الخميس 26 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الأعمال الكاملة لـ«الأخوين عبيد» تكشف تطور الخطاب الثقافى المصرى والعربى

الأعمال الكاملة لـ«الأخوين عبيد» تكشف تطور الخطاب الثقافى المصرى والعربى
الأعمال الكاملة لـ«الأخوين عبيد» تكشف تطور الخطاب الثقافى المصرى والعربى




يعد الشقيقان شحاتة وعيسى عبيد من أبرز المثقفين والكتاب الشوام الذين عاشوا فى مصر فى بداية القرن العشرين، وشكلت أعمالهما القصصية حلقة أساسية لا فى تطور الخطاب السردى المصرى وحده، وإنما فى تطور الخطاب السردى العربى برمته  وقد استعاد الناقد الدكتور صبرى حافظ تجربتهما القصصية فى مجلدين لكل واحد على حدة، وقد صدر المجلد الأول عن الهيئة العامة لقصور الثقافة تحت عنوان» عيسى عبيد.. المجموعة القصصية الكاملة» ويكشف حافظ فى مقدمته أن الأديب يحيى حقى أول من نبّه إلى أهمية الأخوين عيسى وشحاته عبيد فى درته الرائدة» فجر القصة المصرية» ووصفهما بأنهما «لغز فجر القصة المصرية». وقد كان عيسى معاصراً لمحمد تيمور، ومات مثله شابا فى العشرينيات من عمره، وكان تيمور متابعا لتجربته الأدبية، وكان تيمور يعى أن منهج عيسى فى الحوار مغاير لمنهج تيمور الذى يعتمد على اللغة العامية، بينما يفضل عيسى أن يستخدم العامية بحذر شديد.وكان عيسى مثل تيمور شديد التوقد والحماس لخلق أدب جديد، وجرب قلمه فى أكثر من مجال؛ فقد مارس خلال حياته الأدبية الخصبة كلاً من الدراما والرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبى. وقد نشر عيسى مجموعتين من القصص العصرية المصرية وهما: «إحسان هانم» عام 1921، و«ثريا» عام 1922.
ويرى حافظ أنه رغم العزلة النسبية للأخوين عبيد لا يعنى أنهما كانا بعيدين عن المسائل المركزية لنشاط الحركة الوطنية المصرية، فأعمالهما تفيض بحب مصر، وتعصب عيسى لمصريته لا يقل عن تعصب مصطفى كامل لها، وإن كان أكثر منه عقلانية وأشد واقعية، حيث لا أثر فيها للمبالغات الرومانسية ولا النهنهات العاطفية، وقد تردد الأخوان على بيت الأمة، والتقيا بسعد زغلول وجادلاه بطريقة تكشف عن أنهما كانا على يسار الوفد، وقد أهدى عيسى باكورة إنتاجه إلى سعد زغلول، وقد أشار فى إهدائه إلى وجود علاقة وثيقة بين استقلال الوطن واستقلال الفن المصرى معه.  ولا يقتصر الأمر على هذا الإهداء وحده، ولكن ثمة مؤشرات عديدة فى القصص نفسها تنبئ عن تقديرهما لسعد زغلول وثورة 1919 من خلال شخصياتهم الفنية، فبالرغم من الحدود التى فرضت عليهما، لكنهما لم يتوانيا قط عن النداء باستقلال مصر فى قصصهما القصيرة.ونوعية الوطنية التى تسود كتاباتهم تتسم بعقلانيتها وتأكيدها على أواصر الوطنية بمفهومها الحديث المرتبط بالدولة القومية التى تسمو على الاعتبارات القبلية أو الدينية أو الطائفية. وهى وطنية مليئة بالمشاعر التقدمية والليبرالية المستنيرة التى تنظر إلى الأدب كوسيلة لتشكيل الهوية الوطنية والإفصاح عنها.
وقد تأثر عيسى بالأدب الفرنسى، وحاول أن يجعل من نفسه رسول النهضة القادمة فى الأدب وبدأ بالمناداة بها فى المقدمة التى كتبها للمجموعتين القصصيتين،  وينطلق فى هذه المناداة من الوعى بأن الفن القصصى فى مصر فى طور الولادة، وأنه لم يستوف حقه من الاهتمام النظري، ويعزو ذلك إلى انصراف الكتاب إلى المسرح الهابط أو التعريب أو الترجمة، والاهتمام بما يرضى الذوق الشعبى الهابط لا الذوق الأدبى الرفيع. ويلاحظ إقبال الكتاب على المسرح؛ لأن عوائد المسرح المادية أجزل من عوائد الكتابة القصصية الراقية. وقد حلل عيوب القص العربى الوليد ونواقصه، وفصل أهم تلك العيوب القاتلة بادئاً بالإغراق فى الخيال على حساب المعرفة الدقيقة بالواقع وقلة الملاحظة؛ لأن الكاتب المصرى لا يقدم الواقع كما هو، وإنما كما ينبغى أن يكون ويربط هذا بجهل الكاتب المصرى بأصول الفن القصصي،لأنه محكومة بقوالب وصفية ولغوية موروثة من البلاغة العربية القديمة.
وشكلت أعمال عيسى عبيد دفعة قوية للقصة المصرية الناشئة، وأنضجت إطارها البنيوى الذى مكنها من تخطى حدود «الاسكتش السردى»، أو الصورة الوصفية، وضرب بها فى أرض جديدة من حيث الموضوعات والمواقف والشخصيات على السواء؛ ذلك لأن ولعه الواضح بتسجيل ملامح الحياة الاجتماعية المصرية مكنه من أن يصور لنا صورة لعالم لم يعد له وجود فى عالمنا الراهن، ولا سبيل إلى معرفة واستنقاذ شيء من ملامحه، إلا بالعودة إلى هذه النصوص الباكرة الجميلة، فقد سجل فى قصصه بعض أوجه الحياة المصرية الريفية فى «مأساة قروية» كما عالج عدداً من الموضوعات الجديدة فى حياة الطبقة المتوسطة فى المدينة، وكشف لنا تصوراتها وآمالها فى تلك الفترة الباكرة من تطورها،وكان شغوفا بوصف طقوس الحياة العائلية اليومية والعادات التى استمرت بعض الوقت ثم ماتت، وكانت قصصه غير مسبوقة فى تصوير العلاقات الحقيقية بين الجنسين، واكتشاف الجوانب الخفية فى الحياة الأسرية المصرية عامة، وحياة المسيحيين الشرقيين خاصة،إلى الحد الذى دفع البعض إلى انتقاده لجسارته على انتهاك كثير من المحرمات. حيث يقول فى مقدمة مجموعته الثانية:» أما الملاحظات التى أبداها بعض الأدباء والأصدقاء على (إحسان هانم) فتنحصر فى تصويرنا النزعات الجنسية والرغبات النفسية، وإغراقنا فى وصف أشخاص نسائنا، مما تنتاب النفس هزة عنيفة حين قراءتها؛ لأننا فى حاجة – كما يقولون- إلى الصور البريئة الطاهرة التى تبعث فى النفس التوق إلى الفضائل».
ويرى حافظ أن عيسى عبيد قد حرر السرد العربى من التصورات المسبقة، ومكنه من الكشف عن حقيقة ما يدور وراء أبواب غرف الأسرة المصرية المقفلة، ومن تصوير الأبعاد المختلفة لحياة نساء الطبقة المتوسطة المصرية اليومية، وتلمس بعض جوانب تحرر النساء النسبى، وانطلاق مطامحهم التى فجرتها شرارة ثورة 1919 الوطنية، وهو موضوع لاقى إقبالا لدى كتاب القصة القصيرة من بعده؛ لأن النساء كانت تصور فى النصوص السردية قبله من خلال أعين الرجال، ولم يكن مسموحاً لهن بالتعبير عن مشاعرهن وآرائهن بأنفسهن، بما فى ذلك آراؤهن فى سلوك الرجال وأفكارهم، وكان عيسى أول من مكنهم من القيام بذلك فى النصوص السردية، وسمح لشخصياته بالتحدث عن نفسها.
لقد كان عيسى عبيد بمعيار زمنه مجدداً جسوراً غامر بالأدب المصرى فى بقاع لم يسمع فيها وقع لقدم مصرية من قبله،فقد مكنه تصوره الناضج حول تعدد تقنيات السرد من التجريب القصصى على هذا الصعيد بشكل ساهم فى توسيع أفق الخطاب السردى وتطوير إمكانياته. فقد جرب كتابة القصة التى تأخذ قالب الرسالة كما فى «إحسان هانم»، أو التى تبدو وكأنها اعتراف يكسبها حميمية ومصداقية فى « حديقة الأسماك» أو على صورة مذكرات يومية فى «مذكرات حكمت هانم»،أو التى تنهض على ما سماه شكل المحاورة الثنائية فى «الكازينو»، أو تلك التى يتسلسل فيها السرد فى تتابع منطقي، ومن أكثر من منظور سردى فى «مأساة قروية».