هذه الذات. ولذلك أنا دائماً أردد مقولة «الشعر ديوان العرب»، فأنت لو حاولت أن تستشهد على واقعة معينة، فلن تجد ما يسعفك سوى الشعر. فإذا تحدثنا عن الغزو الفرنسى لسورية عام 1925 لن نجد ما يعبر عن هذا الحدث سوى قصيدة أحمد شوقى «نكبة دمشق»، وكذلك حادث دنشواى الشهير عام 1906، لن تجد سوى قصيدة حافظ إبراهيم عنه. ومهما كان الرواة والمؤرخون حاضرين، سيظل الشعر هو المعبر الحقيقى عن هذه الوقائع.
وتحولت المدونة الشعرية إلى (وثيقة) ثقافية، تضم الأعراف والتقاليد والخبرات، كما تضم الوقائع والأحداث، ومن ثم تحولت إلى أفق من الهيمنة التى لا تحتاج إلى مستندات شرعية كغيرها من المؤسسات السلطوية، فأفق السلطة الشعرية مفتوح للجميع يدخلونه اختياراً، بوعى أو من دون وعي، سواء أكانوا من مبدعى الشعر أم من متلقيه. وأشير إلى أن سيطرة السلطة الشعرية كانت تتناوب عليها أحياناً لحظات تمرد فردى أو جماعي، ويكون ذلك إشارة إلى أن الشعرية العربية على أبواب مرحلة إبداعية طارئة، تمهد لسلطة إبداعية جديدة، قد تكون موافقة للسلطة السابقة عليها، وقد تغايرها فى بعض الركائز والهوامش.
والتحرك من سلطة شعرية إلى أخرى لا يحتكم إلى جماعية أو فردية، فقد يكون لعنصر فردى من القوة ما يتيح له قدراً كبيراً من التأثير أولاً، ثم السيطرة ثانياً، وهو ما سجلته المسيرة الشعرية مع شعراء بعينهم أمثال زهير بن أبى سلمى فى الجاهلية، وأبى نواس وأبى تمام وأبى العلاء بعد الإسلام، أما فى العصر الحديث فقد ترددت أعلام ريادية مؤثرة أمثال البارودي، وشوقى ومطران وجبران، ثم نازك الملائكة والسياب وأدونيس وصلاح عبدالصبور وحجازى وسواهم من جيل الريادة.
واتهام الشعر فى عصرنا بالعجز غريب، لأن الشعر لم يتغير حاله كثيرا منذ بزوغ فجره فى التعبير الإنساني، وما زال يتجدد فى كل عصر من خلال أسماء مبدعة يتوهج عطاؤها. فالشاعر الجاهلى وقف موقفه الوجودى أمام الحياة، من خلال وقفته الشهيرة على الأطلال فى تساؤلات عن المصير والغاية، وفى محاولة للتشبث بالوجود والبقاء... وإن كانت الحضارة العربية القديمة –إن صحّت تسميتها بالحضارة- وسط الرمال المتحركة وعوامل التعرية النافذ مفعولها بقوة على مقدراتها البسيطة؛ إن كانت لم تجد ما تدوّن عليه مشاعرها ورؤيتها فقد رسمت بالكلمات ما يمكنه التعبير عن تلك الرؤية، التى غرقت بين معطيات كثيرة.
لقد تفاوت دور الشعر بين القوة والضعف قياسا إلى موظِّفيه، فقد سكنت بعض قصائده قصور المال، واستطاعت تلك القصائد أن تكون ذات بعد إيجابى فى دعم التغيير، وقد سكنت بعض قصائده قلوب أصحاب المبادئ، واستطاعت أن تكون عونا لهم على أداء رسالتهم... ويمكننا وفق نظرة موضوعية أن نقول إن الشعر فى كل تلك الأحوال كان جزءا من مشكّلات المشهد الثقافى التى لا يمكن تجاوزها خصوصا فى ظل حياة أكثر بساطة من حياتنا التى نعيشها اليوم. لكن هذه الكينونة لم تغادر مكانها كثيرا فى زماننا، لأن الأدوات الثقافية التقنية الحديثة من وسائل الإعلام المختلفة التى أسست لأشكال أدبية جديدة لم تغلق الباب أمام الشعر وانتشاره؛ بل كانت عاملا من عوامل تحرره من قيود التسول، وأصبحت منبرا حرا لكتّابه بعيدا عن الشهرة مقبوضة الثمن. وخصوصا مع انتشار الغناء كمنبر مهم من منابر الشعر وانتشاره حيث لبس الشعر ثوبا من الألحان والصور والمؤثرات التى لم يحلم السابقون بتوافرها لكلماتهم.