السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الذكرى الخامسة والأربعين لرحيله: ماذا تبقى من طه حسين؟

فى الذكرى الخامسة والأربعين لرحيله: ماذا تبقى من طه حسين؟
فى الذكرى الخامسة والأربعين لرحيله: ماذا تبقى من طه حسين؟




يعد الدكتور طه حسين «15 نوفمبر 1889- 28 أكتوبر 1973» أشهر مفكر مصرى وعربى فى العصر الحديث؛ وصاحب أعمق وأوسع تأثير فى مختلف فروع العلوم الاجتماعية داخل المؤسسة الأكاديمية المصرية والعربية وفى الفكر السائد بين منتجى الثقافة العربية طوال الجزء الأكبر من القرن العشرين سواء بالاتفاق أو الاختلاف مع أفكاره وأعماله التى امتدت لتشمل مجالات الأدب واللغة والنقد الأدبى والفلسفة والتاريخ والنقد الثقافى والاجتماعى والفكر السياسى والتعليم.
ولد طه حسين لأسرة متواضعة من المزارعين فى إحدى قرى محافظة المنيا من الصعيد الأوسط فى مصر

وفقد بصره،وهو طفل فى نحو السادسة من عمره،ولكنه واصل الدرس فى كتاب القرية بحفظ القرآن وتعلم مبادئ اللغة حتى لحق بشقيق له، لكى يدرس فى الأزهر حيث بقى لمدة تزيد على ثمانى سنوات اختتمها بدراسة المنطق والبلاغة والأدب والفقه إلى أن فُصل لاختلافه مع أساتذته المتزمتين،فالتحق فى نفس العام ( 1908) بالجامعة الأهلية عند افتتاحها مباشرة ليدرس الأدب؛ وفى عام 1914 قدم أول رسالة علمية تناقشها الجامعة المصرية عن « أبى العلاء المعري» وهى الرسالة التى نشرها فى أول كتاب له فى العام التالى بعنوان « ذكرى أبى العلاء». وفى العام نفسه حصل على بعثة دراسية من الجامعة إلى فرنسا ليدرس الأدب،ولكنه تحول إلى علم الاجتماع والتاريخ وحصل على ليسانس السوربون ثم على الدكتوراه من جامعة مونبيليه . وكانت دراسته أول رسالة يكتبها عربى على الإطلاق عن عبد الرحمن بن خلدون وفلسفته الاجتماعية وصدرت ترجمتها العربية فى القاهرة عام 1925 وعاد إلى مصر عام 1919 ليعين أستاذا للتاريخ القديم أو الكلاسيكى أو اليونانى اللاتينى بكلية الآداب فى الجامعة.
وكان  طه حسين يقاسى من الوحدة والعزلة، لولا ذلك الصوت الفرنسى للآنسة «سوزان» التى سوف ترافقه مدى الحياة، وتكتب بعد رحيله كتابها الشهير «avec toi» (معك) وتنشره بفرنسا، ثم يتم تعريبه بعد وقت طويل، ويصدر فى القاهرة.
فى سنوات تكوينه العلمى والفكرى الأساسى نضجت معرفته بأسس كل من الثقافتين العربية والإسلامية والغربية : فقد درس فى الأزهر علوم اللغة والفقه والتاريخ والمنطق فى مناهج عربية تقليدية؛وارتبط أثناء ذلك بشيوخ عرفوا باتساع الأفق وتفضيل الجانب العقلانى فى الثقافة التراثية العربية. وفى الجامعة المصرية حيث كان يتولى التدريس عدد من كبار المستشرقين، تعرف من ناحية على التصور الغربى الاستشراقى للثقافة العربية الإسلامية- وارتبط بالأستاذين سانتيلانا ونيللينو- وهو التصور الذى اكتملت صياغته فى القرن التاسع عشر؛ ورأى أن الثقافة العربية الإسلامية فى أكثر جوانبها العقلانية تطوراً هى امتداد طبيعى للثقافة اليونانية التى أتاحت للعقل العربى البدوى بعد أن تعرف على الرياضيات والمنطق وعلوم اللغة فأتاحت أن ينتج علومه على نفس الأسس ( علوم النحو والعروض والبلاغة فى اللغة والآداب والفقه بفروعه فى الدين والقانون ثم الفلسفة والمنطق  كل هذا على أساس من مزيج من أفكار أفلاطون الميتافيزيقية والأخلاقية وامتدادها السكندرى أى الأفلاطونية الجديدة وأرسطو ومنطقه الشكلى والقياسى الشامل).
ومن ناحية أخرى ،تعرف طه حسين على أول ما أنتجه العقل العربى الحديث فى مصر بعد تأثره الأولى بالمعرفة الغربية من تصور عن تاريخ العقل العربى وتكوينه وذلك من خلال دروس الشيخ طنطاوى الجوهرى الذى ان يدرس له الفلسفة الإسلامية والمنطق جنباً إلى جنب سانتيلانا الذى درس على يديه أصول وتاريخ تلك الفلسفة وتطورها.وفى فرنسا اكتمل « التكوين» فى الاتجاه نفسه بدراسة اللغتين اليونانية واللاتينية ( القديمتين) وتراثها الأدبى والفلسفة،فتعمق التصور عن الجذور اليونانية للعقل العربى الإسلامى ثم بدراسة علم الاجتماع والتاريخ فى مناخ سيطرت عليه المدرسة الوضعية الفرنسية ومؤسسها إميل دوركايم الذى كان يشرف على رسالة طه حسين قبل موته.وهى الدراسة التى أمدته بإدراكه الاجتماعى والتاريخى للثقافة وإدراكه التطورى للمجتمع ،بينما أمدته دراسته الأولى فى مصر بتصوره عن العلاقة العضوية بين العقلين العربى والغربى وجذورهما المشتركة كما أمدته بمنظوره النقدى للثقافة العربية الإسلامية درسته على أيدى أوائل العقلانيين الجدد فى الأزهر والجامعة وعلاقته بنظرائهم الكبار فى مراكز التأثير الثقافى الفكرى والسياسى فى مصر مثل: أحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل ومصطفى وعلى عبد الرازق.
أصدر طه حسين نحو مائة كتاب بين مؤلف ومترجم إضافة إلى محاضرات لا تحصى لم تجمع ولم تسجل فى الجامعة أو غيرها؛ربما كان أشهرها كتاب «فى الشعر الجاهلى » عام 1926،الذى أظهر فيه الشك فى صحة نسبة غالبية شعر الجاهلية إلى شعرائها الذين شك فى وجود بعضهم أصلاً،على أساس أنه من وضع الرواة بعد الإسلام لدوافع قبائلية وسياسية ودينية،وأن هذا الشعر لا يعكس الحياة الثقافية والاجتماعية فى الجاهلية قبل الإسلام ولا الوضع اللغوى الذى ساد حسب معلوماته آنذاك فى الجزيرة العربية . وقوبل الكتاب بعاصفة فكرية وسياسية وعلمية، بين أغلبية معارضة وأقلية مؤيدة.
وأحيل طه حسين للتحقيق بمعرفة النيابة التى حفظت التحقيق وأخلت سبيله لعدم توافر نية جنائية،ولكن الكتب سحب من الأسواق.وبعد عام واحد أعاد طه حسين نشره بعد تعديل بسيط فيما يتعلق بالنصوص المقدسة،لكن مع تعمق واستفاضة فيما يتعلق بالشعر نفسه . وتظل للكتاب قيمته الفكرية من حيث تشجيعه للموقف النقدى من التراث الأدبى والبلاغى واللغوى العربى والكشف عن خضوع هذا التراث كغيره لقانون التطور التاريخي.
ويلى هذا الكتاب فى الأهمية رسالته عن ابن خلدون التى بينت حالة عقلانية وتاريخية مهمة للعقل العربى يضع فيها العالم الاجتماعى والمؤرخ العربى تصوراً وضعياً للتطور الاجتماعى والسياسى للمجتمع الإنساني؛تليه فى الأهمية كتابات طه حسين عن التاريخ الإسلامي( على وبنوه، الفتنة الكبرى،مرآة الإسلام،الوعد الحق،الشيخان) التى أسس فيها المنظور الاجتماعى لإعادة كتابة التاريخ القومى الذى كتب عادة من قبل من منظور دينى وعشائرى فقط ، وفى كتاباته عن الشعر العربى فى الجاهلية (حديث الأربعاء) وكتاباته عن المتنبى والمعرى ،وصولاً لأحمد شوقى وحافظ إبراهيم فى كتبه عنهما،أرسى أسس النقد الاجتماعى اللغوى والنفسى والدلالى للشعر لكى يؤسس مع عباس العقاد ولكن من زاوية مختلفة « حساسية شعرية»جديدة مهدت لتطورات كبرى فيما بعد فى هذا النوع الإبداعى الرئيس فى الثقافة العربية. إن حججه من أجل العدالة والمساواة مدعومة بفهمٍ عميقٍ وصادق للإسلام. ومن الملاحظ أيضًا تعاطفه مع مواطنيه المهزومين وفهمه لأعمق مشاعر وأفكار المرأة كزوجة وحبيبة وأم. أصبح لدى طه نوعع خاص من الأدب، وتنافس فيه القراء بحماس بالقراءة والتفسير، والمناقشة والتحليل، واستخراج معانى واضحة من التلميحات الغامضة.
كان طه يعلم أن الحكومة التى تولت السلطة تلك الفترة لا تقرأ أعماله، وإن قرأت لن تفهم. وهكذا، استطاع هزم قمع الطغاة وهرب من سلطة الرقابة، واستطاع تسجيل مظالم الظالمين وفساد الفاسدين.
وفى كتبه عن الحياة الثقافية العربية قبل الإسلام وفى صدره( على هامش السيرة، الحياة الأدبية فى جزيرة العرب) أرسى أسس البحث الميثولوجى والأنثروبولوجى التاريخى والنقدى ومادته:النصوص فى هذا المجال التأسيسى بالنسبة للثقافات الإنسانية عامة . وفى كتبه الفلسفية( منارة الفكر،مرآة الضمير الحديث،من بعيد،نقد وإصلاح) حدد معالم مدرسة مصرية فى الفلسفة والتاريخ الثقافى والحضارى ربطت بين تطور العقل العربى وتفاعله مع التراث الغربى القديم والحديث: وهو ما يتجلى فى الفصول الأولى من كتابه الشهير « مستقبل الثقافة فى مصر» الذى كتبه عام 1938 كتقرير لوزارة المعارف( التعليم الآن) أكد فيه تصوره عن ذلك التفاعل مع الغرب اليونانى الذى أثرى العقل العربى الفلسفى والحضارى فى رأيه .وتعد أعماله الروائية مثل: شجرة البؤس، ودعاء الكروان،والمعذبون فى الأرض وأديب ومذكراته« الأيام» نماذج فى الأدب الواقعى الرومانسى والأخلاقى والنقدي.
‏‎وقد أملاها فى ثلاثة أجزاء، صدرت فى العربية، وأثارت قراءها العرب والأجانب (قدم ترجمتها إلى الفرنسية الكاتب الفرنسى الكبير أندريه جيد) وتداولتها المناهج الدراسية العربية مركزة على روح المبادرة الإنسانية وعلى الطموح العلمى الذى قاد هذا الفتى الأعمى إلى أن يقهر الظلام، مؤكدًا المعنى العميق للآية الكريمة «فإنها لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصدور»
شغل طه حسين العديد من المناصب المهمة قبل ثورة يوليو وما بعدها،فعمل أستاذا للتاريخ القديم فى الجامعة،وعين وانتخب عميداً لكلية آداب جامعة فؤاد الأول ( القاهرة الآن) ثلاث مرات، ومراقبا ومستشاراً لوزارة المعارف،وأسس وأدر جامعة الإسكندرية وترأس المجمع اللغوى المصري، وأسس وأدار جامعة الإسكندرية عام 1942  وكتب فى صحف الجريدة والسياسة وكوكب الشرق وغيرها، مع انتقاله من حزب الأحرار الدستوريين إلى حزب الوفد  كما كتب فى مجلات الرسالة الجديدة وأسس مجلة الكاتب المصري،وشارك فى تأسيس المجلس الأعلى للفنون والعلوم والآداب فى مصر ( المجلس الأعلى للثقافة الآن) والمجلس الأعلى للجامعات، وترجم أعمالاً نقدية ومسرحية عديدة على رأسها مختارات من نصوص الدراما الإغريقية.
وحصل على جائزة الدولة فى الأدب عام 1949،وكان أول من حصل على جائزة الدولة التقديرية للآداب عام 1958 ،وقلده جمال عبد الناصر قلادة النيل ؛ كما منحه فرنسا وسام اللجيون دونير؛وحصل على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قبل وفاته بيوم واحد.