قوة الفل والياسمين
عبد الله كمال
لا أعتقد أن شاعرنا الكبير والرائع حافظ إبراهيم كان قد عرف مصطلح (القوة الناعمة).. وهو ينظم قصيدته الخالدة (مصر تتحدث عن نفسها).. علي الرغم من أنه كان قد وضع الأسس الأصيلة لمعاني تلك القوة قبل ما يزيد علي قرن.. وقبل أن تغنيها أم كلثوم فيما بعد.. فتهز الوجدان بعبارة (أنا تاج العلاء في مفرق الشرق.. ودراته فرائض عقدي.. إن مجدي في الأوليات.. عريق من له مثل أولياتي ومجدي).
و(القوة الناعمة) عبارة معقدة.. تشير إلي قدرة الثقافة ورموزها ومنتجاتها علي التأثير خارج حدود البلد.. وإذا شئت التعقيد والتأصيل العلمي سوف أقول لك إن عميد كلية هارفارد (جوزيف ناي) قال إنها تعني: (القدرة علي صياغة خيارات الآخرين وأن تكون نموذجًا يحتذي به الآخرون.. بالدبلوماسية العامة والثقافة الشعبية وقوة الأفكار والنماذج الوطنية).
هذه القوة الناعمة هي التي دعت أوباما لأن يلقي خطابه للعالم الإسلامي من فوق منصة القاهرة.. وهي التي جعلت مصر رائدة في المنطقة.. ريادة حقيقية.. تجعلها نموذجًا يقتدي.. وتفاخر بأن لديها أربعة فائزين بجائزة نوبل.. السادات ونجيب محفوظ.. والبرادعي.. وزويل.. ومن ثم لا أستغرب أن وزير الخارجية أحمد أبوالغيط حين يقابل وزراء دول شقيقة وصديقة فإنه يهديهم بعضًا من خلاصة إنتاج هذه القوة الناعمة: روايات نجيب محفوظ وبهاء طاهر ويوسف إدريس وإبراهيم عبدالمجيد وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني وغيرهم.
ولا أعتقد أن محمد حماقي وهو يغني (مصر بحبها) تلك الأغنية التي أبدعها المؤلف أيمن بهجت قمر قبل نحو شهر، كان يريد أن يتحدث عن مفهوم (جوزيف ناي).. غير أنه طبقه عمليًا وهو يدندن: (دي بلد عم نجيب.. زويل وثوما والعندليب.. داليدا وبليغ والخطيب.. بلد عمر الشريف.. وعادل إمام أبو دم خفيف.. حسن شحاتة غني عالتعريف).. وقد أضاف المؤلف المبدع: بلدي بحبها.. واللي يمسها.. أكله بسناني وانتهي.
وفي ثقافتنا تعبيرات أخري عن نفس المعني بأساليب مختلفة أبرزها علي الإطلاق إبداع صلاح جاهين علي لسان داليدا في أغنيتها الخالدة: (حلوة يا بلدي).. وفيها حنين المغتربة.. وشوق الغائبة العائدة المكتشفة.. وأريحية المصريين (أدينا بندردش).. واستعراض لمقومات الشخصية المصرية المركبة من مختلف الأقاليم: الإسماعيلية التي نحب أن نزورها في المغربية.. وسوهاج بلد المواويل.. عروس النيل.. والمحلة ياسمنودي.. أرض جدودي.
لكن الإبداع الأهم في هذا التغني بمصر ومقوماتها الفريدة كان ذلك الذي نظمه شاعر العامية الراحل والكبير والعظيم فؤاد حداد.. عقد الفل والياسمين التي غناها محمد منير وخطف بها ألباب الشباب في الثمانينيات.. مناديا بالوحدة بين المصريين المتنوعين: تعالي نلضم أسامينا.. الفلة جنب الياسمينا.
لقد قال فؤاد حداد: (عالضفتين ألقي ربوعي.. وعيد ميلادي وسبوعي.. من كوم حمادة ينبوعي.. لجرجا أبريق الزينة.. ودنشواي اسمها أصبح.. أجل شاهد بيسبح.. في المنزلة الطيب يرمح.. في بحر يوسف سواقينا.. الشاي يا واسطة في السكة.. نقعد يامنيا علي الدكة.. نوصل بني سويف الضحكة.. نلاقي أسيوط وسطينا.. تعالي نلضم أسامينا).
وما أحوجنا إلي أن نلضم أسامينا.. وأن نبقي (الفل والياسمين) في نظم معقود.. لا ينفرط.. ولا نفرط فيه.. وأن تظل قوة زهور الثقافة هي أسلوبنا في التحدي الحضاري.. والتفاعل مع الأمم.. قوة لا يمكن أن تضاهي بين يوم وليلة لأنها نتاج آلاف السنين وقوة بشرية خارقة خصبة.. تدرك أن سرها يكمن في اتحاد مينا ومحمد.. والسمنودي مع الجرجاوي.. والنوبي مع المنوفي.
إن المبدعين المختلفين الذين صاغوا تلك الأغاني ليست لهم علاقة بأي مراكز استراتيجية.. ولكنهم روح البلد.. وصوته وعقله.. وهم أنفسهم من أهم ما قدمت قوتنا الناعمة.. وأغنياتهم كما أنها تغني وامتداح طيب للذات.. هي في نفس الوقت أجراس تنبيه تدق فوق رءوس الأمة.. لكي تدرك أين تكمن عناصر قدرتها وتؤصل ذلك وترسخه.
الموقع الإليكتروني : www.abkamal.net
البريد الإليكتروني : [email protected]