الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الفيلسوف

الفيلسوف
الفيلسوف




«كلمونى، كلمونا، ناقشونا، اسألونا، ليس بالشتيمة ولا بالعصا، من يدرى ربما تغيرت، ربما غيرت رأيى، ربما تغيرنا جميعاً، فلا يغيّر الرأى إلا الرأى، ولا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يقطع الماس إلا الماس»... هكذا لخص رحلته مع الحياة فى بضع كلمات فلسفية لا يكتب إلا إذا هاتفه وحى، ولا يفصح عن كلمة إلا إذا حان وقتها.. تلك كانت حياة الفيلسوف الرحالة «أنيس منصور» الذى تحل علينا هذه الأيام ذكرى ميلاده الخامسة والتسعون.
كان لأنيس منصور أسلوب فريد من نوعه فى الكتابة، فعلى الرغم من عشقه لصاحبة الجلالة إلا أنه كان دائمًا يرى أنه لا يعشق العمل الصحفى بذاته، لكنه عاشق للكتابة وخاصة الفلسفية فكان أديبًا وفيلسوفًا، لكن يمتلك ملكة اللغة التى كان يستخدمها ليصل إلى جميع طبقات المجتمع، للمتعلم والجاهل والمثقف والأمي، فقد كان حقًا فيلسوف الفقراء.

ولد أنيس منصور، فى مركز شربين بالقرب من مدينة المنصورة عاصمة الدقهلية، فى 18 أغسطس 1925م، فى وقت كانت صحوة الفكر المصرى فى قمة توهجها بعد سنوات قليلة من قيام ثورة 1919م، التى أعادت رسم الهوية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى.
وكالكثير من أبناء جيله، كانت انطلاقة أنيس منصور مع اللغة العربية من القرآن الكريم، حيث نجح فى حفظه فى سن التاسعة بأحد كتاتيب قريته، وكان لهذا آثر قوى لنبوغ الفتى الصغير فى رحلته التعليمية، فلم يكن غريبًا أن ينهى دراسته الثانوية متفوقًا على جميع أقرانه فى أنحاء مصر، حيث كان أنيس منصور صاحب الترتيب الأول لطلاب الثانوية العامة على مستوى الجمهورية كلها.
وكان عشق الأدب واللغة دافع قوى يجعله يختار دراسة اللغة والآداب، فالتحق بكلية الآداب فى جامعة القاهرة، حيث قسم الفلسفة الذى أخرج العديد من عمالقة الفكر والأدب فى تاريخ مصر، وتخرج من جامعة القاهرة، حاصلًا على ليسانس آداب من قسم الفلسفة فى عام 1947 بتفوق واضح على مدار أربعة أعوام الدراسة الجامعية.
بعد التخرج من الكلية، التحق للعمل مدرسًا بقسم الفلسفة فى جامعة عين شمس، حيث قام بتدريس الفلسفة الحديثة من عام 1954حتى عام 1963، لكن عشق الكتابة والصحافة كان مسيطرًا عليه تمامًا حتى فى ذروة انخراطه فى العمل الأكاديمي، فجذبته نداهة الصحافة لالتحاق ببلاط صاحبة الجلالة.

منصور وصاحبة الجلالة


كانت حياة أنيس منصور مع الصحافة، مختلفة عن باقى أقرانه، فمنذ دخوله إلى دار أخبار اليوم بصحبة كامل الشناوى، وتتلمذه على يد مؤسسيها على ومصطفى أمين، كان «أنيس منصور» يتعامل مع صاحبة الجلالة بروح الأديب، فلم يكن يحب العمل الصحفى البحت، وهو ما جعل تجربته الصحفية دوما بعيدة عن السياق التقليدى، انتقل «أنيس منصور» لفترة قصيرة من أخبار اليوم إلى إلى مؤسسة الأهرام فى مايو 1950م، وحتى عام 1952م، ثم سافر هو وصديقه كامل الشناوى فى رحلة إلى أوروبا، وقامت ثورة يوليو أثناء وجودهم خارج مصر، وكان يرسل أنيس منصور أول مواضيعه إلى أخبار اليوم.
لعب المزيج ما بين الفلسفة والأدب والمهارات الصحفية الفائقة فى الكتابة، دورا مهما فى فتح الطريق لأنيس منصور فى بلاط صاحبة الجلالة، فكان من أصغر من تولى منصب رئيس التحرير فى الصحافة المصرية، وكان وقتها لم يكمل الثلاثين من عمره، كما تنقل بين أشهر المؤسسات الصحفية فى مصر «الأهرام» و«أخبار اليوم» و«الهلال» و«دار المعارف».
وعن هذه المرحلة قال أنيس منصور: «كانت بدايتى فى العمل الصحفى فى أخبار اليوم وهذا بالضبط ما لا أحب ولا أريد أنا أريد أن أكتب أدباً وفلسفة فأنا لا أحب العمل الصحفى البحت أنا أديب كنت وسأظل أعمل فى الصحافة».
وكان أنيس منصور هو أقرب الصحفيين للرئيس الراحل «أنور السادات»، مثلما كان الأستاذ هيكل بالنسبة للرئيس جمال عبدالناصرـ ولذلك كلفه الرئيس السادات بتأسيس مجلة أكتوبر فى 31 أكتوبر 1976م، وذلك لتكون مجله عربية سياسية اجتماعية شاملة، يتولى تحريرها إلى جانب رئاسته لمجلس إدارة دار المعارف، وظل فى هذا المنصب حتى عام 1984م.
ويبقى من أبرز الأعمال الصحفية لأنيس منصور فتبقى فى عموده الأشهر فى الصفحة الأخيرة لجريدة الأهرام «مواقف»ـ بالإضافة لمقالاته فى صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، وسيرة ذاتية ليس لها مثيل لصحفى عربى برئاسته لتحرير العديد من المجلات منها «الجيل، هى، آخر ساعة، أكتوبر، العروة الوثقى، مايو، كاريكاتير، الكاتب».

أعماله وكتاباته

عاش أنيس منصور محبا للآداب والفنون دارساً للفلسفة ومدرساً لها مشتغلاً بالصحافة وأستاذاً من أساتذتها، ومسهماً فى كل تلك المجالات وغيرها بكتب ومؤلفات قاربت 200 كتاب تشكل فى مجموعها مكتبة كاملة متكاملة من المعارف والعلوم والفنون والآداب والسياسة والصحافة والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة والمرأة.، وكتب فى مجالات متنوعة عكست نظرته ورؤيته للكون والإنسان والحياة وساهمت فى تشكيل وجدان وثقافة أجيال عديدة من الشباب فى العالم العربى كله.
وأجاد أنيس منصور عدة لغات إلى جانب العربية ومنها الإنجليزية والألمانية والإيطالية. كما اطلع على كتب عديدة فى هذه اللغات وترجم بعضاً من الكتب والمسرحيات المكتوبة بغير العربية.
وسافر أنيس منصور كثيراً وكتب الكثير فى أدب الرحلات، وألف فى ذلك عدداً من الكتب منها «كتاب حول العالم فى 200 يوم»، «بلاد الله لخلق الله»، «غريب فى بلاد غريبة»، «اليمن ذلك المجهول» «أنت فى اليابان» وبلاد أخرى، «أعجب الرحلات فى التاريخ»، كانت كتابات أنيس منصور فى ما وراء الطبيعة فى فترة من الفترات هى الكتابات المنتشرة بين القراء والمثقفين، ومن أشهر كتبه فى هذا المجال الذين «هبطوا من السماء»، «الذين عادوا إلى السماء»، «لعنة الفراعنة» «أرواح وأشباح». كما ترك أنيس منصور عددا من المؤلفات التى تحولت لأعمال سينمائية ومسرحية وتلفزيونية ومن أشهرها مسرحية «حلمك يا شيخ علام»، «من الذى لا يحب فاطمة»، «هى وغيرها»، «عندى كلام».
كما كان لأنيس منصور نشاط واسع فى ميدان الترجمة، حيث ترجم إلى العربية عديداً من الكتب والأعمال الأدبية الأجنبية، بلغت نحو 9 مسرحيات وحوالى 5 روايات من لغات مختلفة، إلى جانب 12 كتابا لفلاسفة أوروبيين. وفى الوقت ذاته اهتمت دور النشر العالمية بترجمة كثير من أعماله إلى اللغات الأوروبية وخاصة الإنجليزية والإيطالية. وكتابه حول العالم فى 200 يوم هو الأكثر انتشاراً باللغة العربية، ثم تفرغ فى آواخر حياته لكتابة المقال السياسى والاجتماعى المعروف مواقف فى جريدة الأهرام اليومية إلى جانب عموده اليومى فى جريدة الشرق الأوسط.
كانت كتاباته عن الوجودية من أفضل ما كتب عنها باللغة العربية، وكان أكبر قارئ فى العالم العربى كما وصفه الأديب طه حسين، وساعده على ذلك إجادته لعدة لغات أجنبية، لم يكن أنيس منصور يترجم ما يقرأ من مصادر أجنبية، بل كان يهضم ما يقرأ تماماً ثم يبدأ فى كتابة مقال عن الموضوع بعقل المفكر الفيلسوف فيضيف إليه معلومات ورؤية جديدة، وكان حريصاً فى عموده اليومى على أن يقدم للقارئ المصرى والعربى معلومة جديدة أو أكثر فى كل مقال، لقد كانت له طريقة أو توليفة خاصة فى الكتابة يصعب تقليدها وانجذب لها ملايين القراء فى الوطن العربى كله فأقبلوا على مقالاته وكتبه ومؤلفاته التى حققت أرقام مبيعات قياسية.

معارك لا تنتهى

خاض الراحل أنيس منصور على مدى تاريخه العديد من الصراعات كان أبرزها مع الإسلاميين، فالكاتب الذى دائما ما أعلن أنه مؤمن بالفلسفة الوجودية وبمبادئ العلمانية أثار حفيظة الإسلاميين للرد على أفكاره.
وكان أنيس منصور شديد العداء للآراء الإسلامية المتطرفة خاصة تلك التى يراد بها مكاسب سياسية وكان ضد تفسير الإسلاميين لكثير من الأمور وجاء انتقاده الشديد لأحد شركات الطيران لمنعها تقديم الخمور على متن الطائرة سببا جعل الشيخ عبدالحميد كشك أن يطلق عليه فى إحدى خطبه «أستاذ إبليس مسطول» كما هاجمه شيوخ منهم سيد حسين العفانى وأبو إسحاق الحوينى واستندوا فى هجومهم عليه إلى بعض الأخطاء فى الأحاديث النبوية التى أوردها أحيانا فى بعض كتاباته.
ومما لا يخفى على أحد أن أنيس منصور انضم لجماعة الإخوان المحظورة عندما جاء إلى القاهرة قبل أن تفصله الجماعة عنها لأنه يخالف سياستها ويناقش مع زملائه قضايا خاصة بالفلسفة الوجودية والماركسية، ويحكى منصور عن ذلك فى حوار صحفى أجرته معه الكاتبة الصحفية نشوى الحوفى فى عام 2009  وقال:»لا تسألينى عن رأيى فى الإخوان المسلمين فى تلك الفترة لأننى عندما جئت للقاهرة وجدتها كبيرة جدًا لدرجة أننى كنت أندهش من اتساع الطرق وكيفية عبور الناس لها، والحقيقة أننى وجدت فى هذه الجماعة حينها بعض الألفة وكانوا يتعاملون بالقرآن الذى أحفظه ولديهم مكتبة كبيرة جعلونى أمينا عليها فى مركز إمبابة وكان يطلب منى كما يطلب من غيرى كحافظ للقرآن أن نذهب ونؤم المصلين فى عدد من المساجد ونخطب فيهم يوم الجمعة وكنا نذهب بلا أى تفكير أو مناقشة وعندما أصل المسجد وأعرف الخطيب بنفسى وقد يكون شيخاً كبيراً فآمره بالتنحى عن خطبة الجمعة لى، وهو أمر مخجل ليس فيه أى أدب وأتعجب كلما تذكرته كيف فعلته لكنها الأوامر التى تعتاد على طاعتها فى الجماعة».
 ويستطرد أنيس منصور فى حواره «فى عام 1946 اكتشف عدد من الإخوان أننى ومعى عدد من زملائى فى الجامعة نجلس فى المكتبة ونتناقش فى موضوعات ليست دينية لكنها تتنوع بين الفلسفة الوجودية والماركسية فأبلغوا مكتب المرشد عنا وجاء قرار بفصلنا من الجماعة وقد يكون للإخوان فكر ولكن لهم سوابق عديدة فى العنف تجعلنا غير قادرين على تبنى فكرهم أو الدفاع عنهم».
حصل أنيس منصور على لقب «عدو المرأة» عدائه الدائم للزواج وظهر ذلك واضحا من خلال كتاباته الساخرة واللاذعة عن علاقة المرأة بالرجل وعن فكرة الزواج فى كتابه «عاشوا فى حياتى» يقول «وجدتنى عدوا للمرأة ووجدتنى أمسك سلاحا سريا أحاول أن أملأه بالاحتقار لها فهذه الكلمات قادرة على جعل العالم غاضبا»، كذلك عباراته الشهيرة «فتش عن المرأة وراء كل مصيبة»، «مهما كانت متاعب النساء، فهى أقل من متاعبنا، فليست لهن زوجات كالرجال»، إلا أنه كان مختلفًا تمامًا فى حياته، فالكاتب المهاجم الدائم للمرأة بكى على فراق والدته وقالها صراحةً «كم أحببت هذه الأم وبكيت ومازلت أبكى فراقها، فقد دفعتنى للتفوق والقراءة، وحفظ القرآن فى طفولتي، كانت أمى وصديقتى فى طفولتى وصباي».


دعوة الرحيل

الضمير فى نظر أنيس هو صوت الله فى الإنسان، ومن أشهر مقولاته عن الحياة «كل شيء فى الدنيا تعب إلا الموت فهو نهاية كل تعب».. ثم جاء وقت الرحيل صباح يوم الجمعة الموافق 21 أكتوبر 2011 عن عمر ناهز 87 عاماً بمستشفى الصفا بعد تدهور حالته الصحية على إثر إصابته بالتهاب رئوى وبعد معاناته الشديدة مع المرض.