السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«المحروسة» فى عيون الرحالة والمستشرقين

«المحروسة» فى عيون الرحالة والمستشرقين
«المحروسة» فى عيون الرحالة والمستشرقين




شهر رمضان الكريم له حالة روحانية فريدة يعيشها المصريين راسخة فى وجدانهم وذكرياتهم، سواء المقيمين على أرض المحروسة أو المغتربين عنها.
ويحتل هذا الشهر الكريم مكانة خاصة لدى جموع الشعب بمختلف طبقاته على مر العصور، حيث تقام فيه الاحتفالات والشعائر الدينية بكافة أشكالها وتنوعها، وعلى مر التاريخ كان هناك مزيج فريد بين مظاهر البذخ الجم و إقامة الشعائر الدينية تقربًا إلى الله خلال هذه الأيام الفضيلة.

ولقد اهتم الرحالة والمستشرقون العرب والأجانب برسم صور احتفالات المصريين من خلال مشاهداتهم للعادات الفريدة التى يقيمها الشعب المصرى خاصة دون غيره من الشعوب العربية أو الإسلامية، وقد سجلوا هذه المشاهد فى عدة كتب وأطروحات عكست العادات التراثية للشعب المصرى الذى مازال بعضها حيًا حتى وقتنا الحالى بالرغم من دخول العديد من الثقافات المختلفة على مجتمعنا.
من أهم الرحالة والمستشرقين العرب الذين تحدثوا عن رمضان فى المحروسة الرحالة أبوعبدالله محمد بن إبراهيم اللواتي، الشهير بـ«ابن بطوطة» فى كتبه، حيث قال إن ثانى شهر رمضان يهل عليه أثناء رحلته للحج كان وهو فى مدينة «أبيار» فى دلتا مصر، حيث حضر مع قاضى المدينة «عز الدين المليحى الشافعي» يوم رؤية هلال رمضان، ثم رسم ابن بطوطة صورة عن تقاليد الاحتفال بهلال رمضان فى مصر، وقال: إنه يجتمع الفقهاء وكبار الأهالى بعد عصر يوم 29 شعبان فى دار القاضى ومنها إلى مكان مرتفع فى خارج المدينة فى موكب ضخم يحفه النساء والصبيان لرؤية هلال الشهر الكريم.
ثم يأتى غيره من الرحالة العرب منهم ابن الحاج، وابن جبير، وناصر خسرو، وغيرهم، الذين عبروا بأن رمضان فى المحروسة يختلف بشكل كبير عن أى مكان فى الدول العربية.
أما الرحالة الأجانب ممن زاروا المحروسة عبر العصور الوسطى فكان لهم نظرة خاصة عكست ثقافتهم الغربية التى امتزجت بالدهشة لاعتبارات الاغتراب الدينى والثقافي، فاجتهدوا فى رسم صورة للقارئ الأوروبى لشهر الصيام رغم حاجز الفروق اللغوية وجهل بعض الأحداث فى سياقاتها الإسلامية، وكانت هذه النظرة مزيجا بين الدهشة والاستغراب من عادات الشعب المصرى بدءًا من استطلاع رؤية الهلال ومرورًا بالمسحراتى وعادات العشر الأواخر من أيام الشهر الكريم، حيث جاءت كتاباتهم حافلة بقصص ولوحات تاريخية نابضة بالحياة غلب عليها طابع الدقة والطرافة والوصف فى ذات الوقت.
وفيما يلى نستعرض أهم هذه اللواحات الإبداعية لأهم المستشرقين الأجانب أثناء رحلاتهم لرؤية «رمضان المحروسة»:

«ليلة الرؤية»
من أهم الرحالة والمستشرقين الذين رصدوا عادات المصريين فى الشهر الكريم كان المستشرق الإنجليزى «إدوارد وليم لين» والذى زار مصر وأقام بها لعدة أعوام  وقال فى كتابه (أخلاق المصريين المعاصرين وعاداتهم) الذى نشر عام 1836،  حيث وصف يوم رؤية هلال رمضان وقال: «الليلة التى يتوقع أن تكون صبيحتها صيام، تسمى ليلة الرؤية، فيُرسل عدد من الأشخاص الثُقَاة إلى مسافة عدة أميال فى الصحراء حيث يصفو الجو، ليروا هلال رمضان، بينما يبدأ من القلعة موكب الرؤية، الذى يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف، والطحانين والخبازين والجزارين والزياتين والفكهانية، تحيط بهم فرق الإنشاد ودراويش الصوفية، وتتقدم الموكب فرقة من الجنود، ويمضى الموكب حتى ساحة بيت القاضي، ويمكثون بانتظار من ذهبوا لرؤية الهلال، وعندما يصل نبأ ثبوت رؤية هلال رمضان، يتبادل الجميع التهانى ثم يمضى المحتسب وجماعته إلى القلعة بينما يتفرق الجنود إلى مجموعات، يحيط بهم  المشاعلية والدراويش، يطوفون بأحياء القاهرة وهم يصيحون : «يا أمة خير الأنام .. صيام .. صيام»، أما إذا لم تثبت الرؤية فى تلك الليلة، يكون النداء: «غدا متمم لشهر شعبان .. فطار .. فطار».
كما عرض العالم الفرنسى آدم- فرانسوا جومار فى دراسته بعنوان «وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل» التى كانت ضمن مجموعة دراسات موسوعة «وصف مصر»، التى قدمها عدد من علماء الحملة الفرنسية فى الفترة بين 1798-1801.
وقال جومار فيها: «يبدأ شهر رمضان مع ميلاد هلال هذا الشهر، ويعلن عن ذلك موكب احتفالى يسبق بداية الشهر بيومين، ويتكون هذا الموكب من حشد من الرجال يحمل بعضهم مشاعل، وبعضهم يحمل عصيا، ويقومون بأداء حركات مختلفة بها. ويفتتح سير الموكب عازفون يمتطون ظهور الجمال ويضربون على طبل معدنية، بينما يمتطى عازفون آخرون ظهور الحمير ويضربون كذلك على طبل أو يعزفون على بعض آلات النفخ الأكثر صخبا».
وقال ألبرت فارمان، وهو قنصل الولايات المتحدة الأمريكية  فى القاهرة خلال الفترة بين 1876-1881، حيث رصد فارمان فى كتاباته عن عادات المصريين فى احتفالات رمضان وقال: « يذكر أن رؤية الهلال تبدأ بخروج الرجال إلى التلال العالية خلف القلعة، وفور ثبوته يعودون بالبشرى، ولا بد من إثبات ذلك كتابةً، وفور ذلك تسير المواكب الرسمية والشعبية المبتهجة فى أرجاء العاصمة القاهرة، معلنةً بدء صيام رمضان».

«فانوس» و«مدفع»
اشتهرت المحروسة بعادة إشعال الفوانيس فى شهر رمضان، وترجع الشوهد التاريخية إلى أن هذه العادة ظهرت فى عهد الفاطميين، لكن الروايات اختلفت فى أول من ابتدعه، وقد ظهرت هذه العادة فى أغلب قصص وروايات المستشرقين والرحالة تعبيرًا عن قدوم شهر رمضان، خاصة عند الأطفال الذين كانوا على اتصال بها منذ الفاطميين، إذ اعتاد الأطفال على الذهاب فى الأزقة حاملين الفوانيس ويطلبون الهدايا من أنواع الحلوى التى ابتدعها الفاطميون.
أما مدفع الإفطار، فقد ظهر فى عهد المماليك، وتعددت الروايات فى أول من استحدثه، وورد فى رواية طريفة بأن ظهور المدفع جاء عن طريق المصادفة، فلم تكن هناك نية مبيتة لاستخدامه لهذا الغرض على الإطلاق، حيث كان بعض الجنود فى عهد الخديو إسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة دوت فى سماء القاهرة، وتصادف أن كان ذلك وقت أذان المغرب فى أحد أيام رمضان، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدا جديدا للإعلان عن موعد الإفطار، وصاروا يتحدثون بذلك، ثم أُصدر فرمان يفيد باستخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفى الأعياد الرسمية.

عادات المصريين فى شهر الصوم
قال الرحالة الإيطالى «فيلكس فابري» الذى زار القاهرة عام 1483، حيث كانت أول ليلة له فى العاصمة خلال شهر رمضان، وكان أكثر ما أثير اندهاش فابرى كثرة الأنوار والمشاعل والفوانيس، التى يحملها الكبار والصغار، وشاهد المسحراتى فاعتقد أنه من رجال الدين، وكان يمر ثلاث مرات فى الشوارع ليلاً، ومعه طبلة يدق عليها منادياً الناس بأسمائهم.
أما الرحالة الفرنسى «جاك دو فيلامون»  الذى زار مصر عام 1589م، وسجل فى كتابه «رحلات السير دوفيلامون» المنشور عام 1589،  قال أنه استأجر غرفة فى شارع رئيسي، ليتابع احتفاليات رمضان، ووصف مواكب دراويش الصوفية وحلقات الذكر، والمساجد المضاءة وزحام الأسواق، ومآدب الإفطار التى يدعى إليها الأصدقاء ووصف المصريين بالكرم، وقال عن المصريين إن: «لديهم عادة جميلة، إذ يجلسون على الأرض ويأكلون فى فناء مكشوف أو أمام بيوتهم، ويدعون المارة إلى الطعام فى صدق وحرارة».
كذلك قال فرنسوا جومار،  فى دراسته «وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل»، التى عرضناها سابقًا، وقال عن عادات الشعب المصرى: «تحيا الأعياد الدينية فى القاهرة ببذخ شديد، فالناس جميعاً يعلمون أن رمضان شهر الصوم، فيمتنعون عن الطعام والشراب والتدخين والاستمتاع بأية تسلية بين شروق الشمس وغروبها، ولكن هذا الحرمان، الذى يطول أو يقصر حسب الفصل، يتبعه استمتاع كاف لنسيان هذا الحرمان، ويحتفى المسلمون بليالى رمضان، بينما يحضرون خلال النهار، فى جماعات كبيرة، وبورعٍ شديد، دروس الفقه بالمساجد. ومنهم من يتشاغل بالعمل وفى الغالب بالنوم! وفى المساء، تبدو الشوارع مضاءة صاخبة، وتظل الأسواق والمقاهى مفتوحة حتى أذان الفجر».
كذلك أوضح الفرنسى دو شابرول فى دراسته بعنوان «دراسة فى عادات وتقاليد سكان مصر المحدثين» التى ضمن دراسات كتاب «وصف مصر» عن كيفية قضاء فئات المصريين نهار رمضان وتعاملهم مع فترة الصيام الشاقة قائلا: «يسعى كل امرء فى النهار قدر طاقته كى ينهى عمله فى أسرع وقت، ليخصص بضع ساعات للنوم، فترى الفلاح راقدا تحت نخلة بعد أن أنهى فى فترة الصباح عمله، وترى التاجر يرقد فى دكانه، والعامة ممدين فى الشوارع بجوار جدران مساكنهم، بينما الغنى راقدا بالمثل، نعسان ينتظر على أريكته الفاخرة الفترة التى تسبق غروب الشمس، وأخيرا تأتى الساعة التى طال انتظارها، فينهضون على عجل ويهرع كل امرء للحصول على مكانه».
ويضيف دو شابرول : «تتجمع النساء فى شرفات منازلهن لرؤية غروب الشمس... وتعلن الأغنيات حلول وقت المسرات ووقت الطعام، وتدوى كل المساجد بأصوات المؤذنين الجادة تنادى الناس للصلاة، وتحدث همهة واضطراب عام، فيتفرق الناس على الفور، وتنفض الجماعات ويتبعثر الجمع إما إلى المقاهى وإما إلى البيوت والمساجد والميادين العامة، ويأكل كل امرء بشراهة».
وعن تناقض عادات المصريين فى هذا الشهر يرصد دو شابرول تضاربا يراه غريبا يبرزه قائلا إن : «شهر رمضان هو أهم الأوقات التى ينغمس فيها المصريون فى المسرات ومختلف ضروب اللهو، فهو شهر صيام وشهر مهرجانات. وقد يبدو من الغريب أن يختاروا (أى المصريون) مثل هذا التوقيت للقيام بممارسات متناقضة: التوبة وتطهير النفس من ناحية، وممارسة الملذات من ناحية أخرى».

«المسحراتى»
وتتميز مصر عن غيرها من الدول الإسلامية بمهنة «المسحراتي» هذا الرجل الذى يظهر خلال شهر رمضان فقط، ليتولى إيقاظ الناس من النوم لتناول وجبة السحور قبل صلاة الفجر استعدادا ليوم صيام جديد.
وقال العالم الفرنسى جيوم أندريه فيوتو فى دراسة بالغة الأهمية تناول فيها بالفحص الدقيق «الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين»، والمنشورة ضمن دراسات «وصف مصر» تعريفا بالغ الدقة لهذه المهنة وقال: «هم نفر لا يسمع الناس غناءهم إلا خلال شهر رمضان، ويسمون بالمسحّرين، ويوصف بهذا الاسم أولئك الذين يعلنون كل يوم طيلة شهر رمضان، عن اللحظة التى يوشك فيها نور النهار الجديد أن ينبلج من ظلام اليوم المنصرم، وهى تسمى فى اللغة العربية بوقت السحور، وهى أيضا الفترة التى ينبغى أن تتم فيها آخر وجبات الليل، لذلك يطلق على هذه الوجبة (السحور) وبعد انتهاء الوجبة لا يسمح للمسلمين أن يشربوا ولا أن يأكلوا، حتى مغرب الشمس، وهم ملزمون بمراعاة هذه الفترة بعفة صارمة».
كما وصف الأب فليكس فابري، الذى قدم إلى مصر فى رحلة عام 1483 وقدم شهادة تفصيلية فى دراسة بعنوان «الرحلة فى مصر»، ترجمها إلى اللغة الفرنسية جاك ماسون نقلا عن الأصل الذى كتبه فابرى باللغة اللاتينية.
ووصف الأب فابرى «المسحراتي» وقال:  ذلك الرجل الذى يمر ليلا فى الشوارع ثلاث مرات يدق على طبلة وينادى على الناس كل واحد باسمه».
أما أندريه فيوتو  فيقول عن «المسحراتي»:  أنه «لا يجوب أى من المسحرين سوى الشوارع الداخلة فى نطاق حيه هو، ولذلك فلكى يسمح له بالقيام بهذه المهمة، فإنه ملزم بدفع رسوم (إتاوة) إلى الشخصية المنوطة بحراسة الحي... وبعد أن يتلو المسحّر بعض الأدعية الدينية، يبدأ بإنشاد بعض الأشعار، ويقص حكايات شعرية، ويتمنى أمنيات سعيدة لرب البيت، مستصحبا فى ذلك كله طبلته الصغيرة، التى يدقها على شكل فاصلات تتكون الواحدة منها من أربع دقات متعاقبة».
أما وليام لين فقد تفرد فى تقديم مشهد نسائى لم يتحدث عنه الفرنسيون، وقال: «تضع المرأة فى العديد من منازل الطبقة المتوسطة فى القاهرة قطعة معدنية صغيرة (أو خمس فضات أو قرشا أو أكثر) فى قطعة من الورق، ويقذفونها من النافذة إلى المسحّر بعد أن تكون أضرمت النار فى الورقة حتى يرى مكان سقوطها. فيتلو المسحّر حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة الفاتحة، وقصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها كقصة (الضرتّين) وشجارهما. وتبعد بعض قصصه عن باب اللياقة والاحتشام، ومع ذلك تسمعها النساء القاطنات فى المنازل ذات السمعة الطيبة».