الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

التقمص كممارسة فنية لتخليص الذات

التقمص كممارسة فنية لتخليص الذات
التقمص كممارسة فنية لتخليص الذات




كتبت - نهى حنفى

 

ظاهرياً، هما كيانان مرهفتان تماماً كالمواصفات النموذجية لجنسهما، و لكن تحت طبقات هاتين الكيانين تقبع روح طموحة تطلع للانطلاق والتحقق، فى وسط تيار مضطرم يسحق المخالف له إما بالتجاهل أو التحقير، لذا؛ كان لزاماً عليهما أن يتسلحنا بالجدية والصمود مرتكزتان على موهبتيهما الصدَّاحة اللتين تداومان على شحذها بالمراس والتأمل خلال سيرهما على درب الاحترافية.
اختلفت الأسباب والنهج واحد، فإن كانت «أرتيميسيا جنتيلسكي-Artemisia Gentileschi 1593-1656» أول فتاة تلتحق بأكاديمية فلورنسا للفنون والتى كانت الدراسة فيها مقصورة على الطلاب الذكور مما عرضها لمصاعب مختلفة وعوائق فى طريق إثبات موهبتها فى مناخ غير مرحب، فإن «أسماء خوري» بِسَمْتِها الدءوب المنتمى لروح عصر مغاير جابهت تحفظات على أدائها الأكاديمى  ومعالجاتها الفنية الواقعية، حد التهميش والرفض تبعاً لتصور ما مفاده البت بعدم جدوى بعض صور الممارسات الفنية بالغة الواقعية والحكم عليها بالاندثار والرجعية فى مقابل الترحيب بكل ما هو له مظهر للممارسات الفنية الحداثية، وهو ما يخالف فلسفة ما بعد الحداثة القابلة لاحتواء الشيء  ونقيضة وليست ذات سمات محددة تهيمن على المشهد الفنى وتنبذ ما سواها، هذا بفرض وجود سلطوية حاكمة لسير الحركة الفنية.
لذا؛ كان لزاماً عليهما استحضار قوتهما لمجابهة الصعاب التى تعترض سيرهما، وهو ما انطبع بشكل كبير فى أعمالهما التى اتسمت بالحِرَفية العالية تقنياً و المعالجات المتفردة للموضوعات المختارة بعناية، فاختارت «أرتيميسيا» بطلاتها من قصص الكتاب المقدس، فنرى روحها تتجلى فى «يهوديث» أثناء قتلها «اليفانا» قائد جيش الأشوريين لمنعه من البطش بشعبها، أو فى «سوزانا» و هى ترفض مراودة العجوزين ، أو «دليلة» حال تواطؤها ضد«شمشون»  مستلهمة ملامح البطلات من ملامحها الشخصية لتمارس بذلك درباً من الاستمداد النفسى بقوة البطلات المخلدات حال تقمصها لأدوارهن فى القصص.
أما «أسماء» ففى تجربة سابقة لها استعرضت صوراً لنساء برزت سيرتهن فى التاريخ المصرى القديم والقصص الشعبى كقائدات رشيدات أو شخصيات بارزة خلدها التاريخ مثل الملكة نفرت وبلقيس وشجر الدر مستعينة فى الصياغة الشكلية لهن بصورتها الشخصية مما يجعلها جزءاً من الحدث، فكانت هى «بلقيس» التى تقرأ رسالة الملك سليمان، وكانت شجرة الدر التى جابهت مصير مأسوي، لتخلق بهذه الممارسة أبعاداً أكثر ثراء لتجربتها التى عنونتها بـ «امرأة على العرش».
فى تجربتها المعروضة حالياً فى قاعة «دروب» تستعرض أسماء جانب آخر من تجاربها والذى يعكس ولعاً مركباً مزجت فيه شغفها بالعناصر الشرقية الطابع مع موضوعها الأثير وهو الجسد الإنسانى وعالجته فنياً بشغف عيون المستشرقين الفرنسيين فى تناولهم للشرق خلال رحلاتهم فى القرن الثامن عشر، وهو مالا ينفك عن سائر تجارب أسماء الفنية التى تجنح للموضوعات الرومانسية والتوحد مع النموذج المصور واتخاذه منفذاً للتعبير عن دواخلها الشخصية من خلال دفق إبداعى يتسم بالحيوية وهو ما استعانت على تحقيقه بتقنية wet-on- wet أو Alla prima و هى تتضمن الأعمال المنفذة خلال مدة زمنية قصيرة خلال جلسة واحدة لتحقق طزاجة فى الأداء و هو ما تمزج الفنانة بينه و بين دراسة بعض التفاصيل لتنشئ علاقة طردية لكم التفاصيل كلما اتجهت العين لمركز الصورة .
المتأمل لتجربة«أسماء خوري» يتلمس ثمة محركات إبداعية تتمثل فى هاجس البحث عن مثال يحتذى فى الفن وفى الحياة، أما فى الفن فهو ما وجدته عند أساطين مدرسة الباروك مثل كارافاجيو ورمبرانت فى استخدام تقنيات التصوير المشرقة فى العتمة التى اصطلح على تسميتها بـ Chiaroscuro أو معالجات المستشرقين مثل ديللاكروا فى عجالاته التخطيطية التى تتعطش للتفاصيل دون الإسراف فيها لتعكس حنينها الشخصى لحقبة زمنية ولت، وأما فى الحياة فهو ما تمثل فى بطلات أعمالها سواء المتعينات أو المجهولات لكن يظل المشترك بينهن هو كونهن التجلى الملموس لحضور «أسماء» لتعوض به حضورها الخافت فى الواقع متخذة من ممارسة التقمص وسيلة لانعتاق الذات.