السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع.. مشيب

واحة الإبداع.. مشيب
واحة الإبداع.. مشيب




يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 550 كلمة» على الإيميل التالى:    


[email protected]

تماثيل للفنانة رواء الدجوى


مشيب


كتبتها – هبة عبدالحكم


أحتفظُ بذكرياتى الصغيرة فى علبة خشبية ببيت أبي، دمية قطنية، مفتاح
خزانة، دفترٌ به خطٌّ طفولى متعرج، عملات ورقية، أكياس حلوى فارغة، بنساتُ
شعر على شكل فراشات فيروزية لا يتجاوز طولها عقلة أصبع، وحجر عقيق.
أرجع إلى علبتى بين الفينة والأخرى، أشحذ أعماقى بعبقها وبذَرَّات
تراب سنين تختبئ بين تفاصيلها، تمضى الساعات لحظات وأنا أتفحص
مُنَمْنماتى وأقلّب صفحات دفترى القديم، علامات مُعلمتى الحمراء، وحرفى
الأول محفورٌ فى طرف الأوراق بتنسيق عجيب، ألهو بدميتى التى - يومًا -
كانت بطول ذراعى وتملأ حضنى الصغير، اليوم ما عادت تملأ راحة كفى.
أبى الصغير يحوط بذراعه كتف أمى العارى, ويداها الشابتان
تحملاني، أخى ينال تشجيعات أمي، وأبى يرفعه فوق «البسكليت»، وأنا
فى أقصى يمين الصورة أبكي، مازلت حتى اليوم أتوق للركوب فوق
ذلك «البسكليت» اللعين، الذى تحوّل داخلى لعقدة نفسية.
وفى الخلفية، يبدو بيتنا الكبير بسطحه المغطى بالزرع الأخضر،
يهب من داخل علبتى الخشبية الآن نسيمُ ريحانات أبى، وتنبُت خلف
ظهرى شجرة السنديان المواجهة لشرفتى تظللنى بنعومة، تسلو نفسى
خربشات أكياس الحلوى الفارغة ملونةً بألوان قزحية، ويزال عالقًا
بداخلها فتاتُ الشيكولاتة، أرى أشيائى بعينى الصغيرة، وأتعجب لحجم
أصابعى العملاقة وأنا أتلمس أجنحة فراشات بنسات شعرى الفيروزية،
يفصلنى عن حَجَرى العقيق عشرات السنين، لكنَّ ملمسَه لم يتغرب
عنى يومًا، مازالت أناملى تألفه، دائمًا ما أذكّر نفسى أنه فى المرة
القادمة؛ سوف أحضره لأحتفظ به فى حقيبتى ليجلب لى حظ الأمس.
ولسوء حظ اليوم فى كل مرة أنسى، يأتى صوت أبى بطيئًا من
خلفي، يراوغ لينالَ من حظ علبتى الخشبية شيئًا، يخرجنى من علبتى
لعلبة حكاياته، جريدته، وعلبة سجائره، وصورة أمى معلقة فوق رأسه
تفترس ابتسامتها شريطةً سوداء.
فى هذه المرة، يتمسك أبى بحق الزيارة كاملة، يمنعنى من علبتى
الخشبية، وكالعاشق يحاول أن يسترضينى حين لمح تجهمى وقنوطى،
بادرنى بهدية لأسرِّى بها عن نفسى، أوقفَتْه نظرتى الدامعة، وفِّرْ هديتك
يا أبي؛ فصغيرتك كبرت، والشريطة الملونة ما عادت تليقُ بضفيرة قد خطها المشيب.