السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

تولستوى فيلسوف الحرب والسلام

تولستوى  فيلسوف الحرب والسلام
تولستوى فيلسوف الحرب والسلام




«إن غاية الحياة هى الحصول على السعادة وقد أرادها الله لنا، فمن يطلبها يتمم إرادة الله»
كانت هذه من أشهر مقولات ليف نيكولايافيتش تولستوى او كما يعرف بليو تولستوى، هذا الآديب والفيلسوف الروسى الأشهر عالميًا، والذى كان هدفه الأسمى فى الحياة هو العدل والبحث عن العمق فى الذات الإنسانية.
وقد حظى تولستوى بالعديد من الألقاب التى أطلقت عليه منها الفيلسوف المعلم، رجل السلام، رجل الكفاح السلمى، حيث كان نهج المقاومة السلمية النابذة للعنف هى محور حياته والتى تبلورت فى كتاب «مملكة الرب داخلك» وهو العمل الذى أثر على مشاهير القرن العشرين مثل المهاتماغاندى ومارتن لوثر كينج فى جهادهما الذى اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف، وحتى وقتنًا الراهن مازال رواد مدرسته يزدادون يومًا بعد يوم.
برغم ولادته من أسرة أرستقراطية عريقة فقد كان أميرًا فى الإمبراطورية الروسية القديمة، وكان يعيش الجزء الأول من حياته فى ترف رغم وفاة والديه فى سن صغيرة، حتى أنه كان اشتهر فى بدياته بالأرعنه والطيش، الا أن بعد تجربة الحرب التى عاشها أصبح يرى العالم بمنظور مختلف، وأصبحت قدية العدل فى الكون والبحث عن الذات الإنسانية هى قضيته التى كرس اليها عمره كله حتى وفاته بين فلاحين قريته خلال رحتله الأخيره للبحث عن ليو تولستوى جديد فى عمر 82 عامًا.

 

حياته

 

ولد تولستوى فى 9 سبتمبر سنة 1828، فى عزبة ياسنايا بوليانا بمقاطعة تولا فى روسيا، وترعرع تولستوى فى كنف عائلته الأرستقراطية، فوالده كان الكونت نيكولاى تولستوي، أما والدته فكانت الأميرة فولكونسكايا، التى تنحدر من سلالة روريك، أول حاكم فى تاريخ روسيا.
شهدت طفولة تولستوى الكثير من المآسى حيث توفيت والدته فى عمر الثانية، ووالده فى عمر السابعة، لينتقل الى بيت عمته هو وأخوته التى عينت واصية على ممتلاكته، وبعد وفاة العمة الأولى انتقل للعيش مع عمته الثانية انتقل تولستوى وأخوته للعيش مع عمته الثانية فى مدينة كازان.
تلقى تولستوى تعليمه الابتدائى فى المنزل على أيدى المعلمين الفرنسيين والألمان. وفى عام 1843، التحق ببرنامج اللغات الشرقية فى جامعة كازان، للدراسة اللغتين التركيّة والعربيّة، ولقد اختار ليو تولستوى هذا الاختصاص لسببين: الأول لأنّه أراد أن يصبح دبلوماسياً فى منطقة الشرق العربي، والثاني، لأنّه مهتم بآداب شعوب الشرق.
 إلا أنه فشل فى إظهار تفوقه الدراسي، فاضطر للالتحاق ببرنامج القانون، ولكنه لم يمكث فيه طويلًا، وهكذا استمر الوضع على ذات المنوال حتى ترك تولستوى جامعة كازان فى نهاية المطاف، دون الحصول على أى شهادة جامعية.
عاد تولستوى بعد ذلك إلى منزل والديه، وقرر أن يتولى الإشراف على زراعة الأراضى هناك، ولكنه لم يتمكن من المواظبة على فعل ذلك نظرًا لكثرة زياراته الاجتماعية إلى تولا وموسكو، وهناك قصة أخرى أوضحت أن تولستوى كان يعيش حياة فارغة ولم يهبأ بإرث عائلته حتى أنه رهن مزرعته وممتلاكاته خلال لعبة للقمار، وهو الأمر الذى أدى الى خوفه ولجوئه لأخيه نيكولاى لمساعدته فى الانضمام لصفوف الجيش الروسى حيث كان نيكولاى فى ذلك الوقت محاربًا ضمن صفوف جيش الامبراطورية الروسية فى القوقاز.
وقد أثبت تولستوى جدارته العسكرية خلال حرب بلاده ضد قبائل السهول التتارية، وقد سجل جانبا كبيرا من انطباعاته التى كونها خلال تلك الفترة فى روايته «الحرب والسلام».

 

بداية الرحلة

 

وأثبت الفيلسوف الروسى جدارته  كجندى فى الحرب الروسية وشارك فى بعض المعارك ضد جيش المريدين بقيادة الإمام شامل، كما حصل على وسامين عن مجهوداته الحربية فى حرب القرم من قصر القيصر الروسى.
واستطاع تولستوى أن يستغل بعض فترات السلام أثناء وجوده فى الجيش، فعمل على تأليف قصة تروى سيرته الذاتية، أطلق عليها اسم «الطفولة»، وفى سنة 1852، قدم مسودة الرواية إلى مجلة « The Contemporary»، التى كانت تعد الأكثر شعبية وانتشارًا آنذاك، فوافقت إدارة المجلة على نشرها، لتصبح بالتالى أول مؤلفات تولستوى المنشورة.
وتمكن تولستوى من مواصلة تأليف الكتب حتى أثناء خوضه غمار حرب القرم؛ فقد نجح فى تأليف رواية «الصبا»، التى تعد تتمة لرواية «الطفولة».
كذلك، عبّر عن آرائه حيال التناقضات الصارخة خلال الحرب فى سلسلة كتبه التى حملت اسم «حكايات سيباستوبول»، ثم كتب رواية اسمها «القوزاق»، تروى يومياته داخل وحدته العسكرية، ولكنه لم يكملها إلا بعد مغادرته الجيش عام 1855.
حالما انتهت حرب القرم، غادر تولستوى الجيش وعاد إلى روسيا، حيث اكتشف مدى ازدهار شعبيته فى الساحة الأدبية فى بطرسبرج.
ورفض تولستوى الانضمام إلى أى مدرسة فكرية او أدبية، وأعلن عن اعتناقه «الفلسفة الفوضوية»، وغادر بعدها إلى باريس سنة 1857، ولكنه لم يمكث هناك طويلًا، فسرعان ما عاد إلى روسيا، لينجح فى نشر روايته «الشباب»، التى تعد الجزء الثالث من سيرته الذاتية. وفى عام 1862، أصدر تولستوى أول عدد من مجلته Yasnaya Polyana، وتزوج فى ذات العام من صوفيا أندرييفنا بيرز، ابنة أحد الأطباء.
وأخذ تولستوى بيت عائلته القديمة سكنًا له وملهمًا لكتابته، حيث تغيرت شخصيته بعد رجوعه من الحرب وأصبح أكثر قربًا الى الشعب والفلاحين، وأصبح يهتم أكثر بالبحث عن الوجود والحقائق الانسانية، وكانت هذه المبادئ الجديدة فى حياته دافع قوى لكتابة أولى سطور روايته الملحمية الرائعة «الحرب والسلام» التى نُشر جزؤها الأول فى مجلة «Russian Messenger» الأدبية سنة 1865. وبعد 3 أعوام أصدر 3 فصول أخرى، ليتبعها فى العام التالى بالجزء الأخير. وتعتبر هذه الرواية انعكاس فلسفى لآراء تولستوى، حيث تناولت الحرب وأبعادها النفسية على الشعوب كما تضمنت 3 فصول مهمة تطرق فيها تولستوى إلى قوانين التاريخ، وعبّر عن رفضه لها، وسخريته منها، كذلك عبر خلالها عن الوجود الانسانى وأفكاره عن الله والوجودية.
وقد حظيت الرواية بإعجاب منقطع النظير لدى الجمهور وأوساط النقاد، فقد كانت أحداثها بمثابة صورة تاريخية عن روسيا والمجتمع الروسى خلال الحروب النابليونية.  وبعد النجاح الساحق لرواية «الحرب والسلام»، عكف تولستوى على تأليف روايته الشهيرة الأخرى «آنا كارنينا»، وبالرغم من كون قصة الرواية خيالية، فإنها استمدت بعض أحداثها من حياة تولستوى الشخصية، ولاسيما علاقته مع زوجته أثناء فترة الخطوبة، ونُشرت الرواية على دفعات بدءًا من عام 1873 وحتى سنة 1877.

 

البحث عن الوجودية

 

على الرغم من الشهر الكبيرة التى حظى بها تولستوى خاصة بعد رواية «آنا كارينا» إلا أنه عانى من أزمة روحية بلغت حد الاكتئاب حيث كان تولستوى آنذاك منهمكًا فى محاولات حثيثة للعثور على إجابات لتساؤلاته عن معنى الحياة، فلجأ إلى الكنيسة الأرثوذكسية، وانغمس فيها وفى التعمق فى النصوص الدينية، كما عمل على ترجمة الأنجيل لعدد من اللغات التى كان يتقنها منها العبرية والفرنسية.
لكن سرعان ما نشب خلاف قوى بينه وبين رجال الكنيسة وقام بنشر آرائه المناهضة فى مجلة جديدة اسمها «The Mediator».
فى المقابل كان رد الكنيسة الأرثوذكسية هو حرمان تولستوى وإبعاده عن رعياتها ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد كان أيضًا خاضعًا لمراقبة الشرطة السرية خاصة بعد نشر أفكاره الفلسفية بين الكثيرين والبسطاء بشكل خاص.
وربما كان تولستوى عاكف على دراسة الكون بشكل أكبر وأعمق وهو الذى جعله يعكف على دراسة العديد من الديانات المختلفة، وكان يأخذ من هذه الديانات الرسائل والمبادئ الإنسانية.
ومن ضمن هذه الديانات كانت اليهودية والاسلامية.

 

وفاته

 

على مدار عقدى الثمانينات والتسعينيات من القرن التاسع عشر، واظب تولستوى على كتابة مؤلفاته، حيث أصدر رواية «وفاة إيفان إليتش» فى عام 1886، وبعدها كتب رواية «الأب سيرجي» سنة 1898، ورواية «البعث» 1899 التى كانت آخر رواياته الطويلة، وبالرغم من الثناء الذى نالته رواية البعث، فإنها لم تحظ بالنجاح الكبير لروايات تولستوى السابقة، ثم كتب رواية «الحج مراد» سنة 1904. قدّم تولستوى نفسه خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته بوصفه زعيمًا أخلاقيًا ودينيًا، فأثّرت أفكاره حول المقاومة السلمية للشر على شخصيات كثيرة من بينها المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينج، كما كانت له العديد من المكاتبات والخطابات بينه وبين الإمام محمد عبده.
ولم يكن الزعماء فقط هم من تأثروا بليو تولستوي، ولكن أصبح له مدرسة أدبية منفردة، وقد صرح الأديب العالمى نجيب محفوظ فى إحدى مقابلاته بأنه تمنى أن يكتب رواية مثل روايته الأشهر «الحرب والسلام» كما أصبحت روايته «آنا كارنينا» واحدة من أشهر الأعمال السينمائية التى تناولتها السينما العالمية على مر التاريخ.
وعلى مدار حياته، كان تولستوى الفيلسوف البسيط المشغول بقضايا الفلاحين والفقراء، وهو الأمر الذى جعله يتبرع بجزء كبير من مزرعته فى ولاية تولا لتكون مدرسة للفقراء وعملت بناته فى هذه المدرسة لتعليم أبناء الفلاحيين.
ثم جاءت فترة البحث عن شخصيته الجديدة، فبرغم كبر سنه 82 عامًا وبعد خلافاته مع زوجته وأسرته حول المال والحقوق الملكية لكتبه، حيث إنه رفض أن يعطى حق الملكية الفكرية لزوجته وأرادها أن تكون ملك للناس عامة، ولا تقتصر على أحد.
وهذه الخلافات أدت الى طلب تولستوى من إبنته ألكسندرا، البنت الأقرب الى قلبه، أن تتركه يذهب فى رحلة الى بيت أخته للبعد عن هذه المشاكل المادية والخلافات بين زوجته، وأوصى ابنته عند موته أن تدفنه فى غابة مزرعته وأن يدفن حصانه بجانبه بدون انشاء مقبره خاصة به وبدون أى من ملامح الترف على قبره.
وذهب تولستوى فى رحلته الى منزل أخته ماشيًا على قدميه لمدة 10 أيام حتى أصيب بالتهاب رؤى أمام محطة القطار وحمله فقراء المدينة الى بيته بعد منازعته الموت فى موكب كبير لوداعه حتى وصلوا الى منزله بمزرعة تولا فى 20 نوفمبر سنة 1910، وعملت بناته لتنفيذ وصيته، حيث دفن بجانب حصانه وبذلك، اختتمت مسيرة واحد من أهم الأدباء الروس والعالميين.

 

عطاء ما بعد الفراق

 

بعد وفاة الفيلسوف الإنسانى تولستوي، تم نشر روايته الأخيرة «الحاج مراد» وهى تروى قصة بطل شعبى من القوقاز، كرس حياته للدفاع عن أبناء موطنه.
وظهر فى هذه الرواية التأثر الواضح لملحة «ألف ليلة وليلة» التى طالما ظهرت خلال روايته السابقة، ولكن فى «الحاج مراد» عرض أيضًا أفكاره ضد الأمبراطورية الروسية.
كما عملت الحكومة الروسية على تحويل منزل تولستوى الى متحف عام، وعملت على عرض منزله كما تركه قبل رحيله، كذلك تم عرض العديد من أغراض تولستوى الشخصية، ومن أهم هذه الأغراض هو جهاز تسجيل صنعه له صديقة المقرب توماس أديسون، وقام تولستوى بتسجيل أشهر أقاويله ومبادئه على هذه التسجيل الذى وضع فى متحفه بعد ذلك وهو يحمل صوت تولستوى ودروسه الإنسانية الى العالم حتى وقتنا الحالى.