الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«صناعة السعادة».. رحلة التضليل وبيع الرفاهية للمجتمعات

«صناعة السعادة».. رحلة التضليل وبيع الرفاهية للمجتمعات
«صناعة السعادة».. رحلة التضليل وبيع الرفاهية للمجتمعات




هل يمكن أن يكون للسعادة جانب مادي يمكن قياسه والتحكم به وضبط آليات عمله ونتائجه هذا ما يتناوله كتاب صناعة السعادة الذى صدر حديثًا عن سلسلة عالم المعرفة بعنوان «صناعة السعادة.. كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية» تأليف ويليام ديفيز وترجمة مجدى عبدالمجيد خاطر.

يسلط هذا الكتاب الضوء على مشروع فكرى مضلل بدأ منذ مائتى عام تقريبًا، اقتحمت من خلاله صناعة السعادة قلعة إدارة الاقتصاد العالمى وغدت جبهة قتاله الجديدة بحيث بات مستقبل الرأسمالية متوقفًا على قدرتنا على التصدى للضغوط النفسية والبؤس والمرض، ويسعى هذا المشروع الذى تنفق عليه الحكومات والشركات الكبرى ووكالات الإعلان الآن عشرات المليارات إلى رصد أقل التقلبات التى تطرأ على عقلنا ومشاعرنا وأدمغتنا وتوقعها ومعالجتها وتصورها التنبؤ بها بذريعة مزعومة هى جعل البشر أكثر سعادة وتحسين المجتمعات وذلك من خلال فهم علمى لكنه يستهدف فى حقيقته التلاعب بالسلوك البشرى وإخضاعهم لمجموعة من التصورات النفعية والبيولوجية والسلوكية التى صارت اليوم هى التصورات الوجيهة الوحيدة تقريبا.
هكذا يزج بانفعالاتنا ورفاهيتنا إلى قلب حسابات الكفاءة الاقتصادية الأوسع إذ يشير مثلًا تقدير لمؤسسة غالوب 2013 إلى أن عدم إحساس الموظفين بالسعادة يكلف اقتصاد الولايات المتحدة نصف تريليون دولار سنويا بسبب تدنى الإنتاجية والإيرادات والضريبية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية لكن المشكلة هى أنه خلال التاريخ الطويل للتحليل العلمى للعلاقة بين مشاعرنا والظروف الخارجية دائما ما يبرز الميل إلى رؤية الأولى على أنها الأيسر قابلية للتغير من الثانية وهنا تكمن خطورة هذا العلم الذى دائمًا ما تنتهى به الحال على تحميل الأفراد مسئولية تعاستهم وعلاج هذه التعاسة فى الوقت الذى يتجاهل فيه السياق الذى أدى إلى ذلك.
لا يتبنى الكتاب موقفا معايدا من السعادة لكنه يسعى إلى الكشف عن أسباب عدم الارتياح للطريقة التى تبنى بها صناع القرار السياسى والاقتصاديون مفهومى السعادة والرفاهية والدعوة إلى تصميم وتنفيذ أشكال بديلة للتنظيم السياسى والاقتصادى تقوم على التشاور والحوار بعيدًا عن محاولات السيطرة السيكولوجية.
فى الجزء الأول من هذا الكتاب يتناول طبيعة الرأسمالية فى تحسين حياة البشر وكيف تساعد فى التغلب على المشاكل الاقتصادية، وقد أشارت دراسات عدة لما تكبده تعاسة الموظفين والعمال من خسائر بالمليارات على الاقتصاد الوطنى الأمريكى مثلًا.
ثم تناول ظهور وذيوع المدرسة السلوكية التى قادها واطسون وأدت إلى ثورة فى النصف الأول من القرن الماضى فى العلوم النفسية، وكانت ترتكز على تكميم -أى التحويل إلى كمية مقاسة- الظاهرة البشرية فى انفعالاتها وسلوكياتها.
ثم يحلل المؤلف فى فصل مهم كيف أن انتقاد الفردانية والنزعات الاستهلاكية وحيونة الإنسان فى سوق المال وتمدد السوق وتضخم المادية النفعية استثمرها علماء الاقتصاد السلوكى فى رسم مسارات منهجية جديدة، فإحدى أطروحاتهم الأساسية تقوم على أن استمالة الحس الأخلاقى والهوية الاجتماعية للمستهدف أكثر فاعلية من استمالة مصلحته الشخصية، فمثلاً أظهرت نتائج بحثية أن تقديم زيادات الأجور للموظفين باعتبارها منحة وليست مقابل مجرد للعمل الإضافى يؤدى بفعالية إلى استخلاص جهد أكبر من العاملين، لأن «الموظف يتورط حينها بعلاقة تبادلية أكثر إلزامًا»، وهكذا تحوّلت العلوم السلوكية إلى أدوات للسيطرة الاجتماعية تصب فى مصلحة السلطة. وقد رصد أيضاً تجليات أخرى للظاهرة مثل تقديم بعض الشركات لرسائل اجتماعية وإعلانات عامة المحتوى وكأنها ليست حملة ترويجية «على المستوى العربى لاحظ مثلاً إعلانات شركة زين للاتصالات».
وقد واجهت الدراسات السلوكية فى مهدها صعوبات كثيرة فى جمع المعلومات عن المستهدفين