الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

رسائل ماما «روز» إلى إحسان «ولدى رئيس التحرير.. هذا لك»

رسائل ماما «روز» إلى إحسان «ولدى رئيس التحرير.. هذا لك»
رسائل ماما «روز» إلى إحسان «ولدى رئيس التحرير.. هذا لك»




«حبيبتى ماما.. أكتب إليك وأنا جالس فى شرفة الفندق.. وبحيرة “لوجانو” تحت قدمي، وجبل على يمينى وجبل آخر على يساري، وبين أحضانى أشجار رائعة طرز الخريف أوراقها باللون الأحمر والأصفر والأخضر، ولكنى فى هذه اللحظة لا أرى البحيرة ولا الجبال، ولا الأشجار، ولا الخريف..أراك أنت وحدكِ، أراكِ فى قلبي؛ وأراك فى عيني.. أراك جميلة وعظيمة.. أجمل وأعظم من كل ما فى أوروبا ..إن الله لم يخلق شيئًا أجمل من أمي، ولا أعظم من أمي ..إنها بضع كلمات نثرها إحسان عبدالقدوس فى رسالة إلى أمه السيدة فاطمة اليوسف أو روزاليوسف مفتاح سر كتاباته تلك الأسطورة شكلت تفاصيله الصغيرة امرأة قوية مؤسسة تسير على قدمين منحته مساحة ليكتب عن الحرية فأنطلق فى كتابته لنصرة الجنس الأكثر ضعفاً فى المجتمع، بدلا من أن يكون مصدر قوة وإلهام له .. كما كانت أمه لأجيال  وفى ذكرى رحيل «روزاليوسف» قرأنا لكم من رسائلها إلى نجلها إحسان عبدالقدوس  الآتى..

العلاقة التى تربط إحسان وأمه تحتاج إلى الكثير من الوقت  لفهمها عادة ما يعانى الأبناء من عدم قرة أمهاتهم على التواصل معهم لكن العلاقة بين إحسان وماما روز مختلفة تماما ومساندته قطعاً لم تكن عادية فهى الأم التى تعلم وتربى وتدافع وتعاقب والصديقة التى تقرأ الأفكار وتسانده فى الأزمات والحبيبة التى تتفهم المشاعر وتترجمها لمواقف وتُكتب الرسائل منها وإليها وقبل أن ندخل إلى عالم الرسائل المتبادلة بين إحسان وروزا.. نترك الأم تحكى لنا واقعة عن ولدها إحسان وعمره ستة أشهر، حيث كتبت فى مذكراتها - الصادرة عن كتاب روزاليوسف - التى أهدتها إلى إحسان« إليك يا بني، أهدى هذه الذكريات الناقصة”، كما تقول.

35 يومًا في البيت

تقول الواقعة: «الآن وأنا أجلس فى مكتبى لأكتب الحلقة الأخيرة من هذه الذكريات أرى كلما انفتح باب غرفتي .. إحسان فى غرفة مكتبه الزرقاء قد خلع الجاكتة، وفك الكرافت وعلى وجهه تلك «التكشيرة» التى لبسها إذا استغرق فى العمل، كأنه عصر ذهنه، أو كأنه يريد أن يذوب فى الورق الذى أمامه... ولا أملك نفسى حين أنظر اليه من الابتسام، وخاطرى تطوف به عشرات من الصور والأحداث التى كان إحسان موضوعها، أو كان بطلها.. وتقف ذاكرتى واجمة ساهمة عند حادث صغير وإحسان لم يزل ابن ستة أشهر.كنت فى ذلك الوقت لا أزال شابة في السن، همّى كله منصرف الى المستقبل الذى أحلم به، واسمى الذى أريد أن أبنيه والنشاط الذى كاد ينسينى نفسي، وبيتي، وكل ما يتعلق بحياتى الخاصة.
وفجأة خرجت المرضعة التى كانت تعنى بإحسان... واضطررت أن استخدم فى طعامه اللبن العادى الذى يباع فى الأسواق... واذا به يصاب بتلبك خطير فى المعدة، فهو يسحب ويهزل وتسكن حركته، ويضعف الخيط الذى يربطه بالحياة ووجدت نفسى أنسى العمل الذى أنهض به، والمجد الذى أبحث عنه، وأنسى كل شيء إلا أننى أم وأن ابنى فى خطر.
وتضاءلت كل الأحلام الرائعة التى تطوف بى أمام حلم واحد هو أن يعيش ولدي، وتبدد كل نشاطى للعمل الكثير غير عمل واحد هو أن أُعنى بهذا الابن، وأن أبذل له كل ما أملك.
وأسرعت به الى الطبيب، وكان الدواء الذى وصفه له يقتضى منى أن ألازمه خمسة وثلاثين يوماً لا أبعد فيها عن فراشه شبراً واحداً، ومن يومها والبيت شغل من اهتمامى قدر ما يشغله عملى وجهدى وكل متاعبي. ولا أنسى  يوم فتح احسان فمه لأول مرة ليبكى بعد أن أسكته المرض هذا الزمن الطويل، وجريت الى الطبيب أقول : إنه يبكي.
فقال لي:  أبشري..  إنها علامة الشفاء.
لقد شعرت بعدها بأن أحلامى قد تحققت وأن جهادى قد تكلل بالنجاح وامتلأت حياتى الى آخرها، وصرت أفرح اذا بكى، وأقلق إذا هدأ.

 كل يوم رسالة

ثم أذكره وقد أصبح تلميذاً فى المدرسة الابتدائية، وكان احسان وهو فى هذه السن يجد كل الأمهات مقيدات فى البيوت عدا أمه... وكان هذا يدهشه، فكلما رآنى أتهيأ للخروج مع الصباح سألني:
«انتى رايحة فين؟»...» رايحة الشغل».
وأرى أنه يغضب لذلك فأقول له: بكرة لما تكبر وتخلص تعليمك تبقى تشتغل مطرحى وأنا أقعد فى البيت.
ولم يكن فى سن تتيح له أن يدرك هذا، ولكن هذه الكلمة كانت حافزاً دائماً له على الاجتهاد فى دراسته... والاحتفاظ بالنجاح كل عام، حتى ينتهى من الدراسة ويعمل بدلاً مني، ومازلت أحتفظ بخطاب أرسله اليّ وأنا على سفر وهو فى سن السابعة، يعتذر فيه عن عدم إرسال خطابات ويقول : «أرجو أن تعرفى أنى أريد أن أكتب لك كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة ولكن المدرسة والمذاكرة اللى على شانك أنا مجتهد فيهم بيعطلونى كل يوم أقول النهارده أذاكر، وبكره أكتب الجواب لماما العزيزة اللى أحبها أكثر من أى شيء». وقد ظلت هذه الفكرة مسيطرة عليه حتى كبر فأصبحت عقيدة وأصبح فى رأيه أن المرأة للبيت فقط لا للعمل.
أما أول اشتغاله بالصحافة فقد حدث أن سافر فى العطلة الصيفية إلى الإسكندرية، وتصادف أن مرض مراسل« روزاليوسف» فى الاسكندرية فجأة فى حين أن النشاط السياسى كله مركز هناك فاتصلت باحسان تلفونياً وطلبت منه أن يحاول الحصول على بعض الأخبار وأن يرسلها اليّ فوراً.وعرفت بعد ذلك القصة.
فقد ذهب من فوره الى فندق «وندسور» الذى كان ملتقى كبار الساسة فى ذلك الوقت .. ووجد أمامه الدكتور محمد حسين هيكل جالساً فتقدم اليه وحياه ثم قال له ببساطة :» أنا عاوز أخبار»، ودهش الدكتور هيكل من هذا التلميذ الصغير الذى يطلب منه أخباراً بهذه الطريقة وقال له: أخبار إيه يا ابني؟

«سونة» يكتب

فقال احسان: ماما قالت لى هات أخبار!
وزادت دهشة الدكتور هيكل حتى علم أنه ابني... فضحك كثيراً ورحب به... وأرسل لى يومها أخباراً كثيرة... ملأت سلة المهملات.وبدأ فى هذه المرحلة يكتب من حين لآخر قصة، أو حادثة، أو شيئاً من هذا القبيل، كنت أختار الصالح منه وأنشره له تشجيعاً بإمضاء «سونة» فهو أول توقيع صحفى له.
وصار إحسان كلما اقترب من نهاية دراسته يزداد حماسة لهذه النهاية... فكان فى كلية الحقوق اذا اقترب الامتحان حبس نفسه فى البيت وحلق شعر رأسه كله حتى يضمن ألا يخرج ويترك دراسته مهما كانت المغريات... وكنت إذا سألته لماذا يحلق شعره هكذا؟ قال ضاحكاً : علشان البنات متعاكسنيش يا ماما.
وفرغ إحسان من امتحان الليسانس وعاد من الكلية مسرعاً قبل أن تظهر النتيجة فاحتل مكتباً فى المجلة، وأعلن نفسه رئيساً للتحرير .. ولما اعترضت على ذلك قال لي: أمال أنا كنت باتعلم علشان ايه؟ مش علشان أشتغل وأنت تستريحي .. وحاولت أن أقنعه بأنه لابد له من بعض التمرين قبل أن يرأس تحرير المجلة ولكنه أبى ورفض أن يعمل فى«روزاليوسف »إلا رئيساً للتحرير ... ولما أخذت عليه هذا العناد، قال لى كالعادة: هو أنا جايب العناد من بره، وكأنه أراد أن يثبت لى أنه يستطيع أن يمضى بمفرده وأنه لا يطالب بذلك لمجرد أنه ابن صاحبة المجلة، فذهب إلى التابعى الذى كان يصدر «آخر ساعة» فالتحق بها، وكنت أعطيه لقاء تمرينه فى«روزاليوسف »ستة جنيهات فأعطاه التابعى خمسة وعشرين».

عودة إحسان

وانتظرت “روزا “أن يعود إليها إحسان ولم يعد، حيث نجح فى آخر ساعة، واتصلت “روزا “بمحمد التابعى معاتبة ومتشاجرة لإغرائه ابنها بالعمل معه..  وهاجمت التابعى بشدة رغم سرورها بنجاح ابنها، وفى عام 1945 عاد إحسان إلى«روزاليوسف »وكتب فيها أول مقالة نشرت فى الصحف المصرية ضد اللورد كيلرن، وصادر النقراشى باشا - رئيس الوزراء - المجلة وقبض على إحسان وسجنه، ومن فرط حب فاطمة اليوسف لابنها حاولت أن تدخل السجن بدلاً منه.. ثار إحسان على أمه، وشهد مكتب وكيل النيابة مناقشة حادة بينهما فكل منهما يريد تحمل المسئولية .. وتحمل إحسان المسئولية بناء على تحقيق النيابة ودخل السجن .. وعند خروجه عينته والدته رئيسًا للتحرير وتركته يدخن أمامها للمرة الأولى فى حياته .. وفى هذه المناسبة كتبت له خطاباً مفتوحاً قالت له فيه:
«ولدى رئيس التحرير، عندما اشتغلت بالصحافة وأسست هذه المجلة كان عمرك خمس سنوات قد لا تذكر أنى حملت العدد الأول ووضعته بين يديك الصغيرتين وقلت:» هذا لك!» ومر عشرون عامًا قضيتها وأنا أراقب فى صبر وجلد نمو أصابعك حتى تستطيع أن تحمل القلم ونمو تفكيرك حتى تستطيع أن تُقدر هذه الهدية التى كونتها بدمى وأعصابى خلال سنين طويلة لتكون اليوم لك...
والآن وقبل أن أضعك أمامى لأواجه بك الناس، دعنى أهمس فى أذنيك بوصية أم إلى ابنها ووصية جيل إلى جيل.. مهما كبرت ونالك من شهرة، لا تدع الغرور يداخل نفسك، فالغرور قاتل، كلما ازددت علماً وشهرة فتأكد أنك مازلت فى حاجة إلى علم وشهرة، حافظ على صحتك، فبغير الصحة لن تكون شيئاً، مهما تقدمت بك السن فلا تدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك .. بل كن دائماً شاب الذهن والقلب وتعلق حتى آخر أيامك بحماسة الشباب حارب الظلم أينما كان، وكن مع الضعيف على القوى ولا تسأل عن الثمن، كن قنوعاً، ففى القناعة راحة الجسد، وثق أنى دائماً معك بقلبى وتفكيرى وأعصابي... فالجأ إليّ دائماً، وأخيراً .. دع أمك تستريح قليلاً!».