الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«سائق القصيد».. تجربة شعرية لمواقف إنسانية

«سائق القصيد».. تجربة شعرية لمواقف إنسانية
«سائق القصيد».. تجربة شعرية لمواقف إنسانية




كثيرون هم الشعراء والأدباء الذين نبغوا فى الكتابة والإبداع دون أن يحصلوا على شهادات جامعية ويأتى فى مقدمتهم الشاعر والمفكر عباس محمود العقاد الذى حصل على الابتدائية فقط،ولكنه ملأ الدنيا وشغل الناس.وكذلك أديبنا إبراهيم أصلان الذى عمل فى بداية حياته بوسطجي، ولكنه أصبح من أمراء السرد فى مصر والعالم العربي.والقائمة تطول.
وتطالعنا تجربة مشابهة من الإسكندرية بطلها إنسان بسيط، لم يحصل على شهادة جامعية ولكنه ثقف نفسه بنفسه سائق حافلة اسمه سالم الشولحى من مواليد عام 1975، وصدر حديثا ديوانه الأول بعنوان» سائق القصيد»، عن دار النوارس للدعاية والنشر. ولعل أهم التحولات التى عرفتها القصيدة فى عصرنا الحالى هو اعتمادها شبه الكلى على الصورة الشعرية، من خلال التوظيف الكبير والمبالغ فيه للمجاز، الذى أضحى مهيمنا على القول الشعرى فى عمومه، فلا نكد نعثر على مقطع فى القصيدة يسترسل فيه الشعر بمعناه المعجمى المعروف، بل أضحى التأويل الوسيلة الوحيدة تقريبا للتعاطى مع هذا الشعر، حتى كاد ينغلق معناه على المتلقى العادي، الذى اعتاد القصيدة الواضحة، تلك التى يكتفى بشرح معجمها المستعصى ليفهم معناها، لكن فى ديوان «سائق القصيد» سنجد أنفسنا أمام ظاهرة ملفتة للنظر، وتتجلى فى أن معجم القصيدة واضح لا يحتاج شرح. فالقصائد تزخر بالصور الشعرية المتراكمة فى مساحات ضيقة، يميز كتابة سالم الشولحى الأسلوب السردى المشوق، واللغة الرشيقة الممتلئة بشحنات انفعالية صادقة متوترة ودافئة.
وتتنوع الصورة الشعرية فى الديوان رغم اشتراكها فى خاصية الغرابة، التى تجعل من التعاطى معها غير متاح للجميع.
وتجد الصورة الشعرية تنوعها من خلال طرق بنائها تركيبيا، فهناك الصورة الشعرية التى تعتمد على الأفعال، مما يجعلها صورة تتميز بالحركية، من قبيل.. يقول فى قصيدة «غيض من الألم»: جهلت كثيرا من الدنيا/ ما أضعفها شهاداتي/ تسارعت لأقتنى كتباً/ لتنجينى من العثرات/ فأيقنت جهلى عن كثب/ وغابت كل ابتساماتي/ حمدت الله على قراءتي/ لأسطر بعدها حكاياتي. يتناول فضل القراء فى التثقيف والتنوير، والتى مكنته بعد ذلك من سرد حكايته وتجربته مع الكتابة.
كما أن الصورة الشعرية تتوسل أحيانا بالاسم ربما لتدل على  الثبات والاستمرار فيقول فى قصيدة» مصنع الشوكولاتة»: جميلة أنت/ هذا أقل الثناء/ يا بهجة فى حلوى/ أنت لها الأفعال/ حلوة يا رقيقة/ بلسم بعد العناء.
كما أن الشاعر اعتمد بشكل ملحوظ على الحقل المعجمى للإنسان فى إنشاء صوره الشعرية مما جعل القصائد تميل نحو أنسنة الظواهر الطبيعية والجماد وكل ما له علاقة بالوجود الإنسانى فيقول فى قصيدة» مباراة بالروح والجسد»: تراكمات أحزانه/ تٌلاكم أحلامه المتراكمة/ هو بينهما يترنح/ يتوه وجعاً فى مباراة دامية/مفتولة عضلات سنواته العجاف.
فيصور الأحزان بشيء مادى يتراكم رغم أنها شيء معنوي، وهذه الأحزان تتصارع فى مباراة عنيفة مع أحلامه، ويسقط هو مترنحا فى حلبة الصراع بينهما، ولا سيما أن سنواته الصعبة العجاف مفتولة العضلات، يصعب مناطحتها.
وكتعبير عن رؤيا مستقبلية تداعب عقل الشاعر ووجدانه نجد كلمات النور أو ما يدل عليها حاضرة بقوة فى الديوان، وهى فى أحد مستويات التأويل انتصار للمعرفة والحياة والتطلع إلى المستقبل المشرق فيقول فى قصيدة» الزاهرة»:
هى أمل وارتواء/ تتساقط كل التواريخ لثغرها/يشهد الحاضر أنه لها/ هى الدنيا لمستقبل/ رأى النور بعد الدجى/ وردة زاهرة لها شذى/ فيه عبق يفوح بعطرها/ ليس كعطور الدنيا/ لكنه مشتق من قلبها.
كل ذلك، تحتاج كل قصيدة من الديوان وقفة تأمل عميقة لاستجلاء معانيها الخفية، وإن استغلق ذلك على القارئ فيكفيه ذلك الإحساس الذى تولده النصوص فى دواخله، حين يتتبع ذبذبات الكلمات، وهى تنسج عبارات تتوشى فى مجملها بالمجاز.
يريد سالم الشولحى أن يوصل لنا رسالة مفادها أن شيئا ما ينقصنا، أهو الجمال فعلا، لأنه بدونه لا يمكن أن نشعر بسحر الأشياء التى تحيط بنا؟ أم أننا نحتاج  للحب لأنه سوف يجعلنا نرى الأمور على حقيقتها ونتذوق الأشياء على طبيعتها، وهنا سنبلغ جوهر الجمال، وسنكتشف بعد كل هذه السنين، أننا كنا مخطئين فى حق أنفسنا وفى حق الآخرين. إننا جد متعطشين لهذا الجمال الهارب، وهنا علينا أن نحفر كل قبور الشعراء، ونسألهم واحدا واحدا عن قصائدهم الشعرية التى تغنى عن عيون المرأة، عن سحر هذه العيون، كل واحد منهم وصفها بالوصف الذى هز كيانه. فيقول فى قصيدة «حصون قلبي»: اقتحمت حصون قلبي/ أطلقت عليها النبض/ دقت طبول الحب.
سنبقى دائما فى حالة انبهار، ونتوسل معانقة الجمال سواء فى الأرض أو فى السماء، إنها أمنيتنا التى تظل تسكننا حتى الموت.