الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع.. الجبن الأبيض

واحة الإبداع.. الجبن الأبيض
واحة الإبداع.. الجبن الأبيض




اللوحات للفنان: رندة فخرى

■ من مواليد القاهرة 1975.
حصلت على بكالوريوس كليه الفنون الجميلة جامعة حلوان قسم تصوير.
■ مدرس مساعد بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة جامعه حلوان.
■ أقامت أكثر من معرض فردى وشاركت فى العديد من المعارض الجماعية.
■ حصلت عل الجائزة التشجيعية من المعرض المقام على هامش مؤتمر (الإبداع والتجديد فى الإدارة العربية) جامعة الدول العربية 2000.
■ حصلت على الجائزة الثانية فى معرض الطلائع الرابع والأربعين جمعية محبى الفنون الجميلة 2004.

يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]


 

الجبن الأبيض

قصة قصيرة

كتبتها – مروة الجميل

اعتدت الخروج ليلًا لشراء بعض الأشياء، وكعادتى الذهاب لبعض المحال كى يروق لى فرصة الاختيار، توجهت لقسم البقالة وإذا بصوت أجش مهتز يخفى بين نبراته قسوة أيام ومرارة زمن، لم ينصفنى ذكائى للوهلة الأولى فى تحديد هوية الصوت إن كان لرجل أو لامرأة، ووجدت قدماى تتجهان نحو صاحب النبرة الأجش فإذا بها سيدة أكثر من مسنة - إن جاز التعبير- بلغت الأرذل من العمر، تقاسيم وجهها تنم عن امرأة واجهت مآسى عدة، نحت الزمن خطوط الألم بين أسارير وجهها وكل خط من خطوط وجهها الضئيل المتجعد ينم عن مرارة أيام عانت تلك المرأة خلالها الكثير، مرض أو خيبة أمل وربما هوان ووحدة، وتلتف بوشاح أخضر باهت اللون حول جيدها. هذا الجيد المتعرج ينم بروز شرايينه عن حسرة أيام ذهبت، بالطبع لن تعود، ومجهول مبهم فى انتظار تلك العجوز، ترتدى قفطانًا رثًا باليًا لم أستطع تحديد لونه تفصيليًا، أدركت وقتها أنها تعانى من وحدة أو غدر رجل أو قسوة أبناء.
وجدتها رغم هزالة جسدها وقصر قامتها وحدابة ظهرها بنظرة ترقب تعتصر عيناها الغائرتان لها رغبة ملحة فى استمرار الحياة، بل رغبة جامحة لفرض سطوتها ورغبتها فى قطعة من الجبن الأبيض «الدلعة» - كما أسمتها- استوقفنى موقف البائع الشاب والذى لم يتعد العشرين من عمره فكان يتمتم ببعض الألفاظ التهكمية والمزح بينه وبين زميله على تلك العجوز.
نظرات الدهشة والتساؤلات الموجهة لها ملأت عيناه وكأنه كان يريد أن يسألها كيف تعيشين إلى هذه السن؟! ومن أين لك بهذه الصحة التى تساعدك على التسوق؟! وكيف يروق لك طلب ما تشتهيه من طعام حتى ولو كان مجرد قطعه جبن؟!، وكأنه كان يريد أن يسألها كيف يتسنى لك أن تتنفسين؟!، هذه الدنيا لم تعد لك ولأمثالك، ولكن إصرار تلك العجوز على طلبها فى قطعة الجبن «الدلعه» كما أخبرت البياع جعلنى أتساءل! أهذا يكون حالنا عند الكبر؟!، قادنى فضولى للتوجه خلفها بخطوات بطيئة ربما احتاجت مساعدتى فى شيء ما أو الاتكاء على أو مساعدتها فى حمل قطعة الجبن والعيش الفينو.
وجدتها قد توجهت للخزينة بخطوات بطيئة غير متزنة وكأنها سكرت حد الثمالة، ووقفت فى طابور الخزينة فى انتظار دورها، طلب منها أحد العمال المبلغ المطلوب ودفعته بكل هدوء واحترام، لم تعترض على سعر أو على قطعة الجبن ولكنها أحست بتهكمات بعض الشباب حولها مستنكرة بينها وبين نفسها نظراتهم المضحكة بتمتمة غير مفهومه أو حتى مسموعة.
هذه العجوز أدركت تماما أنها أصبحت غير صالحة للتعامل الآدمى لكنها قاومت، قاومت حين أعلنت عن رغبتها فى قطعة الجبن الأبيض «الدلعة» متجاهله نظرات الاستنكار التى حاصرتها من كل حدب وصوب.
ووجدتها جوارها فتاة رقيقة أوروبية الملامح لا تتعدى الخامسة عشر من عمرها، وكعادتى قادنى فضولى لسؤال تلك الفتاة عن صلة القرابة بينها وبين العجوز فقد كانت على مسمع من تهكمات البائع، وخشيت جرح إحساسها دون عدم قدرتها على رد كرامة العجوز ربما لصغر سنها أو قلة خبرتها، فإذا بها تجيبنى أنها تدعى «توحيدة» وهى مقيمة فى منزلنا من أيام مامة جدتى ولا تملك بطاقة هوية ولا نعرف أحدًا من أقاربها، إحساس غريب انتابنى هذه اللحظة، من المحتمل أن تكون نهاية أى منا مثل تلك العجوز، ونسبح فى بحر العجز وسخرية الآخرين، آلام الوحدة التى تعتصرها كل ليلة ووخزات العجز أقوى كثيرًا من أى آلام عضوية، نظرات التهكم والسخرية التى واجهتها من قبل شباب مستهتر غافل عن قسوة الزمن ومرارة العجز أقوى كثيرًا من قسوة أيام نحتت تقاسيم الأسى على وجهها وكأن كل خط حفر فى وجهها يصرخ عن آلام اعتصرتها من زمن بعيد.
وهانحن لازالنا فى ريعان شبابنا ومنا من أبحر فى بحر منتصف العمر. ووجدتنى أتساءل! أسرح بنا خيالنا ولو للحظة بوضع أنفسنا بنفس وضع تلك العجوز..؟!
أم لهانا متاع الدنيا غافلين خداعها لنا؟!!