الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

على عطا: الإبداع هو التقاط ما يمر على الآخرين .. ولكل منا فوضاه الخاصة




صدر حديثا للشاعر على عطا ديوان «تمارين لاصطياد فريسة»، وقال عنه الشاعر شعبان يوسف رئيس تحرير سلسلة «كتابات جديدة» الصادر عنها الديوان: «رغم أنه مقل إلا أن قصائده محملة بأسى كبير ودهشة فادحة، ولذلك آثر أن يهدى ديوانه هذا إلى إبراهيم أصلان، ليختصر لنا الوقت الذى قد نبذله فى اكتشاف جوهر التجربة».. عن ديوانه الجديد ورأيه فى قصيدة النثر التى لازال الغموض يحيطها عند البعض حتى الآن، وقدرة الحداثة على فتح آفاق جديدة للإبداع، وغيرها من المواضيع، دار الحديث فى هذا الحوار:
 
 
 حدثنا عن ديوانك الجديد «تمارين لاصطياد فريسة»؟
- الديوان هو الثالث لى، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد ديواني: «على سبيل التمويه» صدر 2001 عن الهيئة العامة للكتاب، و»ظهرها إلى الحائط» صدر 2007 عن دار «شرقيات»، ويضم الديوان قسمين، الأول بعنوان «أرنو بعينين دامعتين وأشدو بصوت حزين»، والثانى بعنوان «تدفقي، فليس هذا أوان حبس الماء»، وحاولت فيه مواصلة تجربتى الخاصة مع قصيدة النثر، متكئاً على تصورى الشخصى لتواصل إنسانى مفتقد، خصوصا فى ظل ازدياد وطأة الواقع الافتراضي، وقد أهديت الديوان للكاتب الكبير الراحل إبراهيم أصلان، وفاءً لصداقة ربطتنا لأكثر من عشرين عاما، عملنا خلالها معا فى القسم الثقافى بجريدة «الحياة» اللندنية.
 
 ديوانان من أصل ثلاثة نشرتهما عن طريق «الهيئة» هل تفضل النشر الحكومى أو ترى فيه ميزة غير متوفرة فى الدور الخاصة؟
- لا أفضله، لكن له ميزة لا استطيع انكارها وهو انه لا يطلب مالا من المبدع، كما يفعل الناشر الخاص، بل يدفع له، فضلا عن أننى أثق فى أن الناشر الحكومى يطبع على الأقل ثلاثة آلاف نسخة من الكتاب، وهو ما لا أثق فى أن الناشر الخاص يفعله، لكن يبقى أن الناشر الخاص يهتم بالكتاب شكلا ومضمونا ويلتزم بموعد محدد للنشر، أو هذا على الأقل ما خرجت به من تجربة إصدار ديوان «ظهرها إلى الحائط» عن دار «شرقيات».
 
علق شعبان يوسف فى مقدمة الديوان على قلة إنتاجك.. هل ترى نفسك مقلا فعلا ولماذا؟
- لا أعتبر نفسى مقلا، ولكننى بالفعل نادرا ما أكتب، حتى بالنسبة إلى عملى الصحفى، ولا أعرف سببا محددا لذلك، وما يعتبره البعض إقلالا، أعتبره أنا أمرا طبيعيا، مع أنى أعرف أن وصف البعض لى بأنى مقل قد ينطوى على مدح.
 
- ما الذى يغرى الشاعر على عطا بالقصيدة والإبداع.. هل هو الحاضر، أم الماضي؟ وهل تكفى الحداثة التقنية لوصفنا أم ينبغى البحث عن شيء آخر؟
 ربما يكون النقاد هم الأقدر على الإجابة على هذا السؤال المركب من واقع قراءاتهم لما أكتب. ومع ذلك يمكننى القول إننى لا أتعامل مع الشعر إبداعاً تعامل المحترفين، وربما يفسر ذلك كونى مُقِلاً. نعم هناك شعراء محترفون بمعنى أن بمقدورهم تحديد أوقات لكتابة الشعر وتحديد أغراضه وما إلى ذلك، ويتجلى هذا فى مسابقات تُبثُ تليفزيونياً مثل «شاعر المليون»، و»أمير الشعراء»، وهو أمر قديم فى التراث العربي، وما يغرينى وفقاً لصيغة سؤالك هو الفرح العارم الذى يترتب على ولادة قصيدة جديدة لي، لإحساسى بأنها الوسيلة الأهم والأصدق للتعبير عن ذاتى وعن موقفى من العالم، أما الحداثة التقنية فهى فضاء ينقل من وجهة نظرى الإبداع الأدبى المعاصر إلى أفق جديد، وليس صحيحاً أنها كافية للاتكاء عليها وحدها فى اكتساب الخبرات، ومن ثم التعبير عنها بأى صورة إبداعية.
 
برأيك.. هل يمكن للشاعر أن يعيش بلا قضية؟
- الإنسان عموماً لابد أن يكون مشغولاً ومهموماً بقضايا عديدة، لا مجرد قضية واحدة، وهذا ما يميزه عن باقى الكائنات ربما، لكن الشاعر –والمبدع عموماً- قد يكون أقدر من غيره على التوقف عند أشياء تمر على غيره مرور الكرام، ومن ذلك مثلاً الموقف الذى تعبر عنه قصيدة «ظهرها على الحائط» والتى أخذت من عنوانها عنوان ديوانى الثاني، وهو موقف امرأة فقيرة يصدمها قول حبيبها لها وهما فى لحظة حميمة إنه مثل شقيقها، معتقدا أن ذلك سيسهل عليها قبول مبلغ من المال أراد أن يساعدها به، فإذا بذلك يذكرها بأن الذى اقتطف عذريتها وهى طفلة لم يكن سوى شقيقها.  
     
 هناك تداخل فى قصائدك بين الرؤى الشعرية والعناصر الحكائية.. رغم مرجعية اليومى والمعيش فى القصيدة.. كيف تفسر ذلك؟
- اليومى والمعيش مطروقان فى الشعر منذ أن عرف الإنسان الشعر، حتى لا يقال إن الأمر مرتبط وحسب بقصيدة النثر فى تجليها الأحدث، وينطبق الأمر كذلك على السرد أو «العناصر الحكائية فى إطار القصيدة، فضلاً عن أننى مولع بشكل شخصى بالحكي، خصوصاً المكثف منه، سواء فى القرآن الكريم، و»ألف ليلة وليلة»، أو لدى روائيين وكُتاب قصة من عينة يحيى حقى ويوسف إدريس وإبراهيم أصلان ومحمد البساطى وبالطبع يحيى الطاهر عبد الله لدى هؤلاء الشعرية حاضرة فى إبداعهم السردي، وعندى السرد حاضر فى الشعر، وهى سمة تميز على أية حال تياراً عريضاً من شعراء قصيدة النثر فى تجليها الأخير سواء فى مصر أو غيرها من البلاد العربية.
 
 هل تسعى لإنشاء نظام لفوضى العالم والأشياء؟
- الفوضى لا تحتاج إلى من ينشئها، فهى موجودة طوال الوقت بالنسبة إلى العالم والأشياء، وفقاً لصيغة السؤال. هذا لا يمنع أن تكون لكل منا فوضاه الإبداعية الخاصة والمرتبطة بالتأكيد بنظرته إلى العالم والأشياء وإلى ذاته أساساً وما يعتمل داخلها من هواجس وهموم وانشعالات وآمال واحباطات. أجمل ما فى الشعر هو تلك الفوضى وليدة التوتر والإنفعال الجياش والصخب الداخلى الذى لا يهدأ إلا بعد ولادة القصيدة.
 
 هناك اتكاءات عديدة فى قصائدك، وكأنك تهرب من القول المباشر لإحالته الى حيوات أخرى لأشخاص آخرين.. ما رأيك؟
- هناك اتكاءات عديدة بالضرورة فى قصائدى، ولكن ليس هروباً من القول المباشر، أصلاً المباشرة هى أمر ضد الشعر، وإذا تضمنتها قصيدة فإن ذلك يعد أمراً معيباً يؤاخذ عليه الشاعر، وإن حدثت فى النهاية فإنها تكون فى أضيق نطاق ممكن بالتأكيد. أما الإحالة إلى حيوات أخرى، فإنها أيضاً ليست هروباً، فالشعر فى صورته التقليدية يحتمل الترميز والصور البديعية وغيرها من تجليات البلاغة العربية. أظنك تقصد بالحيوات الأخرى تجارب ذوات أخرى بخلاف الذات الشاعرة، وهذا أمر وارد، بل هو موجود فعلاً فى أعمالي، هى تجارب وجدتُنى أتوقف عندها لارتباطى بأبطالها ارتباطاً معنوياً قوياً، مع أن بعضهم لم أعرفه بعمق سوى فى لحظة بعينها فرضت الكتابة عنه أو بالأحرى عن موقف بالذات ترك أثراً معنوياً فادحاً فى نفسى.
 
 برأيك، هل الكتابة عن الغير أسهل من الكتابة عن الذات؟
- الكتابة فى حد ذاتها عمل صعب للغاية. أتكلم هنا عن الكتابة عموماً، فما بالك بالكتابة الإبداعية، وكتابة الشعر بالأساس التى هى فعل يرتبط بتوتر مُهلِك، من وجهة نظري. بالتالى لا مجال لكتابة سهلة، سواء تعلق الأمر بالذات أو بالآخرين. كما أن الفصل هنا بين الذات والغير - من وجهة نظرى أيضاً - هو أمر يكاد أن يكون مستحيلاً، فالكتابة عن الغير هى فى اعتقادى لابد أن تمر على الذات، أى أن منطلقها ينبغى أن يكون ذاتياً، وإلا لن يكون لها معنى. نحن هنا نتحدث عن الشعر، عن كتابة الشعر، وليس أى جنس أدبى آخر.
 
 أنت مولع بقصيدة النثر رغم ارتباطها بالذائقة الأجنبية وغير نابعة من التراث العربي. بوصفكم أحد كتابها فأنت فى موضع تساؤل؟
- افتراضاتك هذه ليست صحيحة بالضرورة، أنا مولع بالشعر باعتباره أداتى فى التعبير عن ذاتى وهمومها، أقول الشعر وليس «قصيدة النثر»، فهذا مجرد مصطلح إجرائى لتمييز الشعر الذى يُكتب على غير النمط الذى تعارف عليه الناس طويلاً، نمط الشعر الموزون والمُقفى. وحتى الكتاب الذى رسخ هذا المصطلح عالمياً والذى وضعته سوزان برنار وترجمته راوية صادق إلى العربية بمراجعة رفعت سلام، يرجع بقصيدة النثر الغربية إلى القرن الميلادى التاسع عشر، وفى مقابله هناك أبحاث عربية تؤكد أن العرب عرفوا الشعر غير الموزون والمقفى قبل الغرب. بالتالى ذائقتنا العربية استساغت الشعر غير الموزون والمقفى باعتباره من تراثنا. ولكن الذى ساد حتى وقت قريب عربياً هو الشعر الموزون والمقفى لأسباب لا مجال هنا للخوص فيها.
 
هل تؤمن بقدرة قصيدة النثر على تغيير الذائقة العربية المعاصرة؟
- الشعر أكبر من حصره فى مصطلح بعينه، ومع ذلك أود أن أقول هنا إن شعر «قصيدة النثر»، ليس هو كل شعر متحرر من الوزن والقافية، فالأمر أكثر تعقيداً من ذلك، لنقُل إن الشعر فى تجليه الأخير يتضمن طريقة نظر إلى العالم مختلفة، أغراضه مختلفه، وكذلك حساسيته تجاه الأشياء، وبالتالى هو فى حاجة إلى رسوخ أكبر وأطول لاستساغته، فيصبح هو لغة الغناء ولغة المسرح، ومن ثم يمكن أن تتغير الذائقة العربية المعاصرة التى أصبحت على مسافة بعيدة من الشعر عموماً، سواء كان موزوناً مقفى، أو قصيدة نثر.
 
 تنتمى إلى جيل الثمانينيات - المظلوم  شعرياً ونقدياً - ما الإضافات التى تشعر أن جيلك أضافها إلى المتن الشعرى الحديث؟
- مسألة الجيل هذه ملغزة إلى حد كبير، فعمرياً أنا بالفعل أنتمى إلى جيل الثمانينيات، بحكم أننى مولود عام 1963، لكننى -على صعيد التجربة الإبداعية- أنتمى إلى جيل التسعينيات، بحكم أن احتكاكى بشعراء هذا الجيل كان أكبر، وجاء نشر ديوانى الأول بعد أن نشر كثير من رموز ذلك الجيل نفسه دواوينهم الأولى، وما يميزنا أننا بدأنا بقصيدة النثر مباشرة ولم نتحول إليها كما هو الحال بالنسبة إلى الجيل الذى سبقنا، وما أضافه جيلى الأدبى هو أنه غامر بالخوض فى غمار قصيدة النثر وراهن عليها فجذب شعراء حقيقيين من الجيلين السابقين عليه ليكتبوها، وأفسح المجال أمام شعراء من جيلين لاحقين لينضموا إلى الركب، فأصبحنا أمام تيار جارف اهتز أمام قوة هديره عرش الشعر التقليدي، وبات هذا التيار هو المتسيد للمشهد الشعري، وتمت ترجمة ذلك فى التشكيل الأخير للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، فتمثل فيها بقوة عبر إبراهيم داود وعاطف عبد العزيز وجيهان عمر وجمال القصاص وفريد أبو سعدة، على حساب أحمد عبد المعطى حجازى ومحمد إبراهيم أبو سنة وأحمد سويلم وحسن طلب.
 
العمل بالصحافة هل أضاف لتجربتك الشعرية أم كان عبئا وعائقا أمام انطلاقها؟
- هناك شعراء كثيرون يعملون بالصحافة، وهم متحققون أدبياً ويعرفهم الناس باعتبارهم شعراء أكثر ما يعرفونهم باعتبارهم صحافيين، ومن أمثلة هؤلاء الراحل حلمى سالم، ورفعت سلام وأحمد الشهاوى وعزمى عبد الوهاب وغادة نبيل ويسرى حسان وعماد أبو صالح وعماد فؤاد. ويقال إن العمل بالصحافة يعطل المواهب الأدبية، وهو قول ليس صحيحاً على إطلاقه، بالنظر إلى الأمثلة التى ذكرتها آنفاً. ولحسن الحظ أن الصحافة الثقافية هى مجال عمل معظم هؤلاء، إن لم يكن مجال عملهم جميعاً، وهذا بالطبع يساعد فى إثراء تجاربهم الإبداعية، وأرى أن العمل الصحافى لم يعطل مشروعى الشعرى، وبالتأكيد أفادنى ذلك العمل بميزة التكثيف والتدقيق.
 
هل كتبت القصيدة التى تحلم بها؟
- ليس بعد. ما دمت أحلم بها فإننى لم أكتبها بعد بالتأكيد. العمر نفسه، من وجهة نظري، ليس ذاك الذى انقضى، بل هو الذى لم نعشه بعد، والقصائد التى كتبتها ليس بينها القصيدة التى أتمنى أن أتمكن من كتابتها يوماً ما.