الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الناقد والأكاديمى الأردنى غسان عبد الخالق: استعجال الشهرة وبريق الجوائز آفة المبدعين العرب

الناقد والأكاديمى الأردنى غسان عبد الخالق: استعجال الشهرة وبريق الجوائز آفة المبدعين العرب
الناقد والأكاديمى الأردنى غسان عبد الخالق: استعجال الشهرة وبريق الجوائز آفة المبدعين العرب




الدكتور غسان عبد الخالق قاص وناقد وأكاديمى أردنى حيث يشغل منصب عميد كلية الآداب والفنون فى جامعة فيلادلفيا الأردنية، من مواليد مدينة الزرقة الأردنية عام 1962، ولكن يغلب عليه صفة الناقد لغزارة مؤلفاته النقدية، منها: مفهوم الأدب فى الخطاب الخلدوني، جهة خامسة.. دراسة عن أدب نجيب محفوظ، حنين مؤجل.. دراسة وحوارات مع إحسان عباس، الصوت والصدى.. مراجعة تطبيقية فى أدب الاستشراق، الرمز والدلالة .. دراسات تطبيقية فى الشعر العربي.بساط الريح.. دراسة تطبيقية فى أدب الرحلات، وغيرها، ومن مجموعاته القصصية: نقوش البياض، وليالى شهريار.وفى الراواية: ما تيسر من سيرته، وهو واحد من الذين خبروا أسرار السرد العربى، من خلال مواكبة المنجز العربى بالكتابة النقدية، والعبور بها إلى لغات أخرى، شعرية لغته النقدية تخطت الحدود الوهمية بين الشعرى والنقدي، وعبرت جغرافيات متعددة.. حول نشأته وأهم المطبات فى حياته تحاورنا معه.
■ أنت قاص وناقد وأكاديمي... هل يمثّل هذا التعدّد إثراءً لشخصية المبدع؟
ـــ هذا التعدد فى الانشغالات أو الاشتغالات، ورغم صعوبة الجمع بين مفرداته نظريًا، مفيد وممتع جدًا؛ إذ فضلاً عما يمكن أن يتيحه لك من فرص للتعبير بأكثر من طريقة، فهو يتكامل فى كل انشغال على حدة؛ فعملى الأكاديمى (مدرّسًا أو عميدًا) يتعمّق بخبراتى الإبداعية والنقدية، والعكس من ذلك صحيح طبعًا. علمًا بأن هذا التعدّد هو السمة الغالبة على المثقفين العرب قديمًا (ابن حزم نموذجًا) وعلى المثقفين العرب حديثًا (طه حسين نموذجًا) وعلى المثقفين الفاعلين فى الغرب (امبرتو إيكو). وبصراحة أنا منحاز لنموذج المثقف العابر للتخصصات، ولست من دعاة التخصّص الدقيق، إبداعيًا أو نقديًا!
■ لم انحزت للقصة القصيرة؟
ــ رغم أننى نشرت رواية قصيرة بعنوان (ما تيسر من سيرته)، إلا أننى قاص فى المقام الأول. وما زلت أعتقد بأن القصة القصيرة هى الأكثر قدرة على تجلية فاجعة الوحدة التى يعانيها الإنسان فى عصر الاتصال. وكلّما تعمّق القاص هذه الوحدة، وعمل على تشخيصها إبداعيًا، ازداد اقترابًا من جوهر أزمة الفرد المعاصر. وسأسمح لنفسى هنا بالاستطراد قليلًا لأقول إن مشكلة كتّاب القصة القصيرة الآن، تتمثّل فى أن معظمهم لا يدرك حقيقة أنها فن وحيد ويقتات بالوحدة. خلافًا للرواية التى وجدت للتعبير عن المشهد الجمعى.
■ كيف ترى مستقبل القصة القصيرة من منطلق النقد؟
ــ قبل شهور، سعدت بترؤس لجنة تحكيم مسابقة (تلك القصص) التى أطلقتها على مستوى الوطن العربي، دار فضاءات بالتعاون مع موقع (تلك الكتب) الإلكترونى الصيني، ولم أفاجأ بعدد القصص القصيرة التى وردتني، كما لم أفاجأ بحجم المتابعة الشبابية للنتائج، فأنا ومنذ أعوام، أتصدّى بكل ما أملك من تفاؤل وأدوات نقدية، لدعاة موت القصة القصيرة، وما زلت أعتقد أنها بخير، وقد أيّدت نتائج المسابقة التى أشرت إليها آنفًا تفاؤلى على كل الصعد، كميًا ونوعيًا، شكليًا ومضمونيًا، جغرافيًا وتاريخيًا، يا سيدي، ثمة جيل جديد من كتّاب القصة القصيرة، لا يعتصم بها بوصفها خيارًا إبداعيًا فقط، بل يعتصم بها بوصفها (إيديولوجيا!) قائمة بذاتها، لأنها الإطار الإبداعى والفكرى الوحيد القادر على استيعاب وإيصال ملامح أزمته الوجودية الطاحنة، فى هذا العالم الملىء بالإنشاء والتشدّق والإدعاء المتواصل بامتلاك اليقين الذاتى والجمعي.               
■ هل يؤثر النقد فى لحظات الكتابة عندك؟
ــ مع ضرورة التذكير بأن النقد يجب أن يكون حاضرًا فى كل ورشة يخوضها المبدع، قصصيًا وروائيًا وشعريًا ومسرحيًا – لأنه مطالب بتطوير ذاته وصقلها ثقافيًا- فأنا لا أمارى بخصوص استحضارى لأسئلة النقد وأجوبته فى كل ما أكتبه، وعلى نحو خفى أجتهد كثيرًا لتمويهه بطبقة سميكة من الأسلوب. ولعل الجزء الأول من سيرتى الذاتية الذى صدر مؤخرًا بعنوان (بعض ما أذكره) مثّل إلى حد بعيد، وجوهًا عديدة من هذا الاستحضار والتغييب فى آن واحد، إذ كان على أن أتجاوز كل مآزق السيرة الذاتية التى لم يدّخر النقاد وسعًا للتنبيه عليها – وأنا منهم- وأن أكتب سيرة ذاتية متميزة على الصعيد الأدبي.
أعدّ النقد عملاً إبداعيًا تامًا مثل الرواية والقصة والشعر والمسرح، وأتعامل معه وأمارسه على هذا الأساس، فإننى لا أجد غضاضة فى هذه الشهرة؛ إذ بحكم انخراطى العميق فى المشهد الثقافى المحلى والعربي، أدرك حقيقة الحاجة الماسة للنقد والنقّاد الذين يتمتعون بمصداقية نقدية عالية – وهم قلّة قليلة- مقارنة بالوفرة الزائدة عن الحد على الصعيد الإبداعي. ودعنى أطرفك وأطرف القرّاء الأعزاء بما سأقوله لك الآن: كثير من الروائيين والشعراء وكتاب القصة يبدون لى – بحب لا أشك فيه- استغرابهم الشديد من (شعبيتى الكبيرة كناقد وخاصة فى الأوساط الشبابية) لأن المعتاد هو اقتصار هذه الشعبية على المبدعين، وأما النقاد فهم على الأغلب محدودو الشعبية إلى درجة أن بعضهم يعيش عزلة مؤلمة. والحق أننى سعيد بشهرتى وشعبيتى كناقد، لأنها كسرت الصورة النمطية المتجهمة والحزينة للنقد فى الوطن العربي.
■ كيف ترى حال النقد العربي؟
ــ نعم، من المؤكد أن النقد العربى يجتاز أزمة عميقة منذ ثلاثة عقود، ولا ريب فى أن ارتهانه وتعيّشه على فتات ما يترجم لكتّاب الغرب هو أبرز ملامح هذه الأزمة، لكننى أزعم أن السبب الرئيس لهذه الأزمة يتمثل فى الافتقار الشديد للعمق المعرفى الاستراتيجى للنقد، وأعنى به القصور الفكرى والفلسفى فى الخطاب النقدى العربي! وهذه مفارقة كبيرة مضحكة مبكية فى آن، فعلى الرغم من إدراك كثير من النقاد العرب حقيقة أن كل المدارس النقدية الغربية قد نمت وتطاولت فى فلك التيارات الفكرية والفلسفية، إلا أنهم لا يبذلون ما يكفى من جهد لتثقيف أنفسهم فكريًا وفلسفيًا، ويفضلون فى المقابل السباحة على ضفاف هذه التيارات، بذريعة ضرورة الانحياز للجانب الجمالى الفنى المحض. والمضحك المبكى فى هذه السباحة الضحلة أنها تجرى فى الوقت الذى ودّع معه الغرب أوهام (أدبية الأدب) منذ عقود وانغمس تمامًا فى (النقد الثقافي) العابر للتخصصات، وهو ما لم أدخر وسعًا للوفاء به فى كل جهودى النقدية.
■ هل تعتمد دراساتك النقدية على شهرة المبدع أم تسعى للتبشير بالجديد والمتميز وما يحمل رسالة ثقافية؟
ــ أفرق بين دواعى الاشتغال النقدى اليومى وبين دواعى الاشتغال النقدى بعيد المدى. بخصوص الهاجس الأول، فأنا لا أتردّد فى رصد وتعزيز كل ما يبدو لى رصينًا وجادًا وحداثيًا، بغض النظر عما إذا كان الكاتب مشهورًا أم مغمورًا، ولم أدّخر وسعًا على هذا الصعيد لنشر مقالات نقدية يومية، من باب الإسهام فى تسليط الأضواء على المتميز والمتفرّد وخاصة إذا كان شبابيًا. وأما بخصوص الهاجس الثانى فأنا منحاز لمشروعى النقدى / الفكرى الذى لم أتوقف منذ سنوات، عن تأهيله وتأثيثه بأسئلتى وأجوبتى فى مزاوجة بين الأدب والفلسفة والسياسة دائمًا.
■ فى ضوء عملك كأكاديمى فى جامعة فيلادلفيا، هل تعتقد بأن النصوص والأفكار التى يتلقّاها الطلاب كفيلة بنقل العالم العربى من وهدة التخلف إلى حلم التنوير والتقدم؟
ـــ مع ضرورة التذكير بأن جامعة فيلادلفيا جزء لا يتجزّأ من واقع التعليم الجامعى فى الوطن العربي، بحسناته وتحدّياته، ومع ضرورة التذكير بالفروقات الفردية بين المدرّسين على صعيد المعرفة والدوافع والغايات، فإننى أعتقد بأن فيلادلفيا كانت وما زالت منصّة متقدّمة من منصات الإنهاض والتنوير الفكرى محليًا وعربيًا؛ سواء من خلال مناهجها الدراسية أم من خلال مؤتمراتها وندواتها ومهرجاناتها المعروفة محليًا وعربيًا. وأما على الصعيد الشخصي، فإننى لم أدّخر وسعًا منذ عشرين عامًا لإحداث فروقات ملموسة فى شخصيات طلابى وفى أنماط تفكيرهم، من خلال تعميق منهجيات التحليل والنقد والتركيب، ومن خلال إزاحة الستار عن المسكوت عنه، ومن خلال تقبل التنوع وتعميق ذهنية الحوار، وأحسب أن ما أتلقاه من ردود أفعال داخل القاعة وخارجها، يكفى للظن بأن هناك العديد من الشموع التى تلوح فى الأفق العربى المعتم، دون التنكّر لحقيقة أن الواقع العربى يجتاز أكثر الاختبارات قسوة وإيلامًا.
■ لماذا لم يحصل كاتب عربى على جائزة نوبل منذ حصل عليها نجيب محفوظ؟
ــ لأننا لم نحظ بعد بمبدع كبير آخر مثل نجيب محفوظ الذى أحسن الجمع بين شروط الخصوصية والعالمية. ومن باب التفسير يمكننى أن أضيف قائلاً إن نجيب محفوظ أخلص لحارته المصرية إلى درجة أنها غدت نموذجًا روائيًا عالميًا يصعب تجاهله، كما أخلص ديكنز ومارك توين وماركيز لأماكنهم وشخوصهم. لقد فعل ذلك بحب ومسؤولية ودون تنازلات، ولو ألقيت نظرة الآن على ما ينشر عربيًا، وفى كل حقول الإبداع، لأدركت حقيقة انتفاء هذه القدرة على جلب الحصان إلى النهر؛ فبريق الجوائز واستعجال الشهرة والاستعداد المؤسف لمغازلة الغرب فكريًا وسياسيًا تحت مسمى التجريب والانفتاح على ما بعد الحداثة، جرّد معظم المبدعين العرب الكبار، من شرط الجائزة الأول، وهو ضرورة اشتغال الكاتب بدأب وصمت على الإتيان بالعالم إلى أبواب وشبابيك وأزقّة وشخوص وروائح مكانه، وليس العكس!
■ كيف ترى أزمة الشرق والغرب؟ وهل نحن بحاجة إلى إدوارد سعيد من جديد؟
سأفاجئك بالقول إننى مقتنع بمقولة شاعر الإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس روديارد كيبلنج (الشرق شرق... الغرب غرب... الشرق والغرب لن يلتقيا!). نعم إننى أمتلك الجرأة الكافية للقول بأن هذا التقابل سيظل ماثلاً إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، لأسباب أيديولوجية وجغرافية وتاريخية يطول شرحها. وأزعم أن هذا التقابل غير قابل أبدًا للإلغاء أو التجاهل، كما أزعم أن كل ما يقال ويكتب عن ضرورة التجسير بينهما ليس أكثر من تسويق سياسى لغايات اقتصادية! لكن كلا من الطرفين – لحسن الحظ- يدرك حاجته الماسة للآخر كى يديم سردياته ومصالحه!
إن الإجابة الواقعية الوحيدة التى يمكن أن أستحضرها الآن، تتمثل فى اعتقادى بضرورة الإبقاء على هذا التقابل، مع الحرص الشديد على عدم إيصاله إلى مستوى الصراع والتطاحن، لأنه مفيد ومحفّز جدًا للطرفين.
وأما بخصوص إدوارد سعيد، ورغم إقرارى التام بألمعيته وعصاميته ومركزيته الأدبية والفكرية، إلا أننى أعتقد – كما أبرزت ذلك فى كتابى (الصوت والصدى؛ مراجعات تطبيقية فى أدب الاستشراق)- أنه لم يفعل أكثر من أنه أضاف فصلاً جديدًا من فصول توصيف التقابل والصراع بين الشرق والغرب، إذ تم توظيف كتاب الاستشراق من جانب التيارات السياسية الدينية والقومية فى الوطن العربى توظيفًا سياسيًا وإيديولوجيًا محضًا، ولم يتم توظيفه توظيفًا معرفيًا كما أراد هو. وقد دلّلت على هذه المفارقة بمقدمته للطبعة الأولى من كتابه (الثقافة والإمبريالية) – حذفت هذه المقدمة من الطبعات التالية- والتى أكد فيها أن كتابه قد آتى أكله فى كل أرجاء العالم الثالث، باستثناء الوطن العربى الذى انشغل بإعادة شحذ العديد من تناقضاته مع الغرب، بدلاً من التفرغ لترجمة مقولة فوكو بخصوص تفكيك سلطة الإنشاء التى تغرق الوطن العربي.
■ برأيك هل تعانى الذات العربية من تنوع الأيديولوجيات؟
ــ نعم؛ العالم العربي، ليس مكانًا واحدًا بل مجموعة من الأمكنة، وليس زمانًا واحدًا، بل مجموعة من الأزمنة، وما يجمع بين كل هذه الأماكن والأزمان هو ذاكرة اللغة العربية الرسمية، وأحسب أن هذه اللغة قد تعمّقت وترسّخت حتى غدت مؤسسة تقبع فوق شروط وظروف الزمان والمكان، ولا يساورنى القلق بخصوص إمكانية تغوّل اللهجات المحلية المحكية عليها، بل إننى أعتقد – بحكم متابعتى الأكاديمية لهذه الإشكالية- بأن هذه اللهجات قد تجاورت وتعايشت فى ظل اللغة الرسمية التى أفادت منها وأفادتها فى آن واحد. كما أحسب أن المطلوب منا الآن يتمثل فى استحقاقين رئيسين: التوقف عن التفكير بواقع اللغة العربية الرسمية فى ضوء نظرية المؤامرة، والعمل على إغناء هذه اللغة بالمزيد من الأبحاث والدراسات العلمية القابلة للقياس، بعيدًا عن شعوذات الإنشاء والاحتفاء والعواطف التاريخية التى لا تسمن ولا تغنى من جوع.