الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الطـوق الأسورة موت طويل وإحياء لتراث ثقيل

الطـوق الأسورة موت طويل وإحياء لتراث ثقيل
الطـوق الأسورة موت طويل وإحياء لتراث ثقيل




نبدأ من حيث انتهى العرض «الطوق والأسورة» الرواية الأشهر للأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله والتى أعدها مسرحيا الدكتور سامح مهران وأخرجها ناصر عبد المنعم المعجون بعشق الجنوب، لم يتناول مهران رواية الطوق والأسورة كما كتبها الطاهر عبد الله بتفاصيلها المعروفة بينما أراد إضفاء المزيد من فكره ورؤيته للمستقبل اليوم بجانب فكر صاحبها، فى هذه الرواية استعراض ونقد صريح للتراث الصعيدى من عادات وتقاليد  مثل اتباع وتصديق الخرافة التى يتبعها هذا المجتمع على وجه التحديد الذى تحكمه حبال الطوق الملتف حول رقاب قاطنيه والأسورة التى ادمت معصم المستمسكين بهذه الأطواق المقيدة لحركة الحياة.

 فى هذا العمل تتوقف الحياة عن حركتها الطبيعية بالموت الذى يكون حكما أكيدا على ابطاله لكن كما ذكرنا سوف نبدأ من حيث انتهى العرض ففى العرض المسرحى رؤية أخرى مغايرة للفيلم السينمائى والرواية، حيث رأى الإعداد المستقبل من زواية أخرى وبرؤية أكثر معاصرة فى حين أن العمل يتناول بيئة صعيدية مكتملة الأركان، لكن جاءت المعاصرة هنا من خلال مصير الفتاة الصغيرة حورية التى يشتبك الجميع فى عراك على امتلاكها وهى تقفز لاهية فوق هذا الاشتباك فى سخرية واستهزاء مستتر من حمية وجهالة هؤلاء فى مشهد بديع لطفلة صغيرة تقفز بعروستها بعيدا غير مكترثة أو عابئة بهذا الشجار العنيف الذى احتدم بين والدها وخالها والشيخ الفاضل الكل يختصم لتحمل مسئولية مستقبلها المبهم لكن بقفزتها نستطيع قراءة إحتمالية تجاوزها لزمن الخرافة ورحيلها بعيدا عن الجميع بمعنى آخر أن المستقبل سيمضى ويأخذ حقه من الحياة غير عابىء بسطوتهم الجاهلية ففى هذا العمل حرب بين زمانين الماضى بعقده وخرافاته ودجله الذى تتبعه حزينة وابنتها بعد أن علمت عجز الحداد زوجها عن الإنجاب لجأت إلى الشيخ العليمى كى يفك لها السحر الذى ظنت أن أخت الزوج الحدادة دبرته له كى تحرم ابنتها فهيمة من الإنجاب منه ثم تلجأ للمعبد وتتوهم فهيمة أن كهنة المعبد استطاعوا إعانتها على الإنجاب من زوجها دون أن ترتكب الخطيئة، لكنها تظل فى حالة من الشك والريبة.
توليفة من الجهل وتقديس الخرافة الذى تعيش فيه هذه المجتمعات النائية قدمها وعرضها المخرج والكاتب للنقد والمسألة، فى عمل مسرحى غير تقليدى يحمل قدرا كبيرا من البساطة والرقى وعمق الفكر والمضمون قدم المخرج ناصر عبد المنعم عرضه «الطوق والأسورة»، فما زال هذا العرض قادرا على النجاح والوهج رغم ما حمله من شكل فنى تراثى لأهل الصعيد ومحافظة الأقصر على وجه التحديد ولما حمله من فكر أيضا يناقض الرواية والعمل السينمائى بل هو يطرح على الوسيطين الأدبى والسينمائى شكل وحل آخر ربما يناسب إعادة تقديم الرواية فى قالب مسرحى عام 2019.
استغرق العرض ساعة ولم يزد فى ايقاع سريع ومكثف ومختزل لأحداث الرواية التى لم يتطرق المخرج والكاتب إلى تفاصيلها بينما اتخذ الاثنان ما أرادا قوله منها، وبين استعراض عادات الصعيد من العديد اتقنت إلقاءه ببراعة الفنانة فاطمة محمد على وزيارات للمعبد وطلوع الجبل لمشايخ الدجل والأسحار والنميمة التى تدور بين أهل هذه البلدة حول أخبار سكانها والتى مثلها فى خطين متوازيين ثلاثة رجال وثلاث نساء ثم الغناء النوبى الذى كان يقتطع أحداث العرض قدم المخرج ناصر عبد المنعم حالة من المعالجة التراثية تمكن بالديكور وحركة الممثلين وتقسيم خشبة المسرح الذى انقسم إلى يمين ويسار على الخشبة جلس الجمهور بين الممثلين وكأنهم داخل المعبد يعيشون او يتشاركون فى أحداثه مزج فنى بديع اتقنه المخرج بحرفية كبيرة ساهمت فى إطلاعنا على جزء كبير من عادات الخرافة والتراث بمجتمعات الصعيد والتى لاتزال موجودة حتى اليوم بالقرى والنجوع، وكعهده يحاكى عبد المنعم التراث بعناصره الشكلية والمرئية بالملابس والديكور بينما يطرح علينا كاتبه رؤيته المعاصرة المغايرة لما ينتقده من مضمون.
فى «الطوق والأسورة» تكشف الفنانة فاطمة محمد على عن موهبة تمثيلية كبيرة كانت مختزنة لسنوات وآن لها الظهور اليوم على خشبة المسرح فعندما تعتلى الخشبة فى دور حزينة سشاهد هذه المطربة المرحة ذات الصوت البديع وقد تبدلت ملامحها ونزعت مساحيقها التجميلية وارتدت ثياباً سوداء كئيبة بالية ثم انحنت بظهرها لتصبح حزينة الشكل والمضمون تمكن وحرفة وتجسيد لإمرأة صعيدية حقيقية فى المشية واتقان اللهجة والعديد وجلستها وهى تطحن القمح تبدو كامرأة أهلكتها الهموم وتجمعت عليها الأحزان حتى لقبت بـ«حزينة» ابدعت فاطمة محمد على فى تأدية دورها وكأن هذه الشخصية كتبت من أجلها، وكذلك تميزت مارتينا عادل فى أداء شخصية فهيمة ببساطتها وجاهلتها وانسياقها وراء الخرافات وعدم قدرتها على اتخاذ قرار يحميها جسدت مارتينا دور فهمية ببساطة وخفة روح وحركة فلم تثقل على المشاهد رغم حمولها الثقيلة، وكانت مفاجأة العرض مجموعة الفتيات ريم على وفرح عنانى وسلمى عمر أضفى هؤلاء الثلاث حالة من الانطلاق والبهجة على عمل ربما يحمل الكثير من القتامة وساهموا فى شد ايقاع العرض بل وجذب الجمهور لشدة الحيوية والإنطلاق ولعبوا بالتوازى مع مجموعة الرجال شريف القزاز واشرف شكرى وشبراوى محمد، اكتملت هذه المباراة الفنية بأداء الرجال نائل على فى دور الحداد الحائر العاجز، والشيخ الفاضل محمد حسيب وأحمد طارق فى دور مصطفى وعبد الحكم ومحمود الزيات فى دور البشارى الذى لم يستمر طويلا لكن كانت له بصمة كبيرة فى مشاهده الأولى بالعرض ففى دقائق قليلة جسد وتجسدت فيه شخصية الرجل الهزيل المريض المشرف على الموت، وبالطبع كان للطفلة غنا رضا حضور كبير ايضا فى آخر مشهد بجانب متعة صوت وغناء المطرب كرم مراد فى المقاطع الغنائية التى ساهمت بشكل كبير فى إضفاء متعة لمواصلة مشاهدة حياة هؤلاء البؤساء، ففى «الطوق والأسورة» موت طويل وإحياء لتراث ثقيل.