الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

بعد 47 عاما على رحيل صاحب " المجنون الاخضر" :مزورو اللوحات يطاردون عبد الهادى الجزار رائد السيريالية المصرية





يشهد شهر مارس الذكرى الثامنة والثمانين لميلاد الفنان عبدالهادى الجزار (1925 - 1966) والسابعة والأربعين لوفاته .. وبين التاريخين 41 عاما حصاد حياته، التى كانت رغم قصرها ثرية فنيا برسومه بالحبر الشينى والرصاص ولوحاته الزيتية وأزجاله وأشعاره الصوفية، تاركا خلفه توليفة فنية تعكس التكوين الوجدانى الربانى للجزار الذى جمع بين أكثر من موهبة فنية.
 
الموهبة التشكيلية كانت المتصدرة لمواهب الجزار، حتى تصدرت لوحاته اليوم مزادات الفن التشكيلى فى العالم، الأمر الذى حفز عددا من محترفى تزوير الأعمال الفنية على إنتاج عدد ليس بالقليل من لوحاته، التى تكتشفها دوما عائلة الجزار –زوجته وبناته– من مقتنى اللوحات الذين يأتون لعرض اللوحات عليهم للتأكد من حقيقة نسبتها للجزار من عدمه، حتى عن طريق الإيميل لمقتنين من خارج مصر كذلك الحال مع قاعتى «سوثبي» و«كريستي» اللتين تتابعان العائلة بما يستجد من لوحات للجزار، عن آخر وقائع التزوير للوحات الجزار التى قابلتها السيدة ليلى عفت زوجة الراحل كانت لوحة له بالحبر الشينى فى متحف الفن الحديث ضمن مقتنياته بالمتحف التى أخرجتها المديرة السابقة للمتحف سلوى حمدى العام الماضى فى معرض «ذكرى» فى احتفال وزارة الثقافة وقطاع الفنون التشكيلية بذكرى الجزار، لتفاجئها السيدة ليلى بطلب رفع هذه اللوحة من العرض لأنها ليست من أعمال الجزار!
 
تستكمل السيدة ليلى قائلة: فوجئت بهذه اللوحة ركيكة المستوى فى الرسم والخط وكذلك بدون إمضاء الجزار عليها وهو ما لم يفعله أبدا، فطلبت من سلوى برفعها فورا من العرض لأنها ليست للجزار مطلقا وتسىء لتاريخه الفنى الذى أسعى جاهدة للحفاظ عليه من واقع احترامى لهذا التاريخ، وطلبت منى سلوى كتابة مذكرة شكوى للقطاع للتحقيق فى وجود هذه اللوحة ضمن المقتنيات وبالفعل قامت سلوى برفعها لمدير عام المتاحف الفنية، لكن حتى الآن لم يصلنى أى رد فى هذا الشأن، وفى كل مرة أستفسر بهذا الشأن لا أجد ردا شافيا ولا أعرف حتى عدد لوحات الجزار بالمتحف ولا أراها معروضة بالعرض المتحفى بمتحف الفن الحديث.
 

 
كان هذا ما صرحت به أرملة الجزار، ويرد عليه الدكتور صلاح المليجى رئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، لبيان المستجد بشأن هذه الشكوى قائلا: يستحيل أن تكون هذه اللوحة مزورة بحسب زعم أرملته، لأنها مقتنيات الوزارة منه شخصيا قبل وفاته، وليست مشتراه عبر مقتنى أو تجار اللوحات الفنية مما يعنى أنها حقيقية وسليمة، وليس معنى أن أحدا من عائلة الفنان لم ير لوحات له من قبل أنها مزورة، ويتم التشكيك فى مصداقية وأمانة القطاع فى الحفاظ على ثروة مصر الفنية.
 
وعن هذه الثروة الفنية لمصر سألنا المليجى كفنان أعماله معرضة للتزييف، وكمسئول أول عن هذه الثروة الآن، عن مدى إمكانية الحد من التزييف المستمر للأعمال وتداولها جهرا بالقاعات ولدى تجار الفن، فأفاد أنه أمر يصعب الحد منه، لكن الفيصل فى ذلك هو ما تقوم به إدارة الترميم بالقطاع التى يلجأ إليها بعض من مقتنى وتاجرى الأعمال الفنية للتحقق من أصلية اللوحة، إنما إيجاد صيغة قانونية أو طريقة للكشف عن المزورين فى ظنه أنها صعبة!
 
لماذا تصدرت لوحات الجزار مزادات العالم وتباع بأغلى الأسعار؟ ... تميزت أعمال الجزار ابن الإسكندرية الذى انتقل مع أسرته فيما بعد إلى القاهرة ليستقر فى حى السيدة زينب، باهتمامه الواضح بالتراث الشعبى وألوانه القوية المستمدة من الروح المصرية الخالصة التى كان يعبر بها عن عوالم الدجل والسحر والشعوذة، إنما بأسلوب لافت فى التكوين واختياره للقطات شخوصه الفاعل الرئيسى فى كل لوحاته، تعبيرا عن مشكلة البسطاء أو الطبقة الشعبية من المصريين، التى كانت تتحرك بكل طاقتها نحو الدجل والسحر أملا فى تحقيق أحلامها البسيطة التى ضغطت عليها الأنظمة السياسية بتجاهلها لهؤلاء وتحقيق الحد الأدنى من احتياجاتهم الإنسانية فى العيش حياة كريمة، فلم يقصد الجزار من وراء لوحاته البحث أو النبش فى حقيقة هذه العوالم الخفية فى المجتمع والتى تعتبر عوالم مثيرة وشيقة لمن لا يعرفها، إنما أراد بها تنبيه المجتمع والأنظمة إلى جريمته الكبرى بحق القاعدة العريضة من المجتمع.
 
تابع الجزار دراسته فى القاهرة بمدرسة الحلمية الثانوية دروس نادى الفنون التى ينظمها الفنان حسين يوسف أمين 1940، وفى عام 1942 بدأ الجزار يتردد على القسم المصرى بمعهد الآثار، وبعد زواجه استقر فى حى المنيل إلا أنه ظل يذهب باستمرار إلى السيدة زينب، فى 1954 تزوج عبد الهادى الجزار من ليلى عفت وهى من أقرباء حسين يوسف أمين، وفى 1949 اعتقل كل من الجزار وأمين بسبب لوحة «الوجبة» أو «مسرح الحياة» ولم ينقذهما إلا بعد تدخل محمود سعيد ومحمد ناجى، حصل الجزار على منحة دراسية من الحكومة الإيطالية لمدة عام قضاها بروما 1954، ثم حصل على منحة دراسية ثانية ليقضى أربع سنوات فى إيطاليا 1956، ثم منحة من الحكومة المصرية لدراسة الترميم والتكنولوجيا والفرسك بروما، ثم منحة التفرغ من وزارة الثقافة والإرشاد القومى عام 1965، كان يقوم بتدريس التكنولوجيا والترميم والفرسك بكلية الفنون الجميلة بعد عودته من البعثة، كما قام بالتدريس لطلبة مرسم الأقصر الذى كان بمثابة الدراسات التكميلية لطلبة الكلية، أتقن الجزار اللغة الإنجليزية التى كتب بها بعض مقالاته وترجم عنها بعض الكتب الفنية، كان يتكلم أيضا باللغة الإيطالية والفرنسية والألمانية ودرس الهيروغليفية فى معهد الآثار، وسجلت لقاءات معه فى برامج فنية فى الراديو والتليفزيون فى إيطاليا ومصر، إضافة لاستضافته كمتحدث فى ندوات ومحاضرات فى كلية الفنون الجميلة والتربية الفنية والفنون التطبيقية، وله مجموعة من الأشعار والأزجال الشعبية وكتب بعض القصص للأطفال مع عمل رسومها، من مواهبه أيضا كتابة القصة القصيرة، وله قصتان هما «دكان الحلاق» و«خروج الروح»، كما درس الموسيقى العربية على يد الموسيقار عبد المنعم عرفة، وكان يعزف على العود وقد رشح للظهور فى الحفلات الفنية، وكان ترتيبه الأول من قبل «المكتب الشرقى للتسجيلات الفنية سنة 1953». من ميراثه الثقافى أيضا أبحاثه فى الفنون الشعبية، وكان عضوا دائما يكتب فى مجلة البريد الإسلامي، واشترك فى تقديم البرامج الفنية فى مجلة «الصوت العربى» بمجلة هيئة الاذاعة العربية براديو روما، وكان له قراءات فى العلوم والرياضيات التى تتحدث عن التكنولوجيا والخيال العلمى وله تجارب كثيرة فى الرسوم التجريبية الناجحة كما كان يحافظ على تلاوة القرآن الكريم وله بعض التسجيلات بصوته.
 
الفنانة والناقدة الدكتورة إيناس الهندى التى أصدرت كتاب «عبد الهادى الجزار قراءة فى وجدان شعب» عن المجلس الأعلى للثقافة، تقول عن معايشتها لأعمال الجزار الباقية بمنزله بالمنيل: حين دخلت منزل الجزار أول مرة انتابنى إحساس بالرهبة شأن المرة الأولى التى وقفت فيها أمام لوحة «الرجل والقط»، شعور خليط من الحيرة والغموض وتسمرت فى مكانى، أخرجنى من تلك الحالة الترحاب الشديد الذى استقبلتنى به أرملة الفنان الراحل «مدام ليلى عفت».
 
وتستكمل الدكتورة إيناس: بدأت مدام ليلى تفتح لى كل أبواب المعرفة التى نهلت منها بشغف، فتجولت بين أوراق الجزار الخاصة، ومذكراته، وكل قصاصات الأوراق المحفوظة بعناية، وقمت بترتيب تلك الأوراق كأنما أرتب أوراق أحجية أو لغزا، لأعرف الحل.. ولأعرف من هو الجزار؟
وكلما عرفت اشتقت لمعرفة المزيد عن ذلك الفنان الأسطورة، ذلك الصوفى الغارق فى الوجد الإلهى..
 


 

وتواصل: يعرف الجزار نفسه بكل فخر أنه «فنان سكندرى»، وينطقها وهو يعتز بسكندريته، وتحس عشق البحر يسكن وجدانه؛ غمرنى هذا الشعور وأنا أسمع صوته لأول مرة وهو يتحدث فى حديث اذاعى مسجل على شريط ربع بوصة محفوظ لدى عائلته، وأصابنى بشعور من الرهبة.. ها أنا ذا أستمع الى صوته لأول مرة بعد ثمانى سنوات من بداية البحث والكتابة عنه..
 
وأجدنى أصاب بقشعريرة خفيفة؛ هذا الفنان الذى عرفت عنه الكثير من خلال أوراقه الخاصة ولوحاته ومنزله.. أسمع صوته أخيرًا.. صوتاً قوياً، واثقاً، غامراً، نافذاً إلى العمق يتحدث بكل ثقة فى هذا التسجيل الذى كان بمناسبة حصوله على جائزة الدولة التشجيعية.
حين تسمع صوت الجزار فى تسجيل آخر يتلو القرآن تأخذك الرهبة وتستشعر أنك انتقلت إلى مكان آخر عميقاً، بعيداً يتعلق قلبك بالصوت وتتوقف أنفاسك مع توقفه صوت قوى ملىء بالشجن يتلو آيات من سورة الإسراء فى تسجيل خاص بالعائلة.
 
كان الجزار لا يكف عن الإبداع.. يرسم ويكتب فى كل الأوقات، يحمل الكثير من الطاقة الإيجابية ويوزعها على المحيطين، كان شعلة من النشاط ينام ساعات قليلة –تصل إلى أربع ساعات– وباقى اليوم إبداع ورسم وغناء وكتابة وتلاوة قرآن وبحث وقراءة.
وكتابات الجزار أشبه برسمة غارقة فى الأجواء الشعبية والزجل والإبداعات الصوفية محملة بزخم من حالات الوجد والصور الشعرية والجمالية والوصفية، إن إبداعات الجزار تشكل ضفيرة متماسكة من خصائص مشتركة سواء كانت رسما، أو شعرا، أو قصة.