الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الدبلوماسية التركية تلعب دور «الخادم» للربيع العربى




اقتحمت تركيا القرن الحادى والعشرين باستراتيجية دبلوماسية جديدة كان مخططها ومبتكرها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو منذ أن كان أحد مستشارى رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركى  وزعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم..  وكان لابد من «رؤية العمق الاستراتيجى» لتتسلح بها أنقرة فى مواجهة متغيرات وتحديات المستقبل وكان أمام نصب عين قادتها عام 2023 والاحتفال بمرور قرن على تأسيس الدولة التركية الحديثة على يد كمال أتاتورك... ولكن هل انعكس الربيع العربى وثوراته وزوابعه على تطبيق تلك الرؤية وعلى مسار تركيا المندفع  بقوة نحو الدولة القوية.. المؤثرة اقليميًا ودوليًا التى تتبختر بقوة فوق رقعة شطرنج المنطقة ملتحفة بعباءة عثمانية جديدة؟
تقدم ورقة استراتيجية  لمركز «بيجن - السادات للدراسات الاستراتيجية» بعنوان السياسة الخارجية التركية فى القرن الحادى والعشرين» بعض شذرات الإجابة عن ذلك.
تتناول الدراسة، التى أعدها الكسندر مورينسون فى إطار برنامج دراسات الأمن والسياسة فى الشرق الوسط، استعراضًا للدبلوماسية التركية فى القرن الحادى والعشرين وفى ظل عالم متغير من خلال تناول محددات وعناصر تلك البلوماسية مثل «النموذج التركى» والإيديولوجية العثمانية الجديدة ودور النخبة الحاكمة الجديدة الملتحفة بعباءة الإسلام السياسى والاقتصادى، وكذلك  تركيا والربيع العربى والآثار المترتبة على «الربيع العربي» على تركيا وسياسة «تصدير» الأزمات  التى تنتهجها مع جيرانها.
وتشير الدراسة إلى سعى الدبلوماسيين الأتراك إلى جعل بلادهم نجمًا ساطعًا فى المنطقة قائدة لما يطلقون عليه ربيعًا إقليميًا، ولقد أعلنها وزير الخارجية داود أوغلو بقوله «سوف تقود تركيا التغيير فى الشرق الأوسط كخادم وأمير فى الوقت ذاته».
ولكن التطورات الأخيرة تحمل معها تهديدات جمة للطموحات التركية فى المنطقة وتترك علامات الاستفهام هائلة بحجم الصراعات ومآسى عالمنا العربى.
ولا يمكن دراسة السياسة الخارجية لتركيا فى القرن الحالى دون النظر لخريطة العالم السياسية فى القرن العشرين، حيث مرت صورة تركيا ومكانتها فى خريطة العلاقات الدولية المتشابكة والمعقدة خلال القرن العشرين بمراحل عدة فبعد أن كانت تركيا خلال الحرب الباردة تعتبر من الدول «الحدودية» وجزءًا من العالم الغربى مقارنة بجيرانها من العالمين العربى والإسلامى أو بمعنى أصح مستعمراتها القديمة، وكانت تركز على ارتداء الثوب الغربى ونفض العباءة العثمانية.
ومع نهاية الحرب الباردة فى بداية التسعينيات، بزغ تصور جديد لتركيا فى الأذهان كدولة «جسر» تربط بين آسيا وأروربا وبين الشرق والغرب.
ومع ظهور مشاكل جديدة عديدة فى فترة ما بعد الحرب الباردة من ضمنها الغزو العراقى للكويت والأزمة فى البلقان، أصبح هدف تركيا الأساسى هو حماية استقرارها، من خلال سياسة «تصدير الأزمات» وقد نجحت فعلا فى الحفاظ على هذا الاستقرار فى خضم الفوضى العارمة التى انجرف إليها العديد من جيرانها القريبين. وبدأ المجتمع الدولى ينظر الى تركيا على اعتبارها واحة للاستقرار وجسرًا يربط الشرق بالغرب
مكانة جديدة.. زمن جديد
أجبرت المتغيرات الدولية فى العالم والصراعات المختلفة خاصة ثورات الربيع العربى صناع ومنظرى الدبلوماسية التركية على البحث عن أساليب جديدة يتم الوصول إليها عبر إعادة صياغة  بلورة مركز تركيا وعلاقتها بالدول المختلفة.
ويقول وزير الخارجية التركى أحمد داود أوغلو فى رؤيته للسياسة الخارجية التركية فى عالم يموج بالتغييرات والتحديات:  إن مكانة تركيا الجديدة لها اساسان؛ اساس فكرى وأساس جغرافى» مشيراً  إلى أن بلاده تحتلُّ موقعا فريدا، فباعتبارها دولةً مترامية الأطراف وسط أرض واسعة بين إفريقيا وآسيا.
ويضيف أوغلو «يمكنُ أن يتمَّ تعريفُها على أنها بلد مركزيٌّ ذو هويات إقليمية متعددة لا يمكنُ اختزاله فى صفة واحدة موحدة. وعلى غرار روسيا وألمانيا وإيران ومصر لا يمكن تفسير تركيا جغرافيا أو ثقافيا بربطها بمنطقة واحدة. فتركيب تركيا الإقليمى المتعدد يمنحها القدرة على المناورة فى العديد من المناطق، ومن ثم فهى تتحكم فى منطقة نفوذ فى جوارها المباشر».
ويؤكد وزير الخارجية التركى فى رؤيته «العمق الاستراتيجى» أن تركيا تحتل تركيا مكانة الدولة المركزية فهى وفقًا لمعايير الجيوسياسية دولة آسيوية وأوروبية، قريبة من أفريقيا ومنطقة البحر المتوسط.
 ويخلص الوزير التركى إلى أن هذه العوامل تفرض على تركيا أن تقدم نفسها بعيداً عن صورة الذهنية التقليدية كدولة طرفية أو جسر أو هامشية تقع على حافة أوروبا من جانب والعالم العربى والإسلامى من جانب آخر، فهى دولة محورية ومركز جذب لتلاقى وتحاور الحضارات والأعراق تتسع دوائر نفوذها لمناطق البلقان والقوقاز والعالم العربى والشرق الأوسط  ودول البحر المتوسط.
ومنذ اعتلاء حزب «العدالة والتنمية» الحكم فى تركيا عام 2002 بدأ الدبلوماسيون الأتراك فى رسم  وتطبيق استراتيجيتها الدبلوماسية وفقًا لتلك «الرؤية الاستراتيجية» التى تقوم على عدة ركائز أهمها:
 

أولا: التوازن بين الأمن والديمقراطية لضمان تمتع المواطنين الأتراك بالحرية وكامل حقوق الإنسان فى ظل أمان كامل.
ثانيا: سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار وتم تحقيقها بنجاح على مدار سنوات عديدة، ولقد أثبتت تلك السياسة فاعلية بالنسبة لجورجيا وبلغاريا وإيران من خلال مشاريع اقتصادية وخدمية عملاقة مثل مشروع بناء السكك الحديدية بين باكو وتبليسى وكارس،
وكذلك قامت تركيا بتطوير علاقاتها مع سوريا والعراق فى مجالات السياسة والاقتصاد.
ثالثا: انتهاج سياسية خارجية «متعددة الأبعاد»، ترتكز على الدخول فى علاقات تكاملية غير تنافسية مع دول العالم الأخرى، ولقد تم تطبيق ذلك المبدأ فى علاقة تركيا مع أمريكا وحلف الناتو والاتحاد الأووربى.
رابعا: التأثير الإقليمى على مستوى منطقة البلقان ومنطقة القوقاز والشرق الأوسط  ومنطقة دول وسط أسيا، وهنا تبرز نقطة مهمة وهى أن تركيا كانت تعانى من مشاكل بسبب صورتها السلبية المتوارثة من العصر العثمانى والتى روجها الإعلام الغربى للدول التى استعمرتها فرنسا وبريطانيا ممن كان يطلق عليه «رجل أوروبا المريض» فى إشارة للدولة العثمانية، كما أن الصراع العربى الاسرائيلى ألقى بظلاله على علاقة تركيا بالدول العربية والإسلامية وأصبح يمثل لها أحد التحديات الهامة فى السياسة الخارجية إذ أن قنابل المشاكل الداخلية فى الدول العربية والصراع العربى الاسرائيلى تمثل نقاطًا خطرة لاتعرف متى ستنفجر فى وجه صناع السياسة الأتراك.

 
خامسا: الدبلوماسية المتناغمة،  بالتدخل فى جهود المساعى الحميدة بين الدول المتنازعة وسياسة المؤتمرات والمنظمات الدولية والإقليمية والثنائية مثل استضافتها قمة الناتو، وقمة منظمة المؤتمر الاسلامى فضلا عن استضافتها معظم المنتديات الدولية ومشاركتها فى منظمات اقليمية مثل الإتحاد الأفريقى وجامعة الدول العربية، إذ  وقعت تركيا مع جامعة الدول العربية على اتفاقية خاصة فى عام 2007، وتأسيس المنتدى التركى – العربي، وكذلك عبر المشاركة بفاعلية فى جهود الإغاثة فى الكوارث الطبيعية والإنسانية.
سادسًا: القوة الناعمة حيث تقدم تركيا نفسها للعالم من خلال صورة ذهنية وردية عبر الدراما التركية  تخاطب بها ود الشعوب وخاصة فى منطقة الشرق الأوسط وهى هنا تغازل المواطن الخليجى كسائح ومستثمر فى تركيا
وفى هذا الإطار تشير الدراسة إلى أن تركيا تركز دومًا على ترويج  صورة ما يطلق عليه  «النموذج التركي» للديمقراطية، استنادا إلى حزب العدالة والتنمية الإسلام «المعتدل»، حيث يروج الإعلام فى تركيا إلى هذا النموذج فى مواجهة التشدد الدينى فى بعض الدول العربية والإسلامية، وأساس ذلك النموذج أنه يتوائم ويتكيف مع  التطورات الاجتماعية والاقتصادية وتطبيق المبدأ فصل الدين عن الدولة» العلمانية» وتطبيق الليبرالية  مع وجود رجال أعمال الأناضول المحافظين  فى انسجام تام.
ولقد طالب الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الابن بتطبيق «النموذج التركى» فى أعقاب  هجمات 11 سبتمبر 2001، مشيرًا إلى أنه يجمع بين التقاليد الإسلامية المستمدة من الصوفية والنظام العلمانى ويعد أفضل الأمثلة على التعايش بين الحداثة والإسلام.
عودة الطربوش لعباءة واشنطن
وبالنسبة لعلاقة تركيا مع الغرب خاصة أمريكا، يذكر تقرير بعنوان «أساس سياسة تركيا الخارجية»  أعده الباحث سونر جاجابتاى لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أن الأحداث المتسارعة فى العالم العربى تجبر تركيا على الدوران للخلف والعودة لمحور مهم لها وهو الغرب خاصة فيما يتعلق بملف الشرق الأوسط وأحداث سوريا وتوابعها العسكرية وعلاقتها بإيران، ولعل ذلك هو ما دفعها الانضمام إلى مشروع الدفاع الصاروخى لحلف «الناتو» فى سبتمبر عام 2011.
 وينتقد جاجابتاى الذى يشغل منصب مدير برنامج الأبحاث التركية فى المعهد توجه تركيا السابق نحو الانكفاء على هويتها الإسلامية الشرقية و أنها جزء من قارة آسيا  فى مواجهة الغرب وهو مالجأت إليه فى السنوات الماضية مع استمرار رفض الإتحاد الأوروبى عضويتها فيه، وهو ما أدى لعواقب وخيمة أبرزها فتور علاقتها بواشنطن.
وهذا ما يجعل قرار أنقرة بالانضمام الى نظام الدفاع الصاروخى أهم خطوة فى السياسة الخارجية التركية اتخذتها حكومة أنقرة فى العقد الأخير. ويعنى ذلك أن تركيا عادت لتؤكد أن علاقاتها مع الغرب هو محور سياستها، وأن حلف الناتو يجعل منها قوة إقليمية فى منطقة تموج بالصراع.
وبالنسبة للسعودية وغيرها من الدول العربية فى الشرق الأوسط، لم تعد تركيا «اليمن الثري» بل تركيا القوية التى سعت أنقرة لتشكيلها لنفسها عندما بدأت سياستها الشرق أوسطية قبل عقد من الزمن، فى إشارة منه إلى صورة لاذهنية السابقة لتركيا كدولة حدودية على الهامش
ويشير جاجابتاى إلى إن عوامل شخصية اضافية تتمثل فى العلاقة الوثيقة التى نشأت بين الرئيس الأمريكى أوباما ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ساعدت على عودة تركيا للغرب.
سوريا .. انهيار رمانة الميزان
تقوم السياسة الخارجية التركية فى الشرق الأوسط على ركائز عدة يمكن تلخيصها فى تصفير النزاعات» المعادلة الصفرية لاغالب ولا مغلوب « التعايش السلمى  الاقتصاد الأمن
وشهدت السياسة الخارجية التركّية تحولاً كبيراً وسريعاً عندما تبنى القادة الأتراك  رؤية أحمد داوود أوغلو منذ كان  مستشارًا لأردوغان التى أعاد فيها صياغة دور تركيا ومكانتها فى خريطة العالم السياسية ، لاسيما فى المنطقة التى أطلق عليها «فى مفهوم العمق الاستراتيجى».
وكان مبدأ «تصفير النزاعات» أهم الملامح والأدوات لتنفيذ رؤية داود أوغلو، التى أحدثت انقلابًا جذريًا فى  السياسات التقليدية  لتركيا،
وانعكس تأثيرها على العلاقة بين تركيا و سوريا وتحولت من حالة العداء التقليدية إلى علاقة استراتيجية، وتمّ حلّ العديد من المشاكل العالقة بين البلدين خاصة الحدودية ودعم دمشق لحزب العمال الكردستانى.
 وقد شهدت العلاقة بين أنقرة ودمشق خلال فترة زمنية قصيرة – عشر سنوات – تطورات دراماتيكية،  فى البداية كان التوافق بين أردوغان والأسد من أبرز مآثر حزب العدالة والتنمية التركى الحاكم منذ صعوده لسدة الحكم منذ عشر سنوات ومن ثمار سياسة» تصفير النزاعات» مع جيرانها، وتم القضاء على نذر النزاع المسلح بين البلدين الذى هددهما عام 1998.
ووصل منحنى العلاقة بينهما لذروته مع توقيعهما إتفاقًا تاريخيًا العام نفسه لتحييد مشكلة الأكراد بينهما بوقف احتضان سوريا لحزب العمال الكردستانى.
وارتفع التقارب بينهما بسبب الصداقة الشخصية بين الأسد وأردوغان وزوجتيهما «أسماء» و«خير النساء» رغم تحفظات أمريكا الشديد باعتبار أن سوريا كانت من الدول التى ينظر إليها فى الولايات المتحدة أثناء فترة حكم الرئيس السابق جورج بوش على أنها جزء من «محور الشر» الذى ضم إيران وكوريا الشمالية والعراق.
ووصل التكامل بين أنقرة ودمشق لمرحلة فعالة بإجراء مناورات عسكرية مشتركة وإنشاء مجلس تعاون بين البلدين يتناوب على رئاسته عبدالله جول وبشار الأسد، وتوالت الاتفاقات التجارية والاقتصادية والثقافية بينهما وكان البلدان يستهدفان رفع حجم التبادل التجارى بينهما إلى خمسة مليارات قبل نشوب الانتقاضة السورية.
وكانت أهداف تركيا من سياسة التقارب مع سوريا تتجاوز المستقبل الطريق وتنظر لآفاق أرحب لتشمل التقارب مع منطقة الشام بأكملها بإنشاء اتحاد يضم الأردن ولبنان وسوريا.
أى كان القادة الأتراك يعتبرون سوريا «رمانة الميزان» لتحقيق طموحاتهم الاستراتيجية فى الشرق الأوسط والعالم العربى.
إلا إن ثورات الربيع العربى وامتدادها لسوريا، التى كانت قيادتها السياسية  تؤكد أن سوريا حالة خاصة لا تقارن بمصر لن يثور فيه الشعب ضدهم لقيامها بدور «جبهة الرفض» فى المنطقة ضد الغرب واسرائيل ولتمتعها بالاستقرار السياسى، خلق حالة من الفوضى فى سياسة «تصفير النزاعات» والتقارب مع دمشق وتحديات أمام مهندسى السياسة التركية الجديدة.
واصبحت العلاقات التركية – السورية الآن  اقسى صور الازدواجية والقطبية مابين التقارب والتكامل إلى النفور والعداء بل والدخول فى سلسلة من الاعتداءات العسكرية بين البلدين.. حتى صار العالم يحبس أنفاسه من نشوب حرب فى المنطقة تبدأ بضرب تركيا لدمشق ودخول حلف شمال الأطلنطى «الناتو» بثقله وعتاده من الأساطيل وحاملات الطائرات الأمريكية للدفاع عن تركيا وفقًا لميثاق الحلف بالدفاع عن الدول الأعضاء.
نمور الأناضول.. العثمانيون الجدد
واستندت تركيا على ما يسمى بسياسة «القفاز الناعم» فى المنطقة العربية  بهدف  ربط الشعوب العربية بالثقافة التركية والاقتصاد التركى من خلال المسلسلات التركية المدبلجة ونشاط المراكز الثقافية التركية بالدول العربية.
تهدف إلى حفر صورة تركيا كأنها واحة الأمان والجنة المنشودة فى المنطقة تستقطب السياحة الخليجية والاستثمارات العربية، وفى هذا الإطار يعتبر كثيرًا من المراقبين أن تركيا تسعى لإعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية وجعل الشعوب العربية تشعر بالحنين  لعالم السلاطنة العثمانيين
وتخلص الورقة البحثية إلى أن جزءا هامًا من عقيدة العمق الاستراتيجى فى خطاب الدبلوماسية التركية الجديدة لترسيخ شرعية  حزب العدالة والتنمية فى الحكم ، هو إعادة احياء الامبراطورية  العثمانية فى منطقة الشرق الأوسط ومنطقة البلقان  بصورة تجب السلبيات التاريخية الراسخة فى وجدان الشعوب العربية عنها خاصة أن قادة  حزب العدالة والتنمية، هم امتداد لحزب «الرفاه» الإسلامى الذى يقوم على  فكرة الحنين للدولة العثمانية والعثمانيين باعتبارهم أسياد الأمة والمنطقة بحسب الدراسة.
وهذا التوجه نحو العثمانية الجديدة هو انعكاس لتحول اجتماعى عميق وروح العصر من تغيير تركيبة النخبة التركية والمجتمع، لتصبح العثمانية الجديدة هى أيديولوجية النخبة التركية الجديدة، التى بدأت فى تشكيل وسط الأناضول فى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى.
ونشأت هذه المجموعة من النخبة أساسا من ممثلى الطبقة المحافظة والدينية من سكان الحضر وسكان الريف المهاجرين ونتيجة لذلك الحراك الاجتماعى لأعلى، مدعومًا بالإصلاح الاقتصادى الذى بدأه رئيس الوزراء الأسبق  تورجت أوزال الذى جذب سكان الريف للهجرة للمدن خاصة اسطنبول  مما أدى إلى صعود  الطبقة الوسطى، او ما يطلق عليهم نمور الأناضول المكونة من رجال الأعمال المشهورين الذين تميزوا بالمحافظة من الناحية الدينية.
وتشير الدراسة إلى أن نمور الأناضول قدموا أنفسهم فى مسارهم العملى فى صورة الملتزمين أخلاقيًا والتاجر المسلم بالتسلح دوما باقتباسات من القرأن الكريم  والأحاديث النبوية وأن الإسلام يدعو للتقدم والنمو، ولعل أقوى الأمثلة على تأثير ذلك النهج ارتقاع سكان منطقة «قيسرية» معقل «نمور الأناضول» بتركيا عشر مرات خلال خمسين عامًا من 65 ألف نسمة إلى 600 ألف.
«فوبيا» أكراد سوريا
ويتصاعد قلق تركيا من تأثير أكراد سوريا على أمنها واستخدام الأكراد كورقة «ضغط» تستخدم فى المساومات جيوبوليتيكية عند رسم خريطة المنطقة مع سقوط نظام الأسد والفراغ السياسى الذى ينجم عنه  فى البلاد.
وقد حبست أنقرة أنفاسها مع قيام النظام السورى مؤخرًا بالانسحاب من مناطق الأكراد فى شمال شرق سوريا وشمال غربها وقام حزب الاتحاد الديمقراطى الكردستانى ببسط نفوذه عليها.
قد يكون هناك تضخيم دعائى فى أنقرة لهاجس الأكراد إلا أن كثيرًا من التطورات والشواهد تدق نواقيس الخطر أمام قادة تركيا.
فالأكراد يطالبون بإنشاء وطن قومى لهم يضم أبناء قوميتهم المنتشرون فى تركيا والعراق وسوريا وإيران أو تحقيق أى شكل من أشكال الحكم الذاتى أو الاستقلال فى سوريا  وتخشى أيضاً من عودة دعم النظام الجديد فى دمشق لحزب العمال الكردستانى فى نقض خطير لاتفاق أضنة الموقّع فى أكتوبر1998 الذى أنهى ملفّ احتضان سوريا لحزب العمّال الكردستاني.
الحرب الباردة (التركية – الإيرانية)
أو مايطلق عليه صراع العثمانيين الجدد فى مواجهة الدولة الفارسية على رقعة شطرنج المنطقة، وقد أدت الانتفاضة فى سوريا لتعميق جذور التنافس التقليدى بين تركيا وإيران كخصمان إقليميين أحداهما سنى والأخر شيعى: فتركيا تدعم المعارضة السورية، وإيران تقوم بتسليح نظام الأسد. وخلال الألفية الحالية، اقتربت تركيا من طهران من أجل إقامة علاقات جيدة، ولكن إيران فى هذه الأيام  تعتبر تركيا دولة منافسة وزاد من ذلك توجه الأتراك نحو الولايات المتحدة وحلف الناتو.
وأيضاً يدخل فى إطار ذلك الحرب الباردة بين تركيا وإيران خاصة مع شك الأتراك أن النظام فى طهران  يدعم الهجمات التى يشنها حزب العمال الكردستانى فى تركيا  ووصلت الأمور مداها مع تلميح حزب العمال الكردستانى بإنشاء تحالف بين أكراد سوريا وبين إيران فى حال سقوط نظام الأسد وقدوم نظام جديد لايرتبط بعلاقات طيبة مع إيران.
ويخشى الأتراك أن يمنح ذلك التحالف لطهران موقعًا ومكانةً فى خريطة سوريا ما بعد الأسد وفى المقابل تؤيد وتدعم طهران للأكراد  مطالب الأكراد بالانفصال، خاصة مع دخول قادة كردستان العراق فى صورة المشهد السياسى ومطالبتهم بتوحيد أكراد المنطقة.
مما يتوجب معه على صناع السياسة الخارجية فى أنقرة الحيلولة دون وجود فراغ فى السلطة فى سوريا بأى حال من الأحوال ولعل ذلك ما يفسر أسباب احتضان تركيا لمؤتمرات المعارضة السورية وأصدقاء سوريا فى مدينة أسطنبول على أمل أن تحتفظ بخيوط اللعبة وأرواقها فى يديها.