السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«المرأة».. بين توفيق الحكيم والمازنى

«المرأة».. بين توفيق الحكيم والمازنى
«المرأة».. بين توفيق الحكيم والمازنى




فى العام 1939 كتب توفيق الحكيم مقالا فى مجلة الثقافة عن المرأة فى حياة الأدباء وذكر الحكيم فى مقاله أن كل أديب أو كل عظيم لابد أن تكون فى حياته امرأة، وقد دلل على رأيه بالدور المحورى للمرأة فى حياة الأدباء وقد ذكر من أبناء الشرق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام، ثم طوى كل هذه القرون التى مضت ووثب إلى  طه حسين، وأحمد أمين، والعقاد وصولا إلى إبراهيم عبد القادرالمازنى الذى فسر فى مقالة له نشرتها مجلة الرسالة فى أول مايو 1939 وضعية المرأة كما يراها الحكيم بالمعشوقة . وقد وصف الحكيم كتابات المازنى بأنها مزيج من الحقيقة والخيال وأن الكذب هبة المازنى  حتى ليتعذر الاهتداء إلى المرأة التى كان لها تأثير إيجابى فى حياة المازنى.
وقد اغتنم المازنى فرصة ظهور كتاب جديد لتوفيق الحكيم بعنوان (راقصة المعبد) وقد أهدى الحكيم له نسخة، فكتب المازنى إليه كلمة وجيزة فى الموضوع فقال: أنا أولاً لا أرتاح إلى هذا التناول لحيوات الناس الخاصة، وليس كونهم أدباء أو مشهورين لسبب ما، بمجيز فى رأيى أن نجعل من حياتهم الخاصة وأحوالهم الشخصية معرضاً؛ وهذا عندى فضول أكرهه وأقل ما فيه أنه يُفقد المرء حريته واستقلاله، وإذا كنت أروى كثيراً مما أكتب على لسانى وأورده بضمير المتكلم فليس معنى هذا أن ما أرويه وقع لى وإنما معناه إنى أرتاح إلى هذا الأسلوب فى القصة، وأراه أعون لى على تمثل ما أحاول وصفه وتصويره. فليس فيما أروى شيء شخصي،وكثيراً ما نبهت إلى هذا، ولكنى أهمله أحيانا اعتماداً على فطنة القاريء.
ويضيف المازنى : ثم إنى ثانيا لا أرى الأستاذ توفيق الحكيم موفقاً فى رأيه، فليس من الضرورى أن يكون للرجل امرأة فى حياته أو للمرأة رجل فى حياتها،أى أن تكون هذه المرأة المعينة هى التى وجهت حياته وجهتها وأثرت فيها تأثيراً جعلها كما هى. والقول بذلك لا يخرج فى الحقيقة عن أن يكون مظهرا تقليدا لبعض ما يكتبه الغربيون؛وقد ذكر الأستاذ توفيق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام على سبيل التمثيل،وأراه فى هذا المثال مبالغاً . فما تزوج النبى السيدة خديجة لأنه عشقها، بل الذى حدث هو أنه عمل لها فى مالها وتجارتها فأعجبت بأمانته وسرها حسن سيرته واستقامته فرغبت هى أن يكون زوجها، وجاءه رسول يدعوه إلى ذلك أو يقترحه عليه وكان هو يعرف فضائلها فقبل. وكانت له نعم الزوجة الحكيمة الوفية الرزينة المخلصة. ولكنه ليس هناك عشق بالمعنى المعهود ولا يمكن أن يقال إنها وجهته أو أثرت فى حياته التأثير الذى يقصده الأستاذ توفيق حين يذكر المرأة فى حياة الرجل،وإن كان غير منكور أنها كانت إلى حد ما عامل استقرار وأمن وراحة فى حياة النبي.
وأشار المازنى الى أنه سأل الحكيم فى كتابه الخاص إليه عن المرأة المعينة فى حياة المتنبى أو أبى العلاء أو الشريف الرضي؛ولا بأس من سؤاله أيضاً عن هذه المرأة المعينة فى حياة أبى نواس وبشار ومن إليهما. كلا.
ليس من الضرورى أن تكون فى حياة الأديب امرأة معينة بالمعنى الجنسى وإن كانت حياة الرجل لا يمكن أن تخلو من المرأة على العموم. وفرق بين الأمرين. على أن كل شيء فى الحياة ليس عند الأديب أكثر من «مادة»وإن كان الأمر فى بعض الأحيان يبدو غير ذلك عند النظر السطحى أو السريع.
ورد المازنى على اتهام الحكيم له بالكذب فقال: وقد جعل الأستاذ توفيق مزيتى أو هبتى «الكذب» وأنا أشكر له أن رأى لى مزية أو هبة،ولو كانت «الكذب»؛ وإذا كنت أخلط الخيال بالحقيقة فإنى أحسب أن هذا لا مفر منه،ولا أدب إلا به.وما أظن الأستاذ توفيق نفسه يفعل غير ذلك أو يشذ عنها معشر الأدباء «الكذابين» فما كان الأديب – قط – ولن يكون عدسة آلة تصوير.
وإذا كان الأستاذ توفيق يظن أن الأستاذ العقاد لم يفعل فى رواية «سارة» أكثر من أن يروى حادثة كما وقعت فإنه يكون قد ركب من الوهم شر الحمُر؛فإن مزية « سارة» الغوص فى لجة النفس لا الحكاية بمجردها، والكشف عن أخفى خفاياها، والتحليل الدقيق للخواطر الخوالج،إلخ. ولا قيمة لكون القصة حقيقية أو غير حقيقية وإلا هبطنا بالأدب إلى الإعلانات التى يقول فيها أصحابها إن القصص التى ينشرونها فى مجلاتهم قد وقعت فعلا.
ويواصل المازنى ردوده فيقول: وليس ما يمنع أن تكون فى حياة الأديب أو سواه «امرأة معينة»،ولكنه ليس من الحتم أن تكون هذه المرأة المعنية زوجة أو خليلة،أى معشوقة على العموم،ولا أن تكون العلاقة بها علاقة جنسية،فقد تكون أماً أو أختاً أو صديقة أو بنتاً. وقد كانت فى حياتى امرأة دللت الأستاذ توفيق عليها فى رسالتى إليه وهى أمى،فقد كانت أمى وأبى وصديقتى،وليس هذا لأنه لم يكن لى أب، فقد كان لى أب كغيرى من الناس،ولكنه آثر أن يموت فى حداثتي،فصارت أمى هى الأب والأم، ثم صارت على مرّ الأيام هى الصديق والروح الملهم . وقد استنفدت أمى عاطفتى الحب والإجلال  فلم تبق لى حباً أستطيع أن أفيضه على إنسان آخر، أو إجلالا لسواها . ومثلى فى ذلك كمثل من يمص عوداً من القصب ويعتصر كل مائه، فلا يبقى من العود بعد ذلك إلا الحطب الذى لا يصلح إلا للوقود ومن هنا عجزى عن الحب بالمعنى الشائع . نعم أستطيع أن أصادق وأعفو بالود، ولكن العشق على مثال مجنون ليلى أو كما يصفه لنا الشعراء حال لا قبل لى بها ولا طاقة لى عليها لأن ذخيرتى من هذه العاطفة نفدت، وليس فى وسع نفسى أن تبذل هذا المجهود مرة أخرى.
ويشرح المازنى فلسفة حبه لأمه فيقول: ومع ذلك أقول إنى أرى فى عاطفتى لأمى غير قليل من جهد الخيال وإرادة النفس، وهى فى الأصل ولا شك عاطفة صادقة وقوية، ولكنه يخيل إليّ إنى غذيتها،وقويتها بالإيحاء المستمر إلى النفس؛ لأنى كالخروف دائم الاجترارلما فى جوفى. وأحسب أن العاطفة قد راقتنى وفتنتنى إلى حد ما.أو أنى وجدت فيها ريَّاً لنفسى أنشده فأخطئه،فتعلقت بها وضخمت أمرها،، وقويتها بالدءوب فى الإيحاء كما تقوى النار بالحطب حتى استغرقت نفسى كلها، وعمت صدرى أجمعه.وما أظن إلا أن هذا سبيل كل إنسان فإنه لا يفتأ يقوى عواطفه المختلفة من حب وبغض بالإيحاء،وإن كان هو لا يشعر بذلك ولا يفطن إليه.
فإذا كان لابد من امرأة فى حياة الأديب فهذه امرأة،أفلا تكفى الأستاذ الحكيم؟. ولست بعد هذا «عدواً للمرأة» كالأستاذ توفيق إذا صح هذا عنه،ولم يكن أكثر من إعلان على الطريقة الأمريكية – معذرة يا صاحبى – وأنا أنشدها أبداً ولا أرى الحياة تطيب،أو يكون لها معنى إلا بها،ولكنى لا أطمعها فى الحب المستغرق الآخذ بالكلْيتين،لأنه لا قدرة لى على ذلك،ولأنى أشد اعتزازاً بحريتى وحرصاً على استقلال شخصيتى من أن أسمح بأن تتسرب نفسى فى نفس أخرى،أو تفنى فيها، أو تجعلها محور وجودها.ولكل امريء منا طباعه وفطرته، وأنا فى طباعى هذا التمرد الساكن الذى ليس فيه ضجة،وتغليق الأبواب التى تجيء منها الريح لأستريح .
ثم إنه لا يعنينى أن تكون فى حياتى امرأة أو سواها لأكون أديباً على ما يحب الأستاذ توفيق،وأنا قانع بنفسى جدا، ولست بعد ذلك بأديب وإنما أنا رجل صناعته القلم، وقد قلت مرات- وأكرر الآن- إنى كالنجار الذى فتح دكاناً وعرض فيه بضاعة له مما صنع فذاك رزقه يكسبه بهذه الوسيلة، وكهذا النجار تجد عندى الخشب الجيد المتين،والصنعة الدقيقة والخشب الأبيض والقشرة والصقل المغنى عن النفاسة حسب الطلب وتبعاً لحالة السوق ومبلغ استعداد الزبائن للبذل. فضعنى بالله حيث أضع نفسى واكفنى شر هذه الفلسفات،وإليك التحية وعليك السلام.