الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع.. أرق

واحة الإبداع.. أرق
واحة الإبداع.. أرق




اللوحات للفنانة:  مروة عادل

يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]


 

أرق

 

كتب: أيمن الداكر

بضعة مليمترات هى ما تبقى له، قبل أن تتقهقر يده إلى موضعها الأول على خاصرته، قبل أن تلامس جرس شقة الجيران، ويعود إدراجه إلى مسكنه. يعبر ذلك الممر البارد المظلم، تترامى على جانبيه أربع من الشقق الصغيرة، صامتة كأنها قبور، حتى صوت غلق الباب صباحًا ومساءً، يكون فى حذر، كل منهم يحمل ديانة وجنسية مختلفة، كل منهم يخشى أن يزعج الآخرين، كان يعجبه ذلك الهدوء وتلك العزلة، عندما يلقى الأطفال فى ركضهم نحو باص المدرسة صباحًا، يُلقى عليهم السلام بابتسامة رقيقة، فيردون بأحسن منها، لم يذكر يومًا حديثًا قام فى طابق المبنى الوحيد، فلا أحد يعلم لغة الآخرين، قليل من الإنجليزية بلكناتها المختلفة، وعربية ركيكة تفيد فى التحية العابرة، لا ثرثرة قميئة فى أمور السياسة، ولا نميمة فى أحوال العباد، يقضى نهاره فى العمل، والليل بين الأوراق والأحلام، لم يعد يشعر برغبة فى عودته للوطن، تخلص من ذلك الأنين الذى كان يؤرق مضجعه فى بدايات غربته، وبموت أمه، تخلص من بقايا حنينه إلى أفراد أسرته. - تكفينى نفسي.... كان يرددها دائمًا، كلما أتى موعد إجازته السنوية، يرفض السفر ويقبع وحيدًا فى ذلك المبنى المهمل على أطراف المدينة، بعيدًا عن الضجيج وأنفاس البشر، يرافقه دخان سيجارته، وحبر أقلامه الذى يترك دائمًا آثاره على أصابعه وملابسه كالأطفال. دلف إلى مسكنه وأغلق الباب بإهمال، يزداد الوجع، يرغمه على الاتكاء على كل الأشياء فى طريقه، يشعر كأنه يسرى فى جسده كله، ومن العلبة الملقاة على السفرة الصغيرة، يزدرى القرص الثالث والأخير فيها، ألقى بنفسه على الفراش، حاضنًا وجعه، يردد فى نفسه: - بضعة ساعات ويهل الفجر.... لكن الصخرة التى لا تتجاوز حبة القمح، والساكنة جانبه الأيسر، أصابها زلزال، تنخر فيه، لعلها تهرب إلى البراح، كل الأشياء تخرج الى هذه الدنيا يرافقها المخاض، يتصبب عرقًا ويعتصر ألمًا، لم يعد يستطيع الانتظار أكثر من ذلك، لعن هذه الليلة التى فارق فيها جيرانه البيت، بحث فى جواله، لعله يجد شيئًا، هى أرقام مبهمة، وأسماء مهملة قد كتبها سريعًا، وسقطت بعض حروفها ربما عن عمد، العمل، المطعم، المغسلة، فنى الريسيفر. ارتدى ما اتفق له من ملابس سريعًا، نزل إلى الشارع، تكور على نفسه بجوار رصيف أحد أعمدة الإنارة على جانب الطريق. بعد أن أفرغت الممرضة أمبول المورفين فى أوردته، وقبل أن تتوه ملامحهم من عينيه، صافحهم، نام وهو يستمع إلى سارينة دورية الشرطة معلنة الانصراف.