السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الذكرى السابعة لرحيله إبراهيم أصلان.. شيخ السرد العربى الحديث

فى الذكرى السابعة لرحيله إبراهيم أصلان.. شيخ السرد العربى الحديث
فى الذكرى السابعة لرحيله إبراهيم أصلان.. شيخ السرد العربى الحديث




تمر هذه الأيام الذكرى السابعة على رحيل الكاتب الكبير إبراهيم أصلان الذى ولد فى طنطا عام 1935،  ورحل عن عالمنا فى 7 يناير 2012، لم تكن الظروف المادية لأسرته مواتية له ليلتزم بالتعليم فى المدارس النظامية، فكان متقطع التعلم، كلما سمحت الظروف يتجه إلى المدرسة أم  يتجه إلى ممارسة العمل ليجلب الأموال التى تلزمه للإنفاق، فقد التحق بالمدارس الصناعية، وعمل فترة كبوسطجي، ولكن مستواه الدراسى المحدود لم يمنعه عن القراءة وتثقيف الذات، فقد ساعدته الظروف ليكون برفقة كبار الأدباء المصريين منهم الأديب يحيى حقي، والذى تعلم منه الكثير، فقد ساعده على نشر مقالاته فى مجلة (المجلة) التى كان يرأسها حقى من أشهر الأعمال الأدبية التى قدمها أصلان المجموعة القصصية (يوسف والرداء) و(بحيرة المساء)، وقصة (وردية ليل)، كما قدم العديد من الروايات منها رواية (عصافير النيل)، ورواية (حكايات من فضل الله عثمان)،  ورواية (مالك الحزين) وهى الرواية الأشهر لإبراهيم أصلان حيث تم تحويلها إلى فيلم  (الكيت كات) لداود عبد السيد من أكثر المشاكل التى مرت بأصلان مشكلة إعادة نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» عام 2002 للروائى السورى حيدر حيدر وهذا عندما كان يشغل موقع رئيس تحرير بهيئة قصور الثقافة وسمح بنشرها، حيث هاجمها الأزهر لوجود مظاهر إلحاد وفسوق فى الرواية الأمر الذى أدى إلى استقالة أصلان من منصبه.
ومن الجوائز التى نالها أصلان جائزة كفافيس، وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب، وجائزة ساويرس فى الرواية، وجائزة طه حسين من جامعة المنيا.ويعد إبراهيم أصلان من كتاب القص المقلين فى مصر، فقبل أن يصدر روايته  الأولى «مالك الحزين» لم يعرفه القراء إلا من خلال مجموعة قصصية تحمل عنوان «بحيرة المساء» (1971) ولكنه استطاع من خلالها أن يكون صوتا متميزا داخل  حركة التجديد التى عرفتها الساحة الثقافية فى مصر آواخر الستينيات، إذ أفردت له مجلة «جاليري» 68 عددا خاصا نشرت له فيه أبرز قصصه القصيرة، وبعد هذه الرواية لم نقرأ إلا نصا روائيا واحدا عنوانه «وردية ليل» لم يلفت انتباه النقاد، ومع ذلك تظل رواية «مالك الحزين» من الروايات القليلة التى استقطبت اهتمام النقاد باعتبارها مصدرا أساسيا من مصادر ما يطلق عليه  (الحساسية الروائية الجديدة ) ورائدها الروائى الراحل إدوار الخراط  التى حاولت «الإفلات من أثر الرؤى التقليدية ومن العلاقة الآلية بين الأدب والواقع ومن قواعد إحالتها له وقبل هذا كله من الفهم التقليدى للعمل الفني، طبيعته وآلياته المعقدة وغاياته» وقد أدرج صبرى حافظ هذه الرواية ضمن «روايات الكتابة» فهى «ليست من النوع الذى يسميه «بارت» بروايات القراءة أى النص المكتوب للقراءة التقليدية السهلة التى لا تتطلب قراءته جهدا كبيرا من المتلقى ولكنها تنتمى إلى النوع الثانى من الروايات التى يسميها « رولان بارت» بروايات الكتابة التى تتطلب قراءتها جهدا ملحوظا من القارئ.
يحكى الروائى سليمان فياض عن ذكرياته مع أصلان فى كتابه «ألاعيب الذاكرة» الصادر مؤخرا عن هيئة قصور الثقافة فيقول: كنت أرى أبو خليل جالسا مع أعضاء شل بمقهى ريش من المثقفين يستمع أكثر الوقت،ولا يتكلم إلا قليلا وباهتمام عندما يتحدث أحد عن كتاب جيد قرأه، خاصة إذا كان هذا الكتاب مجموع قصصية أو رواية مؤلفة كانت أو مترجمة ويذهب لشرائها إذا سمحت قروشه. وكان أصلان يقول له: العمل الجيد فتنة وسحر ومعرفة بالعالم والنفس. وكان أصلان خفيف الظل والضحكة والبسمة قفاشا للنكت والتعليقات الفورية، وكانت ملاحظاته الأدبية خاطفة ونفاذة، حتى وهو يجذب نفسا من البايب ويخرجه من بين شعرات شاربه.
ويصف فياض السمات الأسلوبية لقصص أصلان فيقول: حين راح ينشر قصصه القصيرة جدا، المفعمة بالشاعرية، ودقة الاختيار للألفاظ، وصفائها وتعانقها مع رفيقاتها أينما وضعت، مؤثرا الجمل الإسمية القصيرة، ربما هربا من الوقوع فى أخطاء الجمل الفعلية والأخطاء الإعرابية فى الإعراب بالحروف.كانت قصصه بديعة فائقة النمنمة، تتواصل فيها ألوان الكلمات بالتجاور كما يمكن أن تتواصل الأكتاف والمصافحات باللمسات، ونظرات العيون بالنظرات، والكلمات المسموعة بالنبرات، بدا لنا نحن فتية ريش كاتبا خاصا ذا مذاق خاص مثلما كانت ليحيى حقى خاصة بين كتاب جيله ومن بعدهم خصوصيته الإبداعية المرهفة، التى لا يمكن أن يقاربه أحد فيها سوى نفسه.
واستفسر «فياض» عن سبب قلة إنتاج «أصلان» الأدبى فقال: «العدد فى الليمون يا أبو داود، وكله ليمون فى النهاية ليمون، الحلوة على الوحشة، والصغيرة على الكبيرة، والطيبة المذاق على المرة المذاق. ويكشف فياض أن أصلان لم ينشر مجموعته القصصية الأولى إلا فى مطلع السبعينيات، وهو المحسوب على أنه من كتاب القصة فى جيل الستينيات، فلم يكن متعجلا أن ينشر له كتاب، تحتفى به الحياة القصصية فى مصر».
وقد عبر «أصلان» عن مخاوفه تجاه الكتاب الموهوبين فقال: «لا أخاف على كاتب قصة مجيد من نفسه، ولا من تقطع نشره، ولا من قلة ما ينشره، فالعدد فى الليمون كما قلت سابقا، ولا من عدم توفيقه فى قصة، أو قصص كتبها، أخاف عليه فقط من التوقف عن الكتابة كليا، والانشغال عن القص كلية. هذا إذا كان القص حرمه المقدس الخاص به، كلما خلا إلى نفسه قارئا للقص،وكاتبا للقص. كيف تنصت لوحيد متوحد،أو حتى لأصوات العالم كله، ولا تستمع لصوت نفسك؟!».
  يحكى الروائى الجزائرى واسينى الأعرج عن ذكرياته مع «أصلان» فيقول: «إن أول لقاء جمعه بإبراهيم أصلان كان فى القاهرة فى أحد مؤتمرات الرواية، ثم توطدت هذه العلاقة عندما طلب منه أن يسلمه حق نشر رواية (سيدة المقام) فى سلسلة آفاق عربية التى كان يرأس تحريرها، والتى انتهت بمصادرة رواية (وليمة لأعشاب البحر)».
وأضاف واسيني: بعد أن تم نشر روايتى «سيدة المقام» فى السلسلة، فوجئت بمنع تسويقها، وذلك خوفا مما حدث مع رواية «وليمة لأعشاب البحر» وكان أصلان  حزينا لانهيار مشروع أحبه، ولكنه لم يتنازل عن موقفه وظل يدافع عن حق الكاتب والفنان فى التعبير عن رأيه.
وأضاف الأعرج: كلما رأيت إبراهيم فى القاهرة، أو الرباط أو الدار البيضاء، أو بيروت، أو دبى أو غيرها، داعبته قائلا: كيف حبيبى «دون كيشوت» اليوم. يرد ضاحكا: على حصانه وفى قمة جنونه. وتغيب ضحكته تحت شاربين كثيفين يقربانه من شخصيات عميقة لا تنتمى إلى هذا العصر الذى ابتذل فيه تقريبا كل شيء. لقد حمل إبراهيم أصلان بالفعل نبل دون كيشوت وشجاعته وسخاءه ويأسه أيضا.. فقد عاش فى زمن انتهت فيه الفروسية.
فى قصص إبراهيم أصلان- ورواياته أيضا- هاجس البحث عن الائتلاف الروحى الروحى والجسدي، بين الكائن الإنساني، وبين ما يحيط به من مكونات هذا الفضاء، سواء كان إنسانا، أو شيئا من الأشياء :جدار/ كنبة/ شجرة/صورة فوتوعرافية/ضفة النهر..الخ أو استرجاعا للحظة محددة. طفولة/علاقة إنسانية.
والفضاء، فى هذا السياق، قد يكون فى حجم حبة عدس، وقد يكون، فى حجم الحلم- وهو بسيط فى كل الأحوال- الذى تلتف حوله شخصيات هذه المحكيات، من خلال
الرغبة الإنسانية فى اللقمة النظيفة، وشربة الماء غير الملوثة، والتمتع بتدخين سيجارة عادية دون منغصات مادية، أو نفسية.الفضاء، عند إبراهيم أصلان، يعادل الشرط الإنساني، سلبا أو إيجابا.
ويرى الكاتب والناقد معن البيارى أن تسعة كتب صغيرة، روايات وقصصا ومقالات، فقط أصدرها أصلان طوال أزيد من أربعين عاما، الجوهرى فيها أنها ذات سمت متقشف وأنيق، تتوخى الدقة والطرافة والإشراق، استمدت مادتها من الحياة نفسها، أى من التفاصيل اليومية للناس الذين عايشهم الراحل الكبير، وانحاز إليهم فى حضوره الثقافى وفاعليته كاتبا وروائيا.جملته القصيرة، أو التليغرافية، ومفرداته المحسوبة بأناقة فى أدبه، تعود إلى عمله طويلا «بوسطجيا» وموظفا فى قسم البرقيات البريدية، قبل أن يزكيه نجيب محفوظ ليعمل فى وزارة الثقافة، باعتباره «موهبة فذة وله مستقبلٌ فريد؟ أم هو انحيازٌ جمالى تبناه منذ اختار أن يكون كاتب قصة، من دون الحصول على مؤهل دراسى عال (مثل عباس العقاد)، وقد تمكن بعصاميته، فى حى إمبابة الشعبي، من تحصيل ثقافة عالية ومعرفة واسعة بمنجزات أدبية عربية وعالمية كثيرة، فصار واحدا من أعلام الكتابة الرفيعة ضمن جيل الستينيات الباهر فى مصر، مع رفاقه محمد حافظ رجب وجمال الغيطانى وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وبهاء طاهر وغيرهم، والذين مثلت كتابتهم الطليعية الأولى، بشارة مهمة فى مسار فريد للمنجز الإبداعى المهم الذى أطل فى مصر لاحقا.
إبراهيم أصلان دشن صوتا خاصا به، فهو صاحب أناقة أسلوبية حارة، ولذعة ساخرة أحيانا، فى الأجواء التى يشخصها ويكتب عنها، والتى أغوت مخرجين كبار فى السينما المصرية، مثل داود عبد السيد ومجدى أحمد علي، لإنجاز الفيلمين الشهيرين، «الكيت كات» عن رواية مالك الحزين (1983)، و«عصافير النيل» عن الرواية التى تحمل اسمه (1999). وفى البال أن أصلان وصف نفسه، مرة، بأنه «كاتب الكاميرا»، وهو وصفٌ دقيق، بالنظر إلى حذاقة أعماله السردية، ومقالاته الرشيقة، فى التصوير والتعبير والإيحاء، باقتصاد لغوى وتكثيف ينشغل بلحظات عابرة، وبتشذيب وبساطة رائقتين، وبلقطات موجزة، وبانشغال متقن بالتفاصيل الصغيرة.
 ويكشف «البياري» أن الدرس الأهم الذى يعلمنا إياه إبراهيم أصلان، منذ قصصه فى «بحيرة المساء» (1971)، وصولا إلى متتاليته «حجرتان وصالة» (2009)، مرورا برواية «وردية ليل» (1991) و»حكايات من فضل الله عثمان» (2003)، وغيرها، هو الإخلاص للكتابة، باعتبارها مسؤولية جمالية، لا ثرثرة مجانية وكلاما مسترسلا. وكان يعتبر نفسه عاشقا للكتابة وهاويا لها، وليس كاتبا محترفا مفروضا عليه أن يكتب بمثل هذا التواضع، كان الحكاء الجميل يخوض تجربته مع فعل الكتابة، ويزاوج بين المحكى والمكتوب، ما جعل تجديده فى الحداثة الروائية والقصصية منه واحدا من «أعمدة السرد العربى الحديث».