الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

آلام الإنسانية

آلام الإنسانية
آلام الإنسانية




كتبت_هند سلامة

تعددت المعاناة والمآسى التى عاصرتها شعوب الكرة الأرضية؛ وهو ما كان واضحا جليا ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبى حيث تعددت أشكال التناول والطرح فى أكثر من عمل مسرحى, سواء عن طريق التعبير باللغة أو الجسد أو حتى باستخدام وسائل تعبير أخرى, مثل عرض «بعثة المحيط الهادي» الذى استخدم ابطاله أكياس القمامة للإجابة عن سؤالهم «هل تعلم أين تذهب النفايات التى نرميها كل يوم؟ لا يمكن أن تختفى ببساطة بل هى تذهب فى مكان ما بالمحيط الهادىء , حيث تراكمت الكثير والكثير منها حتى اتخذت شكل جبل ضخم جدا يطلقون عليها «جزيرة المهملات الكبرى فى المحيط الهادىء»؛ كما اتخذ المهرجان من آلام الحرب ومعاناة الفقد عنوانا لدورته الخامسة والعشرين ولم تقتصر عروض «المسرح تحت دوى القنابل» على عروض «رائحة حرب»، و«هن»، و«مروح إلا فلسطين» بل جاءت معظم عروضه محاكية لحال الواقع العربى المعاصر من آلام هجرة وحرب وفراق ولقاء، ولمزيد من التنوع والمتعة لم تتوقف عروض المهرجان عند المآسى والأوجاع سواء كانت عربية أو عالمية فهناك عروض اتخذت من المتعة والبهجة وسيلة لها مثل عرض العرائس البولندى «توبا والملائكة»، وعرض مسرح الأصابع اكسترافاجنزا «الروعة»، وعرض الإفتتاح «أنا وأنت» لدولة سويسرا وسوف نستعرض هنا بشكل شبه تفصيلى بعض من عروض المشاركة بدورة هذا العام.

 

رقصة حرة فى حضرة سوريا..

كما سبق وذكرنا قدم المشاركون أشكالا متنوعة لتناول معاناة الإنسانية خاصة البلدان التى عانت ولاتزال تعانى من ويلات الحروب، وتأتى سوريا على رأس هذه الدول التى هاجر معظم أهلها تاركين ذكرياتهم إلى حيث لا يعلمون إلى اين ستأخذهم الأرض، قدم ابطال عرض «حضرة حرة» إنتاج سورى ألمانى تأليف محمد ديبان وأسامة الحفيرى وإخراج محمد ديبان؛ عملهم المسرحى الراقص الذى ينتمى للرقص المعاصر، فى لوحات فنية شديدة التنوع والإتقان والإبتكار، قدم الفريق السورى معاناة هجرته من بلده فى صورة شاب تائه ضاقت به السبل ولا يعلم ماذا يفعل سوى الهجرة فى مشاهد جسدية موحية بمجموع الفنانين الحاملين حقائبهم ومهاجرين للخلاص من واقعهم البائس، «حضرة حرة» عرض يجسد الحالات التى مر بها الناس فى الحرب ومن خلال شاب نرى بداية الصدمة التى عاشها عندما أيقن أنه لا طريق للعيش سوى الفرار فتراه مشردا مع أفكاره فى إحدى بقاع الأرض وكل ما يدور فى فكره هو الخلاص؛ يأتى العمل موحيا ومعبرا عن معنى كلمة الحضرة والمأخوذة من الحضرة الصوفية التى اعتاد فيها الناس الابتهال والتقرب إلى الله بالتفانى فى ذكره حد التلاشى من انفسهم، وكأن العمل يستعرض هذه الحالة الصوفية من التلاشى والخلاص باستحضار كلمة الحضرة بمعناها الروحانى بجانب الحرية بالهروب والخروج من كل شيء أدى إلى التكبيل والحد من حركتهم عن الحياة تتابع مشاهد العرض الراقصة التى تنوعت بين رقصات شعبية سورية ورقصة التنورة ولوحات من الرقص المعاصر لتبقى هذه الأجساد المهاجرة أشد تعبيرا وأعمق تأثيرا فى نفوس الحاضرين من العمل المسرحى الناطق بالكلمات فهنا فى حضرة الرقص المعاصر تستعرض الأجساد ما عجزت عنه الكلمات فالجسد هو من عاش وجرح وتألم فى ذهاب وإياب قبل ان ينطق بمعاناته اللسان؛ أبدع الفريق السورى فى تقديم هذه الحضرة الحرة وجاءت اللوحات الراقصة متنقة الصنع حيث تمتع الراقصون بحساسية فنية عالية جعلتهم يرقصون ويمثلون هذا الوجع فإندمج معهم الحضور وكأنهم يستمعون لأنيين أجسادهم الراقصة التى روت كل شيء دون النطق بأى شيء..!

 

«إس_كوارك».. S-Quark

اشترك معه فى الجودة والتقنية الفنية العالية وكذلك فى الإنتماء لمسرح الرقص المعاصر العرض الروسى «إس_كوارك» قدم العمل فى لوحات فنية غير مترابطة دراميا مجموعة من الرقصات الجماعية والثنائية التى تعبر عن معاناة الإنسانية بوجه عام وكذلك وضع ديكور فى خلف المسرح ربما يعبر عن السلطة التى تسيطر على البشر فى كل وقت وحين ومحاولة الإنسان فى التمرد عليها دائما أى كان شكل هذه السلطة؛ فى تتابع فنى وتصميم حركى اتقن المخرج ستاس نامين صنعه؛ اندفع الراقصون بطاقة فنية هائلة وتشكيلات حركية شديدة التميز والانضباط؛ مع إضاءة متغيرة غير ثابتة على شكل او وضع محدد حيث رقصت إضاءة العمل على أجساد الراقصين فكانت تتبعهم اينما ذهبوا واينما رقصوا ترقص بأشكال والوان متعددة وبالتالى شكلت عامل كبير فى خروج العمل وكأنه لوحة تشكيلية متحركة نابضة بالحياة حكت الإضاءة مع ما روته الأجساد بدقة وانضباط مذهل، وذلك على انغام سيمفونية «سنتوريا اسى كوارك» الذى الفها ستاس نامين مزج بين هذه الموسيقى والرقصات التشكيلية المتنوعة التى يؤديها الممثلون بأجسادهم واصواتهم معا.

 

«بلا أقدام أو رأس».. «Sin Pies»

مستوى آخر وتوظيف مختلف لمسرح الجسد كان جليا واضحا فى عرض «بلا أقدام أو رأس» يحمل هذا العمل حالة فنية خاصة جدا، لأسباب عديدة أولها التقنية والتكنيك العالى فى الأداء الحركى وضبطه بدقة ومهارة مع التمثيل؛ ثم فكرة العمل غير المتكررة كثيرا فى نقد الواقع أو السخرية من أشكال الحكم الديكتاتورى تجاوز العرض كل حدود الخيال بداية من فكرته التى تدور حول قصة ثلاثة منشقين أعدوا خطة للثورة على عالم الرجل «لورد هيد» الذى قرر أن يأكل كل العقول الموجودة على الكوكب كى يمنع التفكير الحر والخيال والإبداع؛ ومن هنا يأتى عنصر الدهشة والمتعة التى حققها العرض من فكرته الرئيسية الكوميدية الساخرة رجل قرر أكل عقول كل البشر حتى لا يتيح لأحد التفكير أو الاعتراض ثم يأتى الشكل أو كيفية تناول هذه الفكرة فى قالب تمثلى حركى كوميدى غير معتاد على خشبة صغيرة لا تتعدى مساحتها متر فى متر اصطف الممثلون الثلاث وقاموا معا بتبادل الأدوار فيما بينهم مستعرضين فكرة العمل الأساسية بـ«لا اقدام او رأس» أى شيء مشوه غير واضح المعالم ليس له معنى، فى حركة مسرحية شديدة الدقة والإنضباط صممت مخرجة العرض كوى لان لاشينو حركات محسوبة وإيماءات موحية قامت المخرجة بتعشيق الحركة مع التمثيل فأصبح عجينة طيعة الاستخدام فهم يتحولون معا مثل ادوات «الصلصال» ثم يعيدون التشكيل الحركى من جديد، أخدتنا المخرجة إلى العالم المحظور لهؤلاء الثلاث حتى مع صعوبة التواصل بسبب اللغة وبرغم وجود ترجمة اعلى خشبة المسرح إلا أن الجمهور فضل المشاهدة والمتابعة الدقيقة للحركة والتمثيل بلا مواربة ولو دقيقة واحدة فالرغبة فى الإستمتاع بالمشاهدة طغت على فضول الفهم ومتابعة الترجمة؛ ثلاثة ممثلين جمعهم شدة التحكم والتمكن باحترافية عالية فيكفى مشاهدتهم كى تندمج وتتواصل مع الحركة والإيماءة وكأنك لست بحاجة إلى ترجمة حرفية ترجمت أجسادهم كل حروف العرض.

خالتى صفية والدير

فى تكثيف واف وغير مخل بأحداث الرواية الأصلية استعرض المخرج محمد مرسى فى صورة شديدة الإتقان والعذوبة والكآبة أيضا أحداث راوية «خالتى صفية والدير» للكاتب بهاء طاهر والتى تدور فى صعيد مصر وجعل الأحداث وكأنها استرجاع لذكريات الفتى أو الابن حسان ابن صفية التى تتزوج خال حبيبها رجل الأعمال الكبير ثم تتوعد بالانتقام من حربى بعد أن يقتل الأخير خاله من شدة التعذيب الذى تعرض له على يديه؛ بالطبع ركز وكثف المخرج على القيم الأساسية للرواية وهى قيم التسامح والحب التى اصبحت معدومة بمجتمعاتنا الحالية حتى أن أبطال العرض يخرجون من وراء ستائر شفافة فكأنهم يأتون من الماضى ثم يعودون إلى الوقوف خلفها من جديد بعد تلاشى وخفوت وجود أمثالهم على قيد الحياة ففى جملة متكررة على لسان الرواى «هل هناك صبى صغير يرسل الكحك للرهبان بالدير يوم العيد كما كان يحدث سابقا»..ثم يذهب الصبى والفتى ليعودا إلى مكانهم الطبيعى بالزمن السحيق، فأصبحت قيم الحب والتسامح اساطير نتحدث عنها فى الروايات واحاديث الذكريات؛ عز علينا اليوم السماحة والإحترام بين المسليمن والمسحيين يضع العرض يده على الجرح مباشرة دون لف أو تطويل أو مواربة وبرغم ذلك حمل الكثير من المتعة الفنية فى الشكل والمضمون والأداء التمثيلى لأبطاله وهو ما استحق عليه من قبل الفوز بجائزة افضل عرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبي، وإن كان من المهم للغاية إعادة مثل هذا العمل بصعيد مصر وتكرار عرضه ودعوته للحب والتسامح وإحياء عنصر الأمان بأديرة وكنائس الأقباط التى لجأ إليها حربى فلم يجد أمن ولا أفضل من الدير كى يختبىء بين احضانه من ايدى اعدائه وحماة الدير حتى مات بفعل القدر، قرى ونجوع ومحافظات نزع منها الحب والأمان والرحمة متعطشة لمثل هذه الأعمال الفنية التى اهتم صناعها بإتقانها على مستوى الشكل والمضمون.

الروعة.. «woder»

بعيدا عن آلام المعاناة وتحقيقا لفكرة المتعة والتنوع خلال أيام المهرجان قدم عرض «الروعة» لدولة جورجيا تأليف وإخراج بيسو كوبريشفيلى عملا مسرحيا صادما كان البطل فيه أصابع اليد؛ دقة وإتقان وقدرة بالغة على التحكم والابتكار، وخلق متعة من لاشيء، ربما من الصعب تحقيقها بهذه السهولة على المسرح، قدم الفريق مجموعة متنوعة من الرقصات الوطنية الخاصة بشعوب دول مختلفة قدمها فريق إكسترا فجانزا «مسرح الأصابع» فى حركة يد واحدة ارتدت الأيدى ملابس ثقافة كل بلد كى تقدم رقصتها على الجمهور التانجو والفلامنكو رقصة مايكل جاكسون والكاكان ورقصة شيكاغو، فتحولت هذه الأصابع فى صورة مبهرة لأجساد متحركة تؤدى رقصاتها بمهارة واحتراف مستوى آخر وشكل جديد من الخيال أبهر الحاضرين فلم نعتد من قبل رؤية الرقص بالأيدى واصابع اليد الواحدة وتحولت فجأة إلى رجل وإمرأة متعانقين فى رقصة التانجو، فدون ظهور اصحاب هذه الأيدى الناعمة راينا اناسا آخرين جسدت ارواحهم على ايديهم وكأنهم اشخاص يرقصون ويأدون الحركة كما يؤديها راقصا محترفا على خشبة المسرح.