السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قوة الفل والياسمين




لا أعتقد أن شاعرنا الكبير والرائع حافظ إبراهيم كان قد عرف مصطلح‮ (‬القوة الناعمة‮).. ‬وهو‮ ‬ينظم قصيدته الخالدة‮ (‬مصر تتحدث عن نفسها‮).. ‬علي الرغم من أنه كان قد وضع الأسس الأصيلة لمعاني تلك القوة قبل ما‮ ‬يزيد علي قرن‮.. ‬وقبل أن تغنيها أم كلثوم فيما بعد‮.. ‬فتهز الوجدان بعبارة‮ (‬أنا تاج العلاء في مفرق الشرق‮.. ‬ودراته فرائض عقدي‮.. ‬إن مجدي في الأوليات‮.. ‬عريق من له مثل أولياتي ومجدي‮).‬

و(القوة الناعمة‮) ‬عبارة معقدة‮.. ‬تشير إلي قدرة الثقافة ورموزها ومنتجاتها علي التأثير خارج حدود البلد‮.. ‬وإذا شئت التعقيد والتأصيل العلمي سوف أقول لك إن عميد كلية هارفارد‮ (‬جوزيف ناي‮) ‬قال إنها تعني‮: (‬القدرة علي صياغة خيارات الآخرين وأن تكون نموذجًا‮ ‬يحتذي به الآخرون‮.. ‬بالدبلوماسية العامة والثقافة الشعبية وقوة الأفكار والنماذج الوطنية‮).‬

هذه القوة الناعمة هي التي دعت أوباما لأن‮ ‬يلقي خطابه للعالم الإسلامي من فوق منصة القاهرة‮.. ‬وهي التي جعلت مصر رائدة في المنطقة‮.. ‬ريادة حقيقية‮.. ‬تجعلها نموذجًا‮ ‬يقتدي‮.. ‬وتفاخر بأن لديها أربعة فائزين بجائزة نوبل‮.. ‬السادات ونجيب محفوظ‮.. ‬والبرادعي‮.. ‬وزويل‮.. ‬ومن ثم لا أستغرب أن وزير الخارجية أحمد أبوالغيط حين‮ ‬يقابل وزراء دول شقيقة وصديقة فإنه‮ ‬يهديهم بعضًا من خلاصة إنتاج هذه القوة الناعمة‮: ‬روايات نجيب محفوظ وبهاء طاهر ويوسف إدريس وإبراهيم عبدالمجيد وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني وغيرهم‮.‬

ولا أعتقد أن محمد حماقي وهو‮ ‬يغني‮ (‬مصر بحبها‮) ‬تلك الأغنية التي أبدعها المؤلف أيمن بهجت قمر قبل نحو شهر،‮ ‬كان‮ ‬يريد أن‮ ‬يتحدث عن مفهوم‮ (‬جوزيف ناي‮).. ‬غير أنه طبقه عمليًا وهو‮ ‬يدندن‮: (‬دي بلد عم نجيب‮.. ‬زويل وثوما والعندليب‮.. ‬داليدا وبليغ‮ ‬والخطيب‮.. ‬بلد عمر الشريف‮.. ‬وعادل إمام أبو دم خفيف‮.. ‬حسن شحاتة‮ ‬غني عالتعريف‮).. ‬وقد أضاف المؤلف المبدع‮: ‬بلدي بحبها‮.. ‬واللي‮ ‬يمسها‮.. ‬أكله بسناني وانتهي‮.‬

وفي ثقافتنا تعبيرات أخري عن نفس المعني بأساليب مختلفة أبرزها علي الإطلاق إبداع صلاح جاهين علي لسان داليدا في أغنيتها الخالدة‮: (‬حلوة‮ ‬يا بلدي‮).. ‬وفيها حنين المغتربة‮.. ‬وشوق الغائبة العائدة المكتشفة‮.. ‬وأريحية المصريين‮ (‬أدينا بندردش‮).. ‬واستعراض لمقومات الشخصية المصرية المركبة من مختلف الأقاليم‮: ‬الإسماعيلية التي نحب أن نزورها في المغربية‮.. ‬وسوهاج بلد المواويل‮.. ‬عروس النيل‮.. ‬والمحلة‮ ‬ياسمنودي‮.. ‬أرض جدودي‮.‬

لكن الإبداع الأهم في هذا التغني بمصر ومقوماتها الفريدة كان ذلك الذي نظمه شاعر العامية الراحل والكبير والعظيم فؤاد حداد‮.. ‬عقد الفل والياسمين التي‮ ‬غناها محمد منير وخطف بها ألباب الشباب في الثمانينيات‮.. ‬مناديا بالوحدة بين المصريين المتنوعين‮: ‬تعالي نلضم أسامينا‮.. ‬الفلة جنب الياسمينا‮.‬

لقد قال فؤاد حداد‮: (‬عالضفتين ألقي ربوعي‮.. ‬وعيد ميلادي وسبوعي‮.. ‬من كوم حمادة‮ ‬ينبوعي‮.. ‬لجرجا أبريق الزينة‮.. ‬ودنشواي اسمها أصبح‮.. ‬أجل شاهد بيسبح‮.. ‬في المنزلة الطيب‮ ‬يرمح‮.. ‬في بحر‮ ‬يوسف سواقينا‮.. ‬الشاي‮ ‬يا واسطة في السكة‮.. ‬نقعد‮ ‬يامنيا علي الدكة‮.. ‬نوصل بني سويف الضحكة‮.. ‬نلاقي أسيوط وسطينا‮.. ‬تعالي نلضم أسامينا‮).‬

وما أحوجنا إلي أن نلضم أسامينا‮.. ‬وأن نبقي‮ (‬الفل والياسمين‮) ‬في نظم معقود‮.. ‬لا‮ ‬ينفرط‮.. ‬ولا نفرط فيه‮.. ‬وأن تظل قوة زهور الثقافة هي أسلوبنا في التحدي الحضاري‮.. ‬والتفاعل مع الأمم‮.. ‬قوة لا‮ ‬يمكن أن تضاهي بين‮ ‬يوم وليلة لأنها نتاج آلاف السنين وقوة بشرية خارقة خصبة‮.. ‬تدرك أن سرها‮ ‬يكمن في اتحاد مينا ومحمد‮.. ‬والسمنودي مع الجرجاوي‮.. ‬والنوبي مع المنوفي‮.‬

إن المبدعين المختلفين الذين صاغوا تلك الأغاني ليست لهم علاقة بأي مراكز استراتيجية‮.. ‬ولكنهم روح البلد‮.. ‬وصوته وعقله‮.. ‬وهم أنفسهم من أهم ما قدمت قوتنا الناعمة‮.. ‬وأغنياتهم كما أنها تغني وامتداح طيب للذات‮.. ‬هي في نفس الوقت أجراس تنبيه تدق فوق رءوس الأمة‮.. ‬لكي تدرك أين تكمن عناصر قدرتها وتؤصل ذلك وترسخه‮.‬

الموقع الإليكتروني : www.abkamal.net
البريد الإليكتروني : [email protected]