الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
"نظيف" والسد العالي!
كتب

"نظيف" والسد العالي!




 


كرم جبر روزاليوسف اليومية : 09 - 03 - 2010


الحكومة تتعامل مع إنجازاتها علي طريقة "المطار السري"


1


السؤال الذي أطرحه هو: "لو" تم إنشاء السد العالي في أيام حكومة الدكتور نظيف، هل كان يحظي بالاهتمام الرهيب، الذي جعل البلد كله يغني من أجل السد العالي ويحارب من أجل السد وتلتف حوله القلوب والحناجر؟

ألح السؤال علي ذهني أثناء جلوسي علي منصة قاعة الاحتفالات الكبري بجامعة أسيوط التي تتسع لأكثر من ألف شخص، وأقيمت فيها ندوة مهمة حول مرور 50 عامًا علي إنشاء السد، شاركت فيها مع الوزير حسب الله الكفراوي.
قبل أن أجيب عن السؤال، أسجل بعض الانطباعات عن أسيوط والجامعة أهمها:
أولاً: العلاقة الطيبة بين المسئولين في المحافظة والتناغم بين الجامعة والمحافظ الذي يجعل الجامعة في خدمة المجتمع.
2
ثانيا: حرص محافظ أسيوط اللواء نبيل العزبي علي دعم ومساندة الجامعة بكل الصور، وكان من المفترض أن يكون علي رأس الندوة، لولا الأزمة الصحية التي ألمت به ودخل علي إثرها مستشفي دار الفؤاد بالقاهرة.
ثالثًا: إن جامعة أسيوط في عهد رئيسها الحالي الدكتور مصطفي كمال تحولت إلي منارة للثقافة والعلم والوعي والتنوير في الصعيد، تلك الجامعة التي كانت في سنوات سابقة هي قلب مصر الذي ينبض بالإرهاب.
رابعًا: اهتمام الجامعة بالتواصل الحضاري والثقافي مع المجتمع والتركيز علي دعوة شخصيات مهمة في مختلف المجالات للالتقاء بالطلاب، ويشرف علي هذا البرنامج المهم الدكتور محمد عبدالسلام عاشور نائب رئيس الجامعة.
3
أعود للسؤال المطروح بداية وأقول: إن الوزير الكفراوي الذي كان أحد المهندسين المهمين في بناء السد العالي، طاف بالحضور حول ذكريات جميلة لملحمة بناء السد العظيم.
تحدث الكفراوي للطلاب عن الإرادة الصلبة التي تقهر المستحيل، التي دفعت أجيال الشباب من المهندسين للعمل في درجة حرارة 50 مئوية تحت الشمس الحارقة، لأن الدافع المعنوي كان أكبر من كل شيء.
تحدث الكفراوي عن ثلاثة أشياء مهمة تضمن نجاح أي عمل هي نظافة القلب والعقل واليد، فهذه هي الوصفة السحرية لقهر المستحيل وتحدي المشاكل والعقبات.
4
تحدثت في الندوة عن معادلة صعبة، هي أنه كلما أصبحت مصر قوية تعرضت للتآمر الخارجي، لضرب قوتها وإعادتها لنقطة الصفر، مثلما حدث مع محمد علي وجمال عبدالناصر.
عندما تقوي مصر ويشتد عودها تقود المنطقة بل العالم كله، وتفجر الثورات هنا وهناك، ويمتد نفوذها خارج حدودها، فتتعرض للضربات والمؤامرات، ولا يتركها الغرب أبدًا.
محمد علي باشا كاد يعلن قيام الإمبراطورية المصرية فتمت تصفية نفوذه، وجمال عبدالناصر اهتم ببناء دولة قوية اقتصادياً، فتمت جرجرته إلي الحرب مع إسرائيل التي لم تكن في حساباته.
5
لم يكن السد العالي مجرد مشروع اقتصادي أو أهم بناء هندسي في القرن العشرين فقط، ولكن الدولة المصرية نجحت في تسويقه للمصريين ماديا ومعنويا، فآمنوا أن الحياة بدون السد العالي مستحيلة.
كنت صغيرًا في وقت بناء السد العالي، وكنا نسمع "حكايات وأساطير" عن الكهرباء التي ستصبح بمليم والخير الذي سيعم مصر كلها، والحياة الرغدة التي تنتظر المصريين بعد السد.
السد العالي صار ملحمة في الأفلام السينمائية والأغاني الوطنية والقصص والروايات والإذاعة والتليفزيون "الحكاية مش حكاية سد.. حكاية شعب".. و"إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر".
6
من أجل السد العالي قامت مصر بتأميم قناة السويس، بعد أن رفض البنك الدولي تمويل المشروع، فرد لهم عبدالناصر القلم قلمين.. وجن جنون الدول الكبري، وقامت بالعدوان الثلاثي.
العدوان الثلاثي هو الذي صنع أسطورة عبدالناصر وشعبيته الجارفة، ونجحت مصر في توظيف "الانتصار السياسي" ليحل محل "الهزيمة العسكرية"، واتحد الشعب وراء الثورة بشكل غير مسبوق في التاريخ.
انكسرت فرحة السد، بعد هزيمة 67، والمشروع الذي ولد عظيمًا في سنة 1960، تم الانتهاء منه "يتيمًا" سنة 1970، وضاعت فوائده في تداعيات الهزيمة وآثارها المفجعة.
7
أريد أن أقول إن السد العالي لو تم إنشاؤه أيام الدكتور نظيف ما اهتم به أحد، بل كان سيواجه هجومًا ضاريا وتشكيكًا رهيبًا، ودعاوي قضائية أمام مجلس الدولة لوقفه وعدم البدء في إنشائه.
الزمن غير الزمن، والشعب غير الشعب، والإعلام غير الإعلام، والحياة لم تعد الآن تسير في اتجاه واحد.. بعد أن احترف البعض السير في عكس التيار.
لو كان السد في عهد نظيف لهلهلته الفضائيات، التي تحتفل به الآن علي طريقة "اذكروا محاسن موتاكم"، أو من قبيل التنابز بالمشروعات، والمقارنة الظالمة بين الزعماء.
8
كانوا يتحدثون عن أن السد العالي سوف يستصلح مليوني فدان، والآن أضيفت للرقعة الزراعية أكثر من خمسة ملايين فدان في الصحراء.. ومن لا يصدق عليه أن يذهب مثلاً لطريق الإسكندرية الصحراوي.
250 كيلو مترًا علي جانبي الطريق تحولت إلي أكبر مزرعة في الشرق الأوسط للنخيل والفواكه والخضروات، ولا تعتمد في ريها علي مياه النيل بل المياه الجوفية، بعيدًا عن مياه النيل.
عشرات من محطات الكهرباء التي تنتج الواحدة منها فقط مثل ما ينتجه السد العالي.. ورغم كل ذلك تنشأ هذه المشروعات سرًا وتنتج سرًا، وكأنها المطار السري في أيام الحرب.
9
الزمن غير الزمن، ومن المستحيل أن يتم حشد الشعب المصري كله وراء مشروع واحد مثلما حدث مع السد، ولن تجد عبدالحليم أو أم كلثوم أو محمد قنديل يغني مثلاً لشرق العوينات.
من المستحيل خلق إعلام تعبوي في عصر الفضائيات.. ولكن يمكن علي الأقل صناعة إعلام محايد، حتي لا تدفن المشروعات المهمة في مقبرة الصمت، وحتي لا تتجسد الأخطاء الصغيرة تحت الأضواء الشديدة.
لو كان نظيف هو رئيس وزراء السد، لاستمتع علي الأقل بالمديح الذي حظي به رجال السد.. ولكن مصر الستينيات غير مصر الآن، حتي لو بنينا كل يوم سداً.


E-Mail : [email protected]